سياسة

مقالات مختارة تناولت مؤتمر بغداد ومستقبل المنطقة

——————————–

هل لمؤتمر بغداد مستقبل؟/ حسن نافعة

انعقد في بغداد يوم السبت الماضي (28 أغسطس/ آب 2021) مؤتمرٌ أقل ما يمكن أن يقال فيه إنه كان فريدا من نوعه، فهو لم يكن مؤتمرا لقمّة عربية، لأن جامعة الدول العربية ليست الجهة الداعية إليه، ولم تشارك حتى في تنظيمه أو في اقتراح جدول أعماله. صحيح أن أمينها العام كان حاضرا ومشاركا فيه، ولكن بوصفه ممثلا لمنظمة إقليمية مدعوة للمشاركة مراقبا، شأن منظمات دولية أخرى، كالأمم المتحدة أو منظمة المؤتمر الإسلامي. ولم يكن مؤتمرا للدول الشرق أوسطية، لأن دولا عديدة واقعة في هذه المنطقة لم توجّه إليها الدعوة أصلا، بينما دعيت إليه، في الوقت نفسه، دول من خارجها وبعيدة عنها. ولم يكن المؤتمر لدول الجوار العراقي، لأن بعض أهم الدول المجاورة للعراق جرى تجاهلها عن عمد (بسبب تهديد دول أخرى بمقاطعة المؤتمر إن وجهت لها الدعوة). الأغرب من ذلك كله أن المؤتمر انعقد تحت شعار التعاون والمشاركة، ثم أطلق عليه “مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة”، على الرغم من أن الطابع الصراعي لا يزال السمة المميزة للعلاقة بين دول عديدة مشاركة فيه، ومن ثم لم يكن في مقدور أحد أن يحدّد نوعية التعاون أو طبيعة الشراكة المطلوبة أو المستهدفة أو أطراف هذه الشراكة. لذا، من الطبيعي أن يثير انعقاد هذا المؤتمر تساؤلات كثيرة، وربما لغطا أكثر، بشأن حقيقة أهدافه، وأيضا بشأن نتائجه المتوقعة وتأثيراته المحتملة على مسار التفاعلات في المنطقة في المرحلة المقبلة. أمران أثارا الاستغراب في هذا المؤتمر أكثر من غيرهما: مشاركة فرنسا فيه، وغياب سورية عنه.

لم تكن فرنسا الدولة الوحيدة المدعوة من خارج المنطقة للمشاركة في المؤتمر، لكنها لعبت على ما يبدو دورا رئيسيا في الإعداد له وفي تحديد جدول أعماله، ومن ثم ثارت تكهنات كثيرة عما يمكن أن تكون عليه دوافعها الحقيقية، وما إذا كانت جاءت لتمثل نفسها في هذا المؤتمر أم نيابة عن المعسكر الغربي كله، وبالتالي مفوّضة من الإدارة الأميركية للقيام بدور يخصّ الاستراتيجية الغربية في المنطقة. إذ يرى بعض المعلقين أن فرنسا، وبعد أن بدأت تستشعر وجود فراغ في المنطقة، خصوصا بعد انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان واحتمال انسحابها من العراق خلال الأمد المنظور، تسعى إلى ملء هذا الفراغ بما يتفق مع أجندتها ومصالحها هي في المنطقة، وليس بالضرورة وفقا لأجندة حلفائها الغربيين ومصالحهم في الوقت نفسه. لذا يرى هذا الفريق أن مشاركة فرنسا في مؤتمر بغداد امتدادا لتحرّكاتها ومبادراتها أخيرا تجاه لبنان، خصوصا عقب حادث الانفجار في مرفأ بيروت. غير أن آخرين يرون أنه ما كان في مقدور فرنسا أن تقوم بالدور الذي قامت به في الإعداد لمؤتمر بغداد بدون تشاور مسبق مع الإدارة الأميركية. ومن ثم يعتقد هذا الفريق أن انعقاد هذا المؤتمر يتّسق تماما مع سياسة إدارة بايدن تجاه منطقة الشرق الأوسط، فللإدارة الأميركية مصلحة واضحة في إبعاد العراق عن القبضة الإيرانية، وفي تمكينه من التحول من ساحة للصراع على النفوذ بين دول إقليمية متنافسة، خصوصا إيران وتركيا وإسرائيل، إلى دولة قادرة ليس فقط على مد جسور التعاون مع بقية دول الجوار، وإنما أيضا على أن يكون لها دور أكبر ومستقل في تهدئة الصراعات المشتعلة فيما بينها. صحيحٌ أن فرنسا ربما تشارك الولايات المتحدة الرؤية والأهداف نفسيهما، لكنها تعتقد أنها ربما تكون أقدر من الولايات المتحدة على تحقيقها، وعلى لعب دور لا يمكن للولايات المتحدة أن تقوم به في المرحلة الراهنة التي تشهد تراجعا أميركيا واضحا على الصعيد العالمي.

أما غياب سورية عن المؤتمر، فالواضح أنه جرى ضد رغبة الدولة المضيفة، فالعراق يدرك يقينا أن من شأن هذا الغياب أن يؤثر بالسلب، ليس فقط على مصداقية المؤتمر، وإنما على النتائج المتوقعة منه. ولكن، ماذا كان في وسع العراق أن يفعل، في ظل إصرار بعض الدول المدعوّة، خصوصا فرنسا وتركيا، وربما غيرها أيضا، على عدم التعامل مع بشار الأسد، ومن ثم اضطرت الدولة المضيفة للإذعان لقرار تغييب سورية، والاستمرار في عزلها، إنقاذا للمؤتمر وضمانا لانعقاده. ومع ذلك، يمكن القول إن سورية كانت الغائب الحاضر في المؤتمر. ولأن جميع الدول المشاركة تدرك يقينا أن الأزمة السورية إحدى أهم أزمات المنطقة، إن لم تكن أهمها، خصوصا أنها كانت ولا تزال منخرطة فيها بشكل أو بآخر، فمن الطبيعي أن يحدّ غياب سورية من قدرة المؤتمر على مناقشة هذه الأزمة العضال، ناهيك عن البحث في سبل علاجها. وقد انعكس هذا الغياب سلبا على مخرجات المؤتمر، وأحال بيانه الختامي إلى مجرّد عبارات إنشائية تتسم بعمومية شديدة، وتوحي بأن المؤتمر لم يتمكّن من إجراء أي مناقشة جادّة أو من القيام بأي معالجة جماعية لأيٍّ من المشكلات أو الصراعات المعتملة في المنطقة، وعجز في الوقت نفسه عن التوصل إلى اتفاقٍ على أي صيغة محدّدة للتعاون بين الدول المشاركة في المؤتمر. غير أن أكثر ما يؤخذ على البيان عدم إشارته من قريب أو بعيد إلى القضية الفلسطينية، وإلى الاحتلال الإسرائيلي لأراض عربية، وكأن هذه القضية أو ذاك الاحتلال لا يعني المجتمعين في شيء.

على الرغم من ذلك كله، مجرد انعقاد المؤتمر كان مفيدا ومرغوبا فيه من جميع الأطراف. ولأن كل مؤتمر يعقد بمشاركة ممثلين على مستوى عال من دول تتسم علاقاتها بالتوتر منافعه أكثر من مضارّه، فقد كان من الطبيعي أن يشكّل انعقاد مؤتمر بغداد، والذي شارك فيه زعماء وقادة من إيران وتركيا وقطر، جنبا إلى جنب مع نظرائهم من السعودية ومصر والأردن والإمارات وغيرها، حدثا مثيرا للانتباه في حد ذاته، خصوصا أنه شهد لقاءات جانبية بين زعماء وقادة يلتقون لأول مرة وجها لوجه منذ سنوات طويلة، كاللقاء بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وأمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد. واللقاء بين الشيخ تميم ونائب رئيس الإمارات، حاكم دبي، الشيخ محمد بن راشد. ولذا يمكن القول إن قمة بغداد شكلت، من هذه الزاوية تحديدا، امتدادا، بشكل أو بآخر، لقمة العلا (في السعودية) التي انعقدت في بداية العام وأسست للمصالحة بين قطر ودول الحصار الأربع، ونجحت في البناء على النتائج الإيجابية التي كانت قد تحققت فيها.

وفي المحصلة، يمكن القول إن العراق ربما كان الدولة الأكثر استفادة من هذا المؤتمر على مختلف الصعد، ففي اللقاءات الجانبية التي جرت بين رئيس وزراء العراق، مصطفى الكاظمي، ومختلف القادة وكبار المسؤولين الذين حضروا المؤتمر، حصل العراق على وعود بالدعم، سواء في مكافحة الإرهاب، أو في التسليح والتعاون الاستخباراتي، أو في مجال التعمير وإعادة البناء. وأتاح المؤتمر فرصة جيدة وجديدة لمشاورات إضافية بين قادة مصر والأردن والعراق للعمل على تفعيل الاتفاقيات المشتركة المبرمة في مجالات عدة، خصوصا في مجال النفط والغاز والتجارة وخطوط الربط الكهربائي وغيرها.

غير أن السؤال الذي ينبغي أن يُطرح، في نهاية المطاف، يتعلق بما إذا كان مؤتمر بغداد قد نجح في إنتاج ما يكفي من الزخم لاستثمار حالة الهدوء القائمة حاليا، والعمل على توليد آلية تساعد على الانتقال بالفعل إلى حالةٍ من التعاون والمشاركة بين دول المنطقة؟ أشك كثيرا، لسببٍ بسيط، أنه لم يكن في مقدور المؤتمر أن يناقش أيا من القضيتين اللتين يتوقف على تسويتهما مستقبل التعاون والصراع في المنطقة: البرنامج النووي الإيراني، وما إذا كانت الولايات المتحدة ستعود فعلا إلى الالتزام من دون شروط باتفاق العام 2015. والقضية الفلسطينية، وما إذا كانت إسرائيل مستعدة فعلا لتسوية حقيقية، سواء على أساس الدولتين، أو على أساس الدولة الواحدة التي يتعايش فيها جميع المواطنين من دون تمييز. لهذا السبب، كان مؤتمر بغداد مجرّد استجابة لحاجة ظهرت واختفت، ومن ثم لا مستقبل له!

العربي الجديد

———————–

مؤتمر بغداد وإشكاليات الحالة العراقية المعقدة/ لقاء مكي

لم يحمل البيان الختامي لمؤتمر “بغداد للتعاون والشراكة” أفكارًا أو اتفاقات يمكن أن تُحدث تغييرات على أي مستوى في المعادلة الإقليمية في الشرق الأوسط، وهو بذلك، لم يتجاوز ما كان متوقعًا منه، فالمؤتمر لم يكن له بالأصل سقف عال من الطموحات السياسية، وقد كان منظِّموه، وكذلك المشاركون فيه، متفقين على أن ملفات المنطقة أكثر تعقيدًا من أن يتناولها مؤتمر اليوم الواحد، وهو ما ينطبق أيضًا على الوضع الداخلي العراقي الصعب والهش في آن.

أعاد البيان الختامي بعض الديباجات الخطابية التوفيقية المألوفة في مؤتمرات من هذا النوع، حيث تجتمع دولٌ بين بعضها من أسباب الخلاف أكثر من نقاط الاتفاق، بما في ذلك الاختلاف حول القضية التي تمثل محور المؤتمر ذاته، وهي قضية العراق، فضلًا عن أن وجود فرنسا من خلال رئيسها أضاف بُعدًا دوليًّا للمؤتمر، لكنه لم يكن فعالًا في تحقيق جدوى مباشرة ومؤثِّرة للمؤتمر، وربما مثَّل عند بعض قادة الدول المشاركة سببًا لعدم حضورهم الشخصي إلى بغداد.

ولم يكن ممكنا إغفال مستوى التمثيل الملفت على المستوى القيادي لمعظم الدول المشاركة، وهو ما يقدم تصورا حول أهمية العراق، والرغبة بعودته كعنصر للتوازن الإقليمي، وهو ما رأى فيه بعض العراقيين في المؤتمر دليلًا على عودة العراق لممارسة دوره التقليدي الذي افتقدوه طويلًا، لكن بعضًا آخر منهم لم يأبه لمشاهد الزعماء في بغداد، ما دامت البلاد مستمرة في مواجهة مشكلاتها الداخلية العميقة والمعقدة، فيما سعى طرف ثالث يمثل جزءًا من القوى السياسية والميليشيات المسلحة إلى التشكيك بالمؤتمر ونتائجه وأهميته.

ما حققه مؤتمر بغداد

أقصى ما بدا أنه تحقق في مؤتمر بغداد، أنه أوحى بعودة العراق كدولة مركزية في المنطقة، قادرة على أن تجمع أبرز دول الإقليم وبمشاركة إحدى الدول الكبرى، واعتُبر ذلك عند سياسيين عراقيين نجاحًا كافيًا، بعد عقود من الغياب العراقي عن تأدية دوره الطبيعي، بل وتحوله إلى دولة مولِّدة للأزمات وساحة للصراعات الخارجية.

وكثيرًا ما تحدث رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، عن أن جهوده الخارجية تهدف بالأساس إلى تجنيب العراق خطر الصراعات الخارجية، التي غالبًا ما تجري على أرضه، سواء كانت سياسية أم عسكرية، من خلال وكلاء محليين، أو حتى غير عراقيين على هيئة تنظيمات متطرفة، وهي إحدى المشكلات الجوهرية التي يعانيها العراق منذ الغزو الأميركي، عام 2003.

وقد سعى الكاظمي خلال العام والنيف التي قضاها في منصبه حتى الآن إلى إعادة بناء توازن العلاقات الخارجية للعراق، على الصعيدين السياسي والاقتصادي، فقام بتفعيل الشراكة مع كل من مصر والأردن، التي كانت قد بدأت أصلًا في ولاية رئيس الوزراء الأسبق، حيدر العبادي، وطرح مبادرة ما يُعرف بالشام الجديد وعقد قمتين جَمَعَتَاه بكل من الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وملك الأردن، عبد الله الثاني، ثم بادر إلى مؤتمر بغداد الأخير الذي شارك فيه الزعيمان إلى جانب قادة وممثلي سبع دول أخرى لاستكمال دائرة التوازن الذي يرغب به في العلاقات الخارجية للعراق، والخروج من ثنائية الولايات المتحدة-إيران التي هيمنت على السياسة الخارجية والداخلية وتسببت بإرهاق كل منهما بشكل كبير.

وربما يكون الكاظمي قد نجح فعلًا في جمع عدد مهم من دول الإقليم، فضلًا عن فرنسا، ومستوى عال من التمثيل لمعظم الدول، وكان في ذلك رسالة واضحة قدمها الكاظمي للداخل العراقي، حول مكانته الخارجية، وقدرة العراق -تحت إدارته- على جمع المتخاصمين قبل الانتخابات العامة في العاشر من أكتوبر/تشرين الأول المقبل.، لاسيما أنه كان زار واشنطن في 26 يوليو/تموز الماضي وحظي هناك بحفاوة ملحوظة، وقد كانت تلك الزيارة جزءًا من جهد نشط قام به الكاظمي خلال فترة ولايته؛ حيث زار أيضًا العديد من الدول الإقليمية والغربية أبرزها: إيران، والأردن، وفرنسا، وألمانيا، والمملكة المتحدة، وتركيا، والسعودية، والإمارات، فضلًا عن إرساله مبعوثين لدول أخرى، واستقبل في بغداد وفودًا أجنبية عدة.

لم يُعرف على وجه التحديد أثر هذا النشاط الخارجي في تعديل الأوضاع المتردية في العراق، أو معالجة أزماته العديدة، تمامًا كما كان من غير الملموس أثر مؤتمر بغداد الأخير للتعاون والشراكة في تغيير أي من المعادلات المهيمنة على الساحة العراقية الداخلية، أو النجاح فعليًّا في تحقيق هدف منع التدخل الخارجي في العراق أو تحجيمه، أو على الأقل خلق توازن يسمح بتحقيق ذلك في نهاية المطاف.

التأثير على الوضع الداخلي

لم يظهر الكثير من النتائج الواضحة أو المتوقعة من مؤتمر بغداد، فبرغم أن حضور هذا العدد من الدول بقياداتها أو ممثليها إلى العراق، يمثل نجاحًا في جعل بغداد مركزًا للاستقطاب الإقليمي والاحترام الدولي، لاسيما مع حجم الاختلاف والصراع بين بعض الدول المشاركة، إلا أن المؤتمر لم يسفر عن أية نتائج عملية، أو اتفاقات اقتصادية أو سياسية، يمكن أن تسهم في حل مشكلات أساسية في العراق، على الصعيد الخدماتي في أقل تقدير.

ويمكن تلمُّس مواقف العراقيين بشكل عام وتقريبي من مضامين البيانات والتصريحات التي أطلقها سياسيون من جهات شتى، وكذلك من التعليقات على المؤتمر في وسائل التواصل الاجتماعي، فجزء منهم رأى في المؤتمر تكريسًا لدور العراق المتصاعد ولسمعته الدولية، وهو ما سيسهم في إعادته إلى صورة الاهتمام الدولي، ويعيد ثقة شعبه بمكانته التي يمكن أن يتلمسوها مستقبلًا. وجزء آخر رأى على العكس أن المؤتمر ليس بذي أهمية ما دام لم يسفر عن أية نتائج يمكن أن تؤثر بشكل إيجابي في تطوير واقعهم الداخلي، وهو عند هؤلاء مجرد فعالية بروتوكولية استهلكت جزءًا من موارد البلاد دون طائل حقيقي. ومضت طائفة ثالثة، إلى أبعد من ذلك حينما وجدت في المؤتمر وما صاحبه من دعاية ومظاهر احتفالية، نوعًا من التضليل عن حقيقة ما يعانيه العراق من أزمات جوهرية تتجاوز موضوع الخدمات، لم يُشر إليها أحد، وأبرز ما في ذلك تردي أوضاع حقوق الإنسان، وهيمنة القوى المسلحة على القرار الحكومي، وانهيار منظومات الدولة، وتفشي الفساد والعنف والتمييز.

وربما كانت مواقف بعض القوى السياسية والقوى المسلحة أكثر وضوحًا في رفض المؤتمر وانتقاده منذ الإعلان عن عقده، وحسب هذه الأطراف المعترضة، فإن “مؤتمر بغداد لم يشتمل على تقديم الدعم الحقيقي… وبعض الدول المشاركة بالمؤتمر التي تحدثت عن دعم العراق هي السبب بالإرهاب الذي ضرب البلاد”. على حدِّ وصف مسؤول المكتب السياسي لحركة (عصائب أهل الحق)، وهي إحدى الفصائل المسلحة الأساسية في ما يسمى (محور المقاومة) الذي يرتبط بشكل مباشر مع إيران، وقد اعتبر هذا المسؤول أن بعض الدول المشاركة بمؤتمر بغداد ليس من مصلحتها أن ينهض العراق من جديد، فيما أثنى على موقف إيران لأنها -حسب رأيه- طرحت موضوع إخراج القوات الأجنبية من العراق. وقد دأبت القنوات الفضائية والمنصات المرتبطة بالفصائل المسلحة على التقليل من أهمية المؤتمر وانتقاده.

كل هذا التفاوت في التعامل مع مؤتمر بغداد، كان متوقعًا في سياق انقسام سياسي داخلي حاد في العراق، ولم يكن هذا المؤتمر معنيًّا أصلًا بمعالجة هذا الانقسام، ولا قادرًا عليه، وربما أوجد سببًا آخر له، وقد يكون من أول مظاهر ذلك، احتمال إصرار بعض القوى السياسية على منع الكاظمي من تولي رئاسة الحكومة بعد الانتخابات المقبلة، فالحضور الإقليمي والدولي لأية شخصية سياسية، قد يكون عند بعض القوى السياسية والمسلحة، سببًا للخشية وبالتالي الرفض، لاسيما حينما يكون الحضور الدولي، مقترنًا بالكثير من الدعم والثناء الغربيين، وهو ما حصل عليه الكاظمي، وما يمكن أن يجعله (غير مناسب) وفق أقل الأوصاف بالنسبة للمؤيدين للعلاقة مع إيران، و(محور المقاومة) بأفرعه السياسية والمسلحة، بسبب الخشية من أن يتحول إلى عقبة بوجه هذا التيار، لاسيما مع التطورات المحتملة في النهج الإيراني تجاه العراق في ظل حكومة رئيسي الأصولية.

وحتى لو كان هذا الاحتمال غير مؤكد في الوقت الحاضر، فإن ما بات يُعتبر نجاحًا للكاظمي في تعزيز رصيده الإقليمي والدولي، يصطدم بحقيقة أن ولايته الرسمية في منصبه ستنتهي خلال أسابيع مع إجراء الانتخابات، وهو سيتحول بعدها لرئيس حكومة تصريف أعمال دون صلاحيات حقيقية، وحتى مع افتراض تكرار التجارب العراقية التي تلت كل الانتخابات السابقة في التأخر عدة أشهر حتى إعلان النتائج واختيار رئيس جديد للوزراء، فإن الكاظمي لن يمكنه الاستفادة من مخرجات علاقاته الدولية، أو الإقليمية، بسبب محدودية صلاحياته، وربما عدم تكليفه للاستمرار بمنصبه.

وبرغم هذه المعطيات، فإن مؤتمر بغداد كان خطوة لافتة على الصعيد الدبلوماسي، وربما كان سيثمر عن نتائج لو كان أمام حكومة الكاظمي وقت أطول، لكن الشراكات الخارجية -ومنها مؤتمر بغداد الأخير- لا تمثل إلا جزءًا يسيرًا من متغيرات معقدة عديدة تواجه العراق، فهناك الانسحاب الأميركي المرتقب مع نهاية هذا العام، وهناك حكومة إيرانية جديدة لم يجر بعد اختبار سياستها تجاه العراق أو دول المنطقة، وهناك الانتخابات البرلمانية والصراع السياسي المرتبط بها، والنتائج المتوقعة منها، وملفات أخرى معقدة وصعبة، قد لا يمكن لعلاقات دولية جيدة أن تقوم بحلها، لاسيما مع حكومة قصيرة العمر، وربما لن تستمر.

نبذة عن الكاتب

لقاء مكي

باحث أول في مركز الجزيرة للدراسات، وأستاذ دكتور في الإعلام والدعاية من جامعة بغداد

—————————-

هل حجز العرب مقعداً لهم في قطار التسويات الجارية؟ / د.ناصر زيدان

تبدو خلف غبار الهياج الدولي الراهن ملامح تسويات من نوعٍ جديد، وقد تعيش مفاعيلها طويلاً. وبصرف النظر عن مدى شمول هذه التسويات لكل زوايا الصراعات القائمة أو لا، لكن المؤكد أن التوترات العصية على الحل، والتي ستبقى الى زمنٍ طويل، تعيش تحت سقف مصالح الدول الكبرى، وهي أحياناً تتأمن في ظروف الاضطراب أكثر مما تتأمن في ظروف الاستقرار. ومن الواضح أن توزيع أدوار و”تمريك” سياسي من الطراز الحديث يحصل بين أقطاب الصراع الدولي ومعهم الدول الإقليمية المؤثرة في الساحة الآسيوية وفي شمال أفريقيا. والولايات المتحدة الأميركية وروسيا والصين وفرنسا ومعهم إيران وتركيا وإسرائيل أمام بازل سياسي وأمني ونفطي واسع، وبعد انسحاب أميركا من أفغانستان؛ ليس من السهل إعادة صف لوحة الفسيفساء بما يتناسب مع مصالح كل من هؤلاء المتنافسين في مشهدية واحدة، خصوصاً كون الدول العربية التي غابت عن التأثير في المشهد لفترة طويلة – وهي ساحة أساسية لميدان العراك – تعود للظهور على المسرح، وتطالب بمقعدها المتقدم في قطار التسويات الجارية. فهل ينجح العرب في إعادة فرض دورهم؟ وهل يفلحون في وقف الاستباحة الخارجية للأرض العربية في أكثر من مكانٍ وموقع؟

الحراك المصري والعراقي الجديد يُشكل نواة قوة اعتراضية مؤثرة في الوقائع القائمة، ويؤدي ملك الأردن عبدالله الثاني دوراً محورياً في تنظيم الإندفاعة الجديدة، بينما دول الخليج التي زادت من حجم قوتها الاقتصادية والسياسية، ما زالت تحت وطأة تأثير الصراع اليمني الذي يستنزف المقدرات، ويهدد الاستقرار، لكن مشهدية اجتماع قمة بغداد في 28 أب (أغسطس) المنصرم، والتي حضرها قادة من مصر والكويت والأردن والإمارات العربية المتحدة وقطر والبحرين والمملكة العربية السعودية، إضافة الى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ووزيري خارجية إيران وتركيا؛ وضعت الأمور في نصابها، على اعتبار أن المكونات العربية تبحث عن التعاون مع الدول الكبرى ومع القوى الأقليمية المؤثرة، ولكنها لا تتسامح مع الاستباحة الخارجية للدول العربية، ولا بالتدخل في الشؤون الداخلية لهذه الدول، وهذه الاستباحة لا تبررها المقاربات التوسعية التي تعتمدها ايران وتركيا باعتبارهما البلدين الكبيرين الجارين ولهما حضور تاريخي أو عقائدي في هذه الدول، ومن حقهما المشاركة في رسم مستقبل منطقة الهلال الخصيب العربي على أقل تقدير، في وقت تستفيد إسرائيل من هذه التدخلات للتمادي في فرض سياسة القضم والعدوان على فلسطين.

الدور الذي يقوم به رئيس وزراء العراق مصطفى الكاظمي يدفع بالطموحات العربية نحو آمال جديدة، نظراً لأهمية العراق في التوليفة الجيوسياسية العربية، ولأن تراجع الدور العراقي في المرحلة الماضية أضعف الأمن القومي العربي برمته، وقد حوَّلت السياسة الأميركية بلاد ما بين النهرين الى ساحة مفتوحة للطموحات الإيرانية التي بدورها جعلت من العراق قاعدة متقدمة لمشروعها العقائدي والأمبراطوري، بدل أن يكون حاجزاً يحول دون تمدد هذه الأفكار وتلك الطموحات الى دول المشرق العربي. وكان واضحاً الامتعاض الإيراني من قمة بغداد من خلال التجاوزات البروتوكولية التي افتعلها وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، ومن ثمَّ انتقاله من بغداد الى دمشق للتعبير عن اعتراضه على عدم دعوة هذه الأخيرة إلى القمة، كما أن تواصله مع النائب اللبناني جبران باسيل صهر رئيس الجمهورية ورئيس التيار الوطني الحر من هناك؛ يشكِّل نوعاً من أنواع الالتفاف على مقررات قمة بغداد، وتأكيداً على استمرار التدخل الإيراني في شؤون دول المنطقة … وقد يكون أحد أهداف الالتفاف، صرف الأنظار عن التوجهات السيادية الجديدة التي تندفع اليها القيادات العربية، لا سيما خطوات رئيس وزراء العراق مصطفى الكاظمي الذي نجح في الخروج من الطوق الإيراني الموضوع حوله بواسطة غالبية مجموعات “الحشد الشعبي”، وانطلق بتغطية من مرجعية النجف الأشرف الى نقل العراق من وضعية الساحة الأمنية المُتلفتة التي عاش فيها منذ سنوات عديدة الى حالة البلد الجامع والمتطور والفاعل على الساحتين العربية والدولية.

من الواضح أن الرؤى العربية الجديدة تعمل على تحصين الأمن القومي العربي الذي استباحته التدخلات الخارجية الى حدود متقدمة، وهذه الرؤى تستند الى تعاون اقتصادي وثقافي وأمني تحتاجه كل الدول العربية المعنية. وما يجري من تعاون بين المملكة العربية السعودية والعراق في هذا السياق، يأتي استكمالاً للخطط التي وضعها التعاون المتواصل بين العراق وكل من مصر والأردن، خصوصاً في مجال الربط الكهربائي واتفاقات النقل البري والبحري والجوي التي تُسهل انتقال مختلف أنواع السلع التجارية، بما فيها النفط والغاز.

الاشتباك السياسي الذي ما زال قائماً بين بعض الدول العربية على خلفية الموقف من أحداث سوريا وتهجير نصف شعبها، ومن الصراع الصحراوي في المغرب العربي، يمكن أن يتحول الى تباين سياسي عادي قيد المعالجة، وغالباً ما تحصل مثل هذه التباينات الى أن يحين موعد تسويتها بما يضمن مستقبل شعوب هذه الدول، لكن المؤكد أن استمرار غياب الدور العربي لم يعُد مقبولاً على الاطلاق، والإندفاعة الجديدة التي ترافق الحراك في المشرق تُبشِّر بعودة القوة الدافعة للموقف العربي الذي يستحيل من دونه عقد الصفقات او اجراء اي تسويات لها آثارها في مستقبل المنطقة.

النهار العربي

——————————–

الكاظمي:قمة بغداد وافقت على فتح صفحة جديدة مع الأسد

أعلن رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي أن الدول المشاركة في مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة، وافقت على “فتح صفحة جديدة مع الجانب السوري”، مضيفاً أنه تم عقد 6 مصالحات بين دول المنطقة.

وقال الكاظمي في تصريحات لقناة “الشرق” الخميس، إنه خلال القمة “حصلنا على اعتراف من كل المشاركين على بدء صفحة جديدة مع سوريا”، مشيراً إلى أنه “لو حضرت سوريا لامتنعت دول أخرى عن الحضور”.

وأشار إلى أن “جهوداً عراقية بُذلت في القمة أدت لعقد 6 مصالحات بين الدول المشاركة في القمة”، لافتاً إلى عقد الجانبين السعودي والإيراني والمصري والقطري كل على حدة، لقاءات على هامش القمة، فضلاً عن لقاءات أخرى لم يعلن عنها.

وشهدت بغداد في 28 آب/أغسطس انعقاد مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة بمشاركة 9 دول. وجاء تمثيل خمس دول على مستوى القادة (العراق وفرنسا والأردن ومصر وقطر)، فيما ترأس رئيس وزراء الإمارات محمد بن راشد ورئيس وزراء الكويت صباح خالد الحمد الصباح، وفدي بلاديهما. كما مثل السعودية وزير خارجيتها فيصل بن فرحان، ومثل إيران وزير خارجيتها حسين أمير عبد اللهيان، بالإضافة إلى وزير خارجية تركيا مولود جاويش أغلو.

ولم تتم دعوة رئيس النظام السوري بشار الأسد لحضور القمة. وتلقى الأسد رسالة من الكاظمي، نقلها إليه رئيس هيئة الحشد الشعبي في العراق فالح الفياض، مفادها بأن سبب عدم دعوته هو “تعبير عن الحرص على إنجاح مؤتمر نسعى من خلاله إلى توفير تفاهمات تساعد على إنتاج حلول لمشاكل المنطقة باشتراك جميع دول جوار العراق، والمشكلة السورية في طليعة هذه المشاكل”.

وعُقد مؤتمر بغداد بهدف دعم العراق والتباحث بشأن التحديات والقضايا المشتركة والآفاق المستقبلية. ودعا المشاركون في المؤتمر، في بيانهم الختامي، إلى توحيد الجهود الإقليمية والدولية لتحقيق استقرار المنطقة. وأشار المشاركون إلى أن المنطقة تواجه تحديات مشتركة تقتضي التعامل معها على أساس التعاون المشترك والمصالح المتبادلة، ووفقاً لمبادئ حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول واحترام السيادة الوطنية.

المدن

———————————–

مؤتمر بغداد ومستقبل المنطقة/ محمود الوهب

العرب، شعوباً وقبائل، بحاجة إلى جرعةٍ من التفاؤل. جرعة أملٍ تخرجهم من الحال الذي هم فيه. والعرب هنا دول المنطقة، بما تمثله من أقوام وأديان وطوائف تتعايش في تلك الدول. والعرب دولاً بحاجة، وبغض النظر عن مآل الربيع العربي، إلى خلاصٍ من عطالة الواقع الذي تعيشه منذ أزمان، ما أوصلها إلى حالٍ من الركود الكلي، أفسح معه في المجال لأمراضٍ أخذت تنهش في أرواحها وهياكلها، مهدّدة إياها بالموت تهميشاً واستبعاداً عن ملامسة حضارة عصرها.. وكانت بين الحربين العالميتين، وما بعدهما، أي بعد أن نالت استقلالها عن الانتداب والاحتلال تعد بحياة جديدة، وعيشٍ رغيد على يد من سيحكمها من أهلها. لكن ما شهدته شعوب معظم تلك البلاد كان أسوأ مما عانته فيما سبق، فلم يعد أحدٌ يرى غير الصور القاتمة للواقع العربي في مختلف دوله، وخصوصاً في تلك التي كانت تعد بكثير من التحرّر والنمو والتقدّم، مثل سورية والعراق، وحتى ليبيا واليمن ولبنان الذي كان في سبعينيات القرن الماضي يحتضن فلسطين الناشطة في زراعة بذور أمل العودة عبر مقاومة جدّية.

ولكنَّ المفارقة المحزنة تقول إن حال تلك الدول ساءت، بعد أن كبرت أحلامها بنيلها استقلالها، واصطنع عسكرها لأنفسهم ثوراتٍ فصّلوها على حجم فرديتهم القاتلة، وهم من أهل البلد الذين فرح بهم كل من ساهم بالاستقلال. لكنهم، وبكل أسف، كانوا أسوأ بما لا يقاس ممن استعمروا بلدانهم. ولن يجري الحديث هنا عما آلت إليه كل من لبنان وسورية والعراق، حيث الفوضى والجوع والفساد والدم أيضاً، إضافة إلى اليمن الذي لا يزال ينزف على غير صعيد، فصورة المنطقة واضحة للجميع، وواضح كذلك أن رعونة حكامها السياسية وقمعهم وفسادهم ومن حولهم ما أوصل بلادهم إلى ما هي عليه من أحوال.

في هذه الأجواء يأتي مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة، في مبادرة ربما هي الضرورة الأكيدة المنبثقة من ذلك الواقع، لتلمس أسباب الخروج من تلك الصراعات والمطامع التي أغرقت المنطقة بالدماء والفوضى، إلى درجة أغلقت معها كل أفقٍ يمكن أن يخرجها من تلك الأنفاق المظلمة التي أدخلت فيها، فأهدرت معها ثرواتها وطاقات شعبها، فلا حصاد لها غير الكراهية والأحقاد، إنْ على صعيد الشعب الواحد، أم على صعيد المنطقة!

نعم، مؤتمر بغداد ضرورة موضوعية، يجب التمسّك به، وبمخرجاته مهما كانت هشة، ولا بد من تقويتها في مجال التنفيذ العملي، ولا يهم من كان خلف الدعوة إليه، بل المهم ما ينتج عن مثل هذا المؤتمر في زمن التكتلات الدولية، القائمة على المنافع المشتركة.. ومَن أكثر من منطقة الشرق الأوسط بحاجةٍ إلى تكاتفٍ وتضامن في وجه الهجمة عليها، منذ أن تفكّكت آخر الإمبراطوريات لدى نهاية الحرب العالمية الأولى، وبرز الصراع حول المنطقة واشتد خلال الحرب الباردة، ولم يزل، على الرغم من أن بعض دوله تباينت قوة وضعفاً، وصار القوي بينها يطمع بالضعيف، وعين البعيد الأكثر قوة لا تنام.

ثمّة من يرى أن الولايات المتحدة هي التي دعت إلى مؤتمر بغداد، بهدف ضمان مصالحها. هكذا بكل بساطة تدعو أميركا، صاحبة فكرة الفوضى الخلاقة وراعيتها، إلى مثل هذا المؤتمر لتعيد ما خربته بيديها. وتنفي رؤية أخرى أية إرادة عن رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، وأي إحساس بالمسؤولية يفرضها عليه الواقع، للخلاص مما يجري، فهو لا يقوى أن يقول لوزير الخارجية الإيراني الذي اصطف في المقدمة عند التقاط الصورة التذكارية للمشاركين في المؤتمر: السيد الوزير مكانك ليس بين الرؤساء إذا سمحت.. وكأن السيد الوزير لا يعرف هذه الحقيقة، ولا هو خبير بالأعراف الدبلوماسية، ولا يرافقه من بها عليم. ولكن الأمر كله ناجم عن غليان داخلي ورغبة بالاستفزاز، والقول إن إيران في المقدّمة، وإن لم يحضر رئيسها. والكاظمي حريصٌ على أن ينجح المؤتمر، وإنْ بحدوده الدنيا.

حسناً، لنفترض أن أميركا هي التي دعت إلى ذلك المؤتمر، فما الذي يجعل المعنيين به لا يأخذونه على محمل الجد، واستثماره على نحو يجعل، كما سلف أعلاه، من هذه المنطقة عصيةً على كل طامع، وينعكس على استقلال بلدانها، وعدم تدخل الدول القوية بالأخرى الضعيفة، أو الأقل قوة، وأن تنعكس خيراتها على تنمية شعوبها، فما الضير في ذلك؟ ولماذا يصوّر الصراع في العراق أنه بين موالاة لإيران وأخرى لأميركا (الشيطان الأكبر)؟ وهل يعبر ذلك عن واقع الحال، أم إن كل نهضة وطنية يجب أن يشكك فيها مسبقاً؟ ثم ألم نلمح بوادر تلك الصحوة من خلال المظاهرات التي تعمّ المدن العراقية منذ سنتين، ورفعت شعارات وطنية أعلت من شأن العراق الجامع، رافضة كل شعار يفرق، وقدمت مئات الشهداء، متقاطعة بذلك مع ما جرى في لبنان أيضاً، وكتبت مقالات قالت الكثير عن نهب العراق من خلال علاقات تجارية غير متكافئة وغير متوازنة؟

مؤتمر بغداد في أدنى مستوى له نقطة مضيئة في وقتٍ تنقطع فيه الكهرباء عن العراق ولبنان وسورية. ولا شك في أن مصاعب جمَّة تعكس مصالح متناقضة أمام ما طرحه المؤتمر، لكن الكثير من تلك المصالح ليست محقّة في جوهرها، فهي مطامع ترفضها أعراف العلاقات الدولية.

لقد انتهت الحرب الباردة منذ ثلاثة عقود، وردمت خنادقها، فلماذا يجري البحث عن بدائل في الميدان نفسه؟ وما مصلحتنا في عداوة هذه الدولة أو تلك من الدول العظمى أو الإقليمية، إلا إذا فرضت عداوتها. ولم لا نقيم علاقات حسن جوار مع دول المنطقة كافة، عربية وغير عربية، فلا مصلحة لنا اليوم إلا فيما يقود إلى نهوضنا الذي يتجّلى سياسياً في ردم الهوَّة بين الحاكم والمحكوم، من خلال بناء دول ديمقراطية، يمتلك فيها الشعب زمام أمره، والميل باتجاه اقتصادٍ إنتاجي يقوم على أسس من العلوم، والمعارف المتخصّصة، والتكنولوجيا الرفيعة، فالاقتصاد الريعي الاستهلاكي لم يجعل بلداننا وراء الأمم فحسب، بل فتح نوافذ لتبرير الاستبداد بأشكاله كافة، كما فتح أبواباً على أحجام من الفساد غير معهودة.

أعود إلى مؤتمر بغداد “للتعاون والشراكة”، لأقول هو علامة فارقة لا بد من الاهتمام به، وتأكيد نتائجه، فله على الأرض ما يبرّره سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وله مؤيدون في عمق شعوب المنطقة، وقد جاء عليها البيان الختامي للمؤتمر.

العربي الجديد

——————————-

======================

تحديث 07 أيلول 2021

—————————-

عندما تتصدر فرنسا مؤتمر بغداد/ ولاء سعيد السامرائي

قام الإعلام الحكومي العراقي بدعاية واسعة عن أهمية ما سمّي “مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة” الذي عقد قبل أيام في بغداد بحضور دول إقليمية وخليجية، وبمشاركة فرنسا، وغياب أي تمثيل للاحتلال الأميركي، ولو على مستوى سفير الولايات المتحدة في بغداد. وقراءة سريعة للبيان الختامي للمؤتمر تفيد بخلوّه من ذكر أي برنامج تعاون حقيقي محدّد، وأي شراكة ملموسة بين العراق والدول المجتمعة. كما أنه لم يتم توقيع أي اتفاق مشترك لتعاون وشراكة بين العراق والدول المجتمعة! البيان الختامي ورقة مطلية بجمل تلمع الحكومة العراقية، حيث يشيد بمسيرتها من جهود دبلوماسية لدعم استقرار العراق والمنطقة: “للوصول إلى أرضيةٍ من المشتركات مع المحيطين، الإقليمي والدولي، في سبيل تعزيز الشراكات السياسية والاقتصادية وتبني الحوار البناء وترسيخ التفاهمات على أساس المصالح المشتركة”. ويكرر نص البيان المواضيع الوهمية ذاتها التي تضمنتها بيانات المؤتمرات السابقة والعديدة التي انعقدت في ما سبق، بمناسبة الانتخابات وتسويقها، سواء في العراق أم في دول الجوار، مثل “تضحيات العراق في القضاء على الإرهاب بمساعدة التحالف الدولي، مجدّدين رفضهم لكلّ أنواع وأشكال الإرهاب والفكر المتطرّف”.

ليست القراءة السريعة وحدها ما يفند عنوان المؤتمر وأهدافه، بل لن يصدّق العراقيون كلمة عنه، وما قيل عنه، لأنّهم اعتادوا، قبل كل انتخابات، على جملة من اللقاءات والمؤتمرات والوعود لإعادة البناء والشراكة والتعاون، سواء مع الدول العربية، وخصوصا السعودية ودول الخليج، أو مع دول التحالف. ولأنهم طوال 18 عاما لم يروا على ارض الواقع أي مشاريع محسوسة أو بناء وتعمير، وشاهدوا كيف أن هذه الدول تنهب خيرات البلاد وتسرق حتى لقمة عيش المواطنين وزرعهم، وتسوء أوضاع الشعب العراقي عاما بعد عام، وانتخابات بعد انتخابات ومؤتمرات بعد مؤتمرات. وما التظاهرات المستمرّة، جديدها “ثورة تشرين” (2019) وإسقاطها حكومة عادل عبد المهدي، وتعثر إقامة أكثر من حكومة، حتى تم تعيين مصطفى الكاظمي بحجّة “الاستجابة لمطالب الثوار” في التغيير، غير أن الكاظمي تجاهل كل ما وعد به الشعب العراقي، وسار على خطى سلفه في التغاضي عن قتل المتظاهرين واغتيال قادتهم وتهديدهم.

ليس مؤتمر بغداد هذا إلا دعاية للانتخابات المقبلة التي تريد الولايات المتحدة بأي ثمن تنظيمها، كما في كل مرة، وتجديد ولاية الكاظمي أربع سنوات أخرى، دعاية معادة أصبحت بائتة ومجترّة مرات ومرات، لتسويق المتعاونين مع المحتلين قبل كل انتخابات، كما تضمنه البيان الختامي بشكل صريح. يقول بـ”دعم المشاركين لجهود الحكومة العراقية في تعزيز مؤسسات الدولة وفقا للآليات الدستورية وإجراء الانتخابات النيابية… ودعم جهود العراق في طلب الرقابة الدولية لضمان نزاهة وشفافية عملية الاقتراع المرتقبة”، وهذا هو بيت القصيد من كل ضجّة المؤتمر.

لقد اعتادت الولايات المتحدة، قبل كل انتخابات في العراق، أن تتولى تسويق عملية الانتخابات بنفسها، سواء عبر مسؤولين في إدارتها أو عبر سفيرها في العراق وجولاته المكوكية بين الأحزاب، بالتنسيق مع السفير الإيراني. لكن يبدو أنها قد كلفت، هذه المرّة، فرنسا لأداء هذه المهمة، لتكنس “تمثيليات ومناكفات إلقاء الصواريخ على ساحة سفارتها وقرب قواعدها” أتباع إيران من مليشيات، وتغلق بوجههم الباب من ناحية. ومن ناحية أخرى، تولي هذه المهمة المتعبة لشريكتها فرنسا التي ترتبط بعلاقات خاصة مع طهران، تمكّنها من إدارة هذا الملف كما يجب.

تصدّرت فرنسا مؤتمر بغداد، لأنها منذ سنوات أصبحت أهم شريك للولايات المتحدة في كل عملية الغزو، كما في قيادة حلف شمال الأطلسي، لتدافع عن احتلال العراق وعمليته السياسية، بعد أن كانت مساعدتها تقتصر، بدايةً، على الدعم اللوجستي، وتميزت الشراكة الفرنسية مع الولايات المتحدة بعملية تدمير فرنسا أكبر معقل للمقاومة العراقية، المتمثل بمدينة الموصل، وهي من أكبر الخدمات التي يمكن أن تقدمها دولة للولايات المتحدة، في عملية غزوها العراق منذ 2003.

جاء الرئيس ماكرون إلى بغداد ليدافع بنفسه عن العملية السياسية، وعن أحزابها ومليشياتها، لإعطاء دفعة قوية لحكومة الكاظمي، ولتثبيت العملية السياسية. بل إنّه طمأن أشرار المنطقة الخضراء، ومن يقبع فيها ممن تلطخت أياديهم بالدم العراقي والفاسدين، بقوله “فرنسا ستبقى في العراق حتى لو غادرت الولايات المتحدة”. تصدّر فرنسا مؤتمر بغداد لتجميل العملية السياسية والدفع لاستمرارها دفاعا عن حصتها في الغنيمة لن ينقذ هذه العملية المهترئة من السقوط، بعدما زعزعتها ثورة تشرين التي عمّت كل مدن العراق.

لقد زار ماكرون مدينة الموصل، وهو يتجوّل فيها فرحا، ونسي أن جيش بلاده في حرب التحالف ضد “داعش” قد حوّل أم الربيعين مدينة منكوبة، ما زالت جثث أشخاص من سكانها تحت الأنقاض، ترفض الحكومة التي جاء لدعمها انتشالها، وهي تنتظر أن تبنى بسواعد أبنائها، لا باستثمارات من قتلها وأباد سكانها وحرق مكتباتها ودمر كل مستشفياتها، قبل الانقضاض عليها بالقنابل والطائرات.

اليوم، أمام أنظار العالم، انسحبت الولايات المتحدة، وهي مهزومة من العاصمة الأفغانية، بعد عشرين عاما من حرب كلفتها ألفي مليار دولار. وقبلها بسنوات انسحبت القوات الفرنسية. وغدا سيكون موعد العراق وشعبه مع طرد الغزاة، ومعهم كل متعاون، يجرّون معهم آثام القتل للأبرياء وتدمير بلد بحجج كاذبة وبيع ضمائر لم يعرف لها التاريخ مثيلا.

العربي الجديد

———————————

سوريا إذ غابت عن قمة العراق/ مرح البقاعي

أبرق الرئيس الأميركي، جو بايدن، مهنئاً الحكومة العراقية بانعقاد “قمة بغداد للتعاون والشراكة” التي استضافت العديد من دول الجوار العربية وغير العربية، إضافة إلى حضور أوروبي ممثلاً بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.

وأشار بايدن في البيان الذي صدر عن البيت الأبيض في اليوم التالي لأعمال القمة إلى أهمية التحرّك الدبلوماسي النوعي الذي تعتمده بغداد في سياساتها مع دول الجوار والذي من شأنه تخفيف حدّة التوتر بين بعض دول المنطقة، وتوسيع دائرة التعاون والشراكة بين دول الشرق الأوسط بريادة دولة العراق.

وأفاد بايدن في متن بيانه بالقول: “عندما اجتمعت مؤخراً ورئيس الوزراء الكاظمي بالمكتب البيضاوي، ناقشنا معاً دور العراق المهم في المنطقة والجهود الكبيرة التي تقودها حكومة العراق، بما في ذلك حكومة إقليم كردستان، لتحسين وتعزيز العلاقات بين العراق وجيرانه”.

جاء هذا اللقاء ليعزّز الشراكة بين واشنطن وبغداد بموجب الاتفاقية الإطارية الاستراتيجية بين البلدين، وضمن صيغة دعم حكومة الولايات المتحدة المتواصل للعراق في سياساته الخارجية التي تعتمد بشكل متزايد على الدبلوماسية كأداة رئيسة لتحقيق الاستقرار في عموم الشرق الأوسط.

سوريا – بصفتها دولة جارة للعراق – كانت الحاضر الغائب في هذه القمة. فهي لم تدعَ رسمياً إلى حضورها رغم أن قائد هيئة الحشد الشعبي، فالح فياض، تصرّف منفرداً قبيل القمة بأيام وتوجّه إلى دمشق ليطلع رئيس النظام السوري، بشار الأسد، عن برنامج القمة، وليدعوه بشكل شخصي لحضورها، ما استدعى من وزير الخارجية العراقي إصدار بيان رسمي أشار فيه إلى بطلان صحة هذه الدعوة، ونفى ما تناقلته وسائل الإعلام عن هذا الأمر. وجاء في نص البيان أن “الحكومة العراقية تؤكد أنها غير معنية بهذه الدعوة، وأن الدعوات الرسمية ترسل برسالة رسمية وباسم دولة رئيس مجلس الوزراء العراقي، ولا يحق لأي طرف آخر أن يقدم الدعوة باسم الحكومة العراقية لذا اقتضى التوضيح”.

غياب أي تمثيل للنظام السوري في أعمال القمة جاء تصرّفاً رشيداً للحكومة العراقية لإنجاح أعمالها؛ فمعظم المدعويين كانوا سيرفضون حضور النظام السوري الذي يمتنع عن الامتثال لما أقرّوه من مخارج عادلة للقضية السورية كأشقاء عرب معنيين بأمن واستقرار سوريا، وذلك ضمن مساعيهم الأممية ومؤتمراتهم التي ناهزت العشرات لوضع نهاية للأزمة التي طالت على الشعب السوري المكلوم، وهدفوا من خلالها إلى تحريض الأسد على الامتثال للقرارت الدولية والدخول في عملية انتقال سياسي متكاملة أقرتها الأمم المتحدة بإجماع أعضاء مجلس الأمن، بما فيها حليفه الروسي، وللأسف لم يمتثل حتى اللحظة.

أما إيران، فكان بإمكانها – نظراً لطبيعة وصايتها على النظام في دمشق ونفوذها في بغداد – أن تضغط في الاتجاهين من أجل حضور تمثيل ولو رمزياً للنظام السوري في أعمال القمة، إلا أنها لم تفعل. فالنظام السوري بدأ يتحوّل إلى عبء ثقيل حتى على أقرب حلفائه بعد أن استنفدوا إمكاناته، وحققوا من خلاله جلّ مآربهم التي أرادوها على الأرض السورية، سواء بالسيطرة الميدانية الطاغية بجيوش نظامية كما حال الوجود الروسي، وإما عن طريق الميليشيات الطائفية العابرة للحدود التي تنفث في الجسد السوري سماً زعافاً من التفرقة وإشاعة روح النزاعات والاقتتال الأهلي كما يفعل الاحتلال الإيراني.

أرادت إيران أنت تكون ورقة “الجوكر” في القمة! فبمعزل عن وقوف وزير خارجيتها في الصور التذكارية الرسمية للزعماء المشاركين في أمكنة غير مخصصة بروتوكولياً لوقوفه – وهذا الأمر يبقى شكلياً -، إلا أنه توجّه فور انتهاء أعمال القمة إلى دمشق ليلتقي الأسد أمام كاميرات الإعلام، ولينصّب نفسه (واسطة خير) بين دمشق والعواصم العربية!

استثمرت طهران حضورها القمة لتُظهر للرأي العام العربي والعالمي أنها في طور العودة إلى جادة الصواب في سياساتها الإقليمية من خلال نهج جديد يقتضي التعاون التشاركي والدبلوماسي مع جاراتها بعيداً عن أسلوب البطش والتنكيل والتطييف السياسي الذي هو نهج استراتيجي معتمد لحكوماتها المتعاقبة مهما تغايرت شخصية وميول من يرأسها.

تحضر إيران في بغداد وعيونها على فيينا حيث المفاوضات النووية هناك شبه معطلّة ولم تشهد أي تقدّم يذكر منذ الانتخابات الأخيرة في إيران ووصول إبراهيم رئيسي إلى رأس الحكم. فإيران التي ينوء كاهلها بالعقوبات الأميركية المتصاعدة، تريد تحقيق انفراجة سلسلة في المفاوضات تحفظ لها ماء الوجه أمام شعبها من طرف، وترضي المجتمع الدولي وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية من طرف آخر من أجل رفع العقوبات عن كاهلها وتيسير عودتها إلى منظومة المجتمع الدولي الذي قبعت خارجه لعقود.

فإيران تدرك تماماً أن الولايات المتحدة لن تبحث فقط مشروعها النووي التسلحي على طاولة مفاوضات فيينا، بل تريد واشنطن أن ترى تراجعاً في سلوك طهران العدواني تجاه دول الجوار، وتريد منها سحب ميليشياتها العابرة للحدود والتعامل مع محيطها والعالم كدولة تحترم سيادة واستقلال جيرانها، وأن تنبذ العنف والسياسات التحريضية التي تتنافى مع لغة العصر.

قد يكون غياب النظام السوري جزءاً أساساً من مناورة طهران لتبرز كأنها القاسم المشترك الأعظم في منطقة مضطرمة بالأحداث المتسارعة، وقد غدت دولها في أمس الحاجة إلى إعادة ترتيب أوراقها وتحالفاتها بصيغ جديدة تساير مشروع “الشام الجديد”؛ وليست قمة بغداد إلا منصة انطلاق اقتصادية لهذا المشروع، وقد نأت ببرنامجها عن القضايا السياسية الشائكة والمعلّقة بين من حضره من جهة، وبين النظام السوري من جهة أخرى.

تلفزيون سوريا

————————-

العراق: تشابك الإقليم والداخل/ حارث حسن

استضافت بغداد، في 28 آب/أغسطس، تجمعًا فريدًا من نوعه لرؤساء الدول وممثّلي البلدان المجاورة للعراق (ما عدا سورية)، بالإضافة إلى رؤساء فرنسا ومصر والإمارات العربية المتحدة وقطر. وكان الهدف من اللقاء الذي عُرِف بقمة بغداد للتعاون والشراكة، إظهار الدعم للعراق الذي يواجه تحديات سياسية وأمنية واقتصادية، فيما شكّل أيضًا اعترافًا بالجهود التي تبذلها حكومة مصطفى الكاظمي من أجل تعزيز الحوار الإقليمي.

وقد حققت القمة ثلاثة أهداف يتوخاها الكاظمي. أولًا، كانت القمة بمثابة تتويج لجهوده الهادفة إلى إعادة وضع العراق عند تقاطع العلاقات الإقليمية، أو كجسر بين بلدان المنطقة بحسب تعبيره. لقد عمل الكاظمي، منذ كان مديرًا لجهاز المخابرات الوطني العراقي، على تطوير شبكة واسعة من العلاقات مع القادة وكبار المسؤولين في الشرق الأوسط، وحقق نجاحًا كبيرًا في أداء دور الوسيط الصادق وميسِّر الحوار، ولا سيما بين إيران وخصومها الإقليميين. واعتمد مقاربة “صفر أعداء” في إدارته للعلاقات الإقليمية.

ليس الكاظمي أوّل رئيس وزراء عراقي يدعو إلى النأي بالعراق عن المحاور الإقليمية، ولكن ما أضفى المصداقية على سياسته بالنسبة إلى معظم دول المنطقة هو ما عُرف عنه من اعتدال وبراغماتية وعدم ميل للإيديولوجيات الطائفية، فضلاً عن كونه أقل خضوعًا للتأثير الإيراني من أسلافه. في غضون ذلك، بنى سياسته الإقليمية على حقائق صعبة. فالعراق اليوم دولة هشّة تقع بين ثلاث دول إقليمية متخاصمة، وهي إيران وتركيا والسعودية. يعتقد الكاظمي أن العراق يستطيع، من خلال السعي استباقيًا إلى تخفيف حدة الخلافات بين هذه القوى، أن يضطلع بدور أكثر إيجابية في المنطقة بدلًا من أن يكون مجرد ساحة لمعارك الدول المجاورة.

أدّت الولايات المتحدة في السابق دورًا أساسيًا في تسهيل التواصل بين العراق الذي يقوده “الشيعة”، وحلفائها “السنة” في المنطقة. أما الآن، وفيما أصبح الأميركيون أقل انخراطًا في العراق، وربما في الشرق الأوسط برمته، فقد حاولت فرنسا وبلدان أخرى، منها القوى الإقليمية الصاعدة كإيران وتركيا، ملء الفراغ الحاصل. في ظل هذه الأوضاع المعقّدة، سعت الحكومة العراقية إلى المناورة بين هؤلاء الأفرقاء الخارجيين كي تعزز هامش التحرك المتاح لها. وما يشجّع تطبيق هذه المقاربة هو الثروة النفطية التي تؤمّن الاستقلال الاقتصادي للعراق، ولكنها تصطدم بعراقيل عدة في المقابل نتيجة الانقسامات الداخلية الحادة، ونفوذ المجموعات شبه العسكرية النافذة التي لها سياساتها الخارجية الخاصة، ومؤسسات الدولة التي ينخرها الفساد والخلل الوظيفي.

جسّدت القمة مدى تراجع الانخراط الأميركي، وسطّرت الحاجة إلى هيكلية مؤسسية جديدة تعبّر عن علاقات القوة الصاعدة في المنطقة والتي تشكّل إيران وتركيا جزءًا منها. وقد تكون هذه القمة أيضًا نقطة البداية للبحث عن إطار مفهومي جديد على المستوى الإقليمي يتخطى الازدواجيات السابقة التي كانت تكتسي طابعًا مذهبيًا (السنّة مقابل الشيعة)، أو قومياً (عرب مقابل غير العرب)، أو إيديولوجيًا (الإسلاميون مقابل العلمانيين)، أو جيوستراتيجيًا (المحور الموالي للغرب مقابل المحور المناهض له).

يقودنا ذلك إلى هدف الكاظمي الثاني، وهو احتواء إيران. نظرًا إلى التأثير الذي تمارسه إيران في العراق من خلال شبكتها من الحلفاء المحليين والمجموعات شبه العسكرية، والتي لا تضاهيها أي قوة إقليمية أخرى، يبحث الكاظمي عن سبل للجم هذا التأثير من دون إثارة عداء طهران. فلن يؤدّي ذلك إلى زعزعة حكومته وحسب، بل قد يقضي أيضًا على أي آمال ربما تراوده بالبقاء في منصبه بعد الانتخابات النيابية المزمع إجراؤها في العراق في 10 تشرين الأول/أكتوبر.

يحاول الكاظمي أيضًا أن يثبت للإيرانيين أن مقاربته، لا مقاربة حلفائهم الإيديولوجيين والمذهبيين، هي التي ستحقق مكاسب حقيقية لطهران وتساهم في كسر عزلتها، ولا سيما أن حكومة ابراهيم رئيسي أعلنت أن سياستها الخارجية ستعطي الأولوية لتحسين علاقات إيران مع المنطقة. والحال أنه سبق للكاظمي أن نجح في استضافة محادثات في بغداد بين إيران والسعودية لمناقشة الخلافات بين البلدَين. وقد تتمكن إيران، من خلال قبولها بقيادةٍ في بغداد غير متحالفة إيديولوجيًا مع مقاربتها “الثورية” المناهضة للأميركيين، من تأمين قناة فعّالة تربطها بالعالم العربي، ومن الحصول على اعتراف إقليمي بدورها ومصالحها.

يرتبط ما تقدّم بالهدف الثالث الذي يصبو إليه الكاظمي، والمتمثّل بتعزيز حظوظه بالبقاء في منصبه بعد الانتخابات. ليس الكاظمي مرشحًا في الانتخابات، ويُقدّم نفسه في موقع الطرف المحايد الذي ينصبّ اهتمامه على ضمان حرية التصويت ونزاهته. لكنها أيضًا استراتيجيةٌ تهدف إلى الحفاظ على حظوظه بأن يكون مرشح تسوية لمنصب رئاسة الوزراء يعكس حدًا أدنى من التوافق بين الأفرقاء المتناحرين ومراكز النفوذ المتنافسة. فبما أن الكاظمي لم يسجّل في رصيده إنجازًا داخليًا مهمًا يمكن أن يثبّت مرتكزاته السياسية ويجعله غير قابل للاستبدال، فإنه يسعى إلى جذب الانتباه إلى نجاحاته في السياسة الخارجية. ولنلاحظ أنه في منظومة حيث الانتخابات لا تحدد لوحدها مَن سيقود الحكومة، فمن شأن اكتساب شرعية دولية أكبر أن يؤدّي إلى تعزيز حظوظ مرشّح على حساب آخر. وهذا ينطبق بصورة خاصة على العراق حيث تتلخص القاعدة السائدة منذ العام 2005 في أن أحدًا لا يستطيع أن يتسلّم رئاسة الوزراء إذا كانت الولايات المتحدة أو إيران تعارض تسميته.

في هذا الإطار، سيتعيّن على معظم الفصائل المتحالفة مع إيران، وعلى الرغم من ميلها لرفض الكاظمي، أن تأخذ في الحسبان الموقف الإيراني. يصعب أن نتوقع ماذا سيكون هذا الموقف بعد الانتخابات وكيف ستتم صياغته في غياب قاسم سليماني، القائد الراحل لفيلق القدس التابع للحرس الثوري الإسلامي، الذي كان يتدخل بقوة في تشكيل الحكومات العراقية منذ العام 2005. لكن من الواضح أن تعيين رئيس الوزراء العراقي المقبل، أيًا كانت الظروف، سيتأثر بالسياق الإقليمي وتوازن القوى.

وبحسب ما أظهرته قمة بغداد، يتطلّع مصطفى الكاظمي إلى التأثير في هذا التوازن من خلال إرساء مسافة آمنة بين أجندة حكومته وأجندة طهران، وبنفس الوقت العمل على تسهيل الاندماج الإيراني المتزايد في المنظومة الإقليمية الآخذة بالتشكّل.

————————————

======================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى