أبحاث

السوريون وهشاشة الثقافة السياسية/ رشيد الحاج صالح

تعود “الهشاشة” المذكورة في عنوان المقال إلى أن غالبية السياسيين المعارضين للنظام الأسدي يعتقدون أنهم، ولمجرد وقوفهم ضد طغيان هذا النظام، وعملهم على فضح توحشه، فإنهم يحررون أنفسهم من أي مواقف إنسانية تنتقد القوى التقليدية للمجتمع السوري، مثلما يتجنبون أي مواقف نقدية قد يتحسس منها شيوخ الدين أو العشائر أو أي فئات اجتماعية تقليدية.

حتى ولو تعلق الأمر بحقوق أطفال سجنوا من قبل أهلهم في البيت بسبب إعاقة يعانون منها، أو بنات يرمين بأنفسهن من أسطح البيوت للخلاص من عذاب زوجة الأب، أو مراهق يقتل بنت عمه بسبب انتشار صورتها على “الواتس آب”, أو أهل يقتلون بنتهم بسبب شبهات لعلاقة لها مع شاب. وهي حوادث، للأسف، وقعت هذا العام في الحسكة والرقة وإدلب. ناهيك عن سكوتهم شبه الدائم عن تجاوزات القوى المحسوبة على المعارضة، وهي تجاوزات تقل عن تجاوزات النظام الأسدي من حيث الكم لا من حيث الكيف.

هشاشة مفهوم السياسة لدى عدد كبير من السياسيين السوريين دفعتهم إلى ممارسة “السياسة من الأعلى “. فالسياسة عندهم في النهاية مرتبطة بتحليل السياسات الدولية، مواقف الدول الكبرى، قضايا الحكم، سلوكيات النظام الأسدي، اللجنة الدستورية وما إلى ذلك. وهذه طبعا جزء من السياسية مرتبط بالحكم والتعامل مع السلطة وصراعاتها. أما السياسة من حيث هي تفكير في واقع السوريين ومشكلاتهم الاجتماعية والثقافية، من حيث هي نقد لسلطات المجتمع السوري التقليدية، وهي السلطات التي تواطأت مع النظام الأسدي، وشاركت النظام السلطة، من موقع التابع وليس من موقع الند، فهو تفكير شبه غائب.

النقد هو الركن الأساسي في الفكر السياسي بحسب إدغار موران، لأن الاضطرابات الدائمة لا تحل إلا بنقد دائم. ولذلك فإن الفرضية الأساسية التي لا بد لمن يعمل في السياسة أن ينطلق منها هي: إن الأمور تسير باتجاه الأسوأ إذا لم نقم بأمر ما. إنها السياسة من تحت، من واقع الناس، وعلاقات السلطة، والوقوف مع الفئات المهمشة، والانتصار لحقوق الأفراد ضد المجتمع وفئاته المتنفذة. 

بحسب ميشيل فوكو، ليست السلطة العسكرية أو النظام الحاكم أهم أشكال السلطة في المجتمع. بل إن هذا النوع من السلطة لا يفعل أكثر من توظيف السلطات التي بيد الزعماء التقليديين للمجتمع من: معلمين وملاك وشيوخ دين وزعماء عشائر ومثقفين وتجار وأطباء لصالحه. بحيث يدير المجتمع من خلال هؤلاء. وهذا يشغل مساحة واسعة من السياسة. 

وهذا يعني في النهاية أن نقد النظام الأسدي من دون المكونات التي استند إليها في الحكم، والعقلية التي بقيت في ذهن كثيرين من المعارضين له، يبقى نقداً ناقصاً. أما إذا أرادت تلك المكونات الوقوف ضد النظام، فهذا أمر يحتاجه السوريون كثيراً، وهناك فئات واسعة من تلك القوى السورية التقليدية وقفت مواقف مشرفة ضد النظام. ولكن ذلك يجب أن يقترن بنقدها لنفسها، وتبني رؤية جديدة تستند للشعارات التي صدح بها المحتجون السوريون منذ بداية ثورتهم، وهي شعارات تنادي بالحريات والعدالة والحقوق للجميع.

أما نقد النظام، والوقوف على أرضه، بالوقت نفسه، فهذه ليست سياسة، بالمعنى الحقيقي لكلمة سياسة، وإنما تغيير في المواقف فرضته الظروف الجديدة لسوريا في مرحلة ما بعد 2011. للأسف، هناك فئات واسعة من السوريين المعارضين لا يهمها سوى أن تحجز لنفسها مكانة في سوريا ما بعد الأسد، في حال سقوط النظام، دون أي اهتمام فيما إذا كانت “سوريا الجديدة” ستكون مختلفة كثيراً عن سوريا الأسد.

إن أكبر مرض يصيب السياسة هو تمركزها حول السلطة وحساباتها المباشرة، كما يردد دائما ماكس فيبر. ولذلك فإن نموذج “السوري الجديد” يجب ألا يكتفي بالنقد الذي يوجهه للنظام الأسدي، بل عليه أن يقرنه بنقد كل القوى التقليدية الحالية، التي اختلفت مع النظام على السلطة، ولكنها لم تختلف معه من حيث نظرتها للسوريين، بوصفهم موضوعا “للسلطة” وفاتها أن السوريين أصحاب الدار، أو ” أم الولد”.

من الأمور التي تثير حزن السوريين أنهم أخذوا يشعرون، في السنوات القليلة الماضية، أن الصراع بين المعارضين والنظام الأسدي هو صراع ليس من أجلهم، وإنما صراع من أجل السيطرة عليهم. وهذا يعني أن هناك من يريد إعادة إنتاج سوريا الأسد، ولكن من دون الأسد. وهذا ما يفسر أنهم لا ينقدون سوى نظام الأسد. 

المعارضة مشروع أخلاقي/ اجتماعي في النهاية. وغالبية المعارضات التي نجحت في إحداث تغيرات كبرى، وحققت جزءا كبيرا من أهدافها، كانت بالمجمل معارضة أسست نفسها على مشروعية أخلاقية، بمعنى قدمت نفسها بوصفها قوى تؤمن بالعدالة والحريات والحقوق، بعكس الأنظمة المسيطرة، التي لا تعترف كثيراً بتلك المعايير.

إن قوة أي معارضة حقيقية تأتي من أنها تقفت مع شعبها الذي تمثله، أولا وقبل كل شيء، ولا تكترث كثيراً بالسلطة إلا بعد سقوط الطغمة الحاكمة. بالرغم من التعقيدات التي تترتب على هكذا وضع. وهذا يعني أن التفكير في الناس، يجب أن يكون أعلى من التفكير بالسلطة وحساباتها، وأن إزاحة النظام الحاكم كانت بقصد إحداث تغيير جذري في نظام المجتمع، وليس مجرد استبدال سلطة بأخرى.

من فضائح المعارضة السورية أن هناك فئات لا بأس بها ما زالت لا تؤمن بمفهوم “الديمقراطية” بالرغم من أن عشرات الدول التي حلت مشكلاتها عن طريق الديمقراطية، مثلما تشكك بمفهوم “العلمانية” بالرغم من أن أكثر من ثلث مسلمي العالم علمانيون، ولا تقبل بمفهوم “حق الشعوب في تقرير المصير” بالرغم من أن هذا الحق ساعد العالم على تجنب عشرات الحروب الكارثية. بل إن هناك من يعتقد أن مفهوم “المجتمع المدني” لا يناسبنا، وأن من حق الزوج أن يطلق زوجته إذا رفعت صوتها في وجهه. الأخطر من ذلك أن هناك من يعتبر المعركة مع الـ “يوتيوب” أهم من المعركة مع بشار الأسد.  

تلفزيون سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى