الغريب في الهامش/ قاسم حداد
يجد الغريب حريته في هامش المشهد. ففي الهامش يمكن التشبث بحرية الغياب عن سلطة المركز في تجلياتها كافة. في المركز تتمثل السلطات. سلطات، تتماهى، تغوي وتغري، وتخدّر وتحتال، حيث كل شيء ضربٌ من السلطة: الأجهزة والقيم والمفاهيم والاحتضان بالأنياب الدافئة والمشاريع المرشحة لصقل جوخة النظام. ربما لأن النظام عموماً يرى في المثقف شخصاً معجباً (في المطلق) بالمشاريع الرسمية ومروّجا لها، أو عليه أن يؤمن بها أولاً، ويعتقد بمشروعيتها وجدارتها وبأنها كاملة الأوصاف لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها ثانيا، ولمجرد ذلك تتاح له (حرية) التقميش على قفطان هذه المشاريع، شريطةَ أن يكون هذا التقميش زينةً لهذا النظام وليس اكتشاف الفتوق فيه، وفضح الجسد المتماه مع كل ما هو متناقض ومتقوض ومنهار. وربما يكون أمام الغريب فرصة للنجاة من السطوة المباشرة للأجهزة حين يتسني له الاحتفاظ بمسافة كافية بينه وبين هذه الأجهزة (وأدواتها). فمن مهمات هذه الأجهزة (والأدوات) أن تقتحم عزلة الكاتب، وتضعه تحت سلطة ضوئها، وتشبع له غروره، وتلبي شهوة البروز فيه، وتشحن وقته بالذهب الكالح، لكي يتحوّل مع الوقت مادة دعائية (يغسل أكثر بياضأ). ويصير، بفعل ألية الأجهزة (والأدوات) جزءاً من ديكور المشهد الرسمي، ويتحول (من حيث لا يشعر غالبا، ومن حيث يتبهلل حيناً، وأحياناً يذهب راغباً) إلى ضربٍ من الصقل المستمر لجوخة السلطان، حتى يتهرأ الكاتب، وتزداد الجوخة لمعاناً وصلفاً وغطرسة. ففي المشهد العربى السلطة لا تنظر إلى الفكر والثقافة باعتبارهما الرأي النقدي والنزوع الحضاري كفعل حرية، بقدر ما تريد لهما أداء الدور المرسوم في سياق المشروع الرسمي، حيث الكاتب كائن مصادر، مسلوب الحرية مجرد من طبيعته النقدية، يرى بغير عينه، ويقول بلسان غيره. وهو، إلى كل ذلك، يظل عرضة للبطش أو الإهمال حال استنفاد دوره واستهلاك صلاحيته، خصوصا إذا بدأ الفشل في تزيين القفطان وتغليف القذارات، فربما وجدت الأجهزة من (يغسل أكثر بياضأ) سواه. ساعتها سوف يكتشف كم هي جنة عتمة الهامش، قياساً لجحيم ضوء المركز الحارق.
٭ ٭ ٭
في الهامش، بعيداً عن سطوة الأجهزة وسلطة أدواتها، يعني أن تتخلى عن الكثير من ضرورياتك الشخصية (وهي، في الظروف العادية، أبسط حقوقك). في الهامش، أنت مرشح لعزلة عن إيقاع الحياة السائدة ومتطلباتها، وهو أمر، ستكون محظوظاً، إذا تحقق بخسائر محدودة (كأن لا تذرع الطريق المألوفة بين ذهب المعز وسيفه). ففي العزلة، لك حق الرفض والقبول، في الحدود التي تتيحها لك ملابسات الواقع. فأنت مجبرٌ (مثلاً) على إعلان إعجابك بمشاريع المخابز الآلية، في ما ترى في الخبز الشعبي نكهة لا تضاهى. وأنت لست معنياً (مثلاً) بمشاريع إحياء العظام وهي رميم، خصوصاً إذا كانت تلك المشاربع صادرة عن شهوة إقناع الجثث بالحياة (والتضرع لها لئلا تموت.. كثيراً) وإضفاء موهبة الحضارة على منظومات ومفاهيم لم تزل شبيهة لأكثر الممارسات بدائية وتخلفاً وصلافة.
في الهامش،
أنتَ في حلٍ من الموت (سريعاً) بالذبحة القلبية أو الانتحار، أو الخضوع لوهم الأمل الشائع الذي يجري ترويجه، باعتباره الأفق الوحيد أمام الكائن.
في الهامش،
أنت على شفير وهم آخر، وهم حريةٍ ترى طقوس مصادرتها، وإحكام الخناق على هامشك كلما نالوا حجراً من حصن حلمك الذي تراه، وتريده.
٭ ٭ ٭
في الهامش
ليست الحرية في أن تغير الواقع،
لكن في ألا تسمح للواقع ان يغيرك، على هواه.
في الهامش،
الحقيقة شمسك والمستحيل قنديلك الفاتن.
لا يسعى إليك أحد،
لا تسعى إلى شيْ.
٭ ٭ ٭
في الهامش، ما ان تُدعى إلى الكتابة حتى يأخذ منك التوجس مأخذه.
تذهب مدججاً بالمحاذير والشروط، لكنك تظل عرضة للاختراق، وتكون مذعوراً من كل شيء ومن كل جهة، في المشهد، فسوف تشكل لك هذه الدعوة ذعراً مضاعفاً، خصوصاً عندما تكون ممن لا يحسنون الامتثال للمفاهيم السائدة في الكتابة، حيث الكتابة هي نوع من الحياة. فماذا يعني أن تكتبَ نصاً ليس هو مقال ولا قصة ولا قصيدة ولا بوح ولا… أعني، ولا ثقة في المنظومات التي تهيمن على كل شيء، كل شيء بلا استثناء، فمن يضمن لك أن دعوة الكتابة هذه لن تفسد عليك عزلتك ونفورك، وأنها لن تجردك من الشك الدائم الذي تعلنه ضد واقع يسعى إلى محوك ومصادرة هامشك الذي تتوهمه، حتى الآن؟!
٭ ٭ ٭
هامشك أيها الغريب
هو أن ترى في مشروع أملهم الشائع يأساً صراحاً يجري ترويجه مثل خديعة ماثلة.
هامشك أيها الغريب
هو أن ترى في كل أجهزتهم وأدواتهم الشرك وقرينه، لئلا تُصاب بغدر الواقع زاعماً أنه الحقيقة.
هامشك أيها الغريب
هو حلمك الزاخر بكائنات الليل الجميلة، مثل وحش الأعماق الأليف،
هناك.. حيث نكون كلنا صادقين وأبرياء.
٭ ٭ ٭
ثمة أرواح غريبة لا تُحصى، تختار هامشها، متحصّنة بنفسها، بما تسميه الحرية، مكتفية من القوت بما يمنع الموت. تنسج كتابتها مثل ناسك يصلي دون أن يعبأ بالآلهة.
أرواح شريدة، رهيفة البأس قوية القلب، تنجو من شهوة السوق، ولا تطالها لوثة الأجهزة.
لهذه الأرواح الغريبة نقول: نخبك يا أرواحنا.
كاتب بحريني
القدس العربي