فاضل السلطاني يشعل معركة ترجمات “إليوت” إلى العربية/ شريف الشافعي
يبدو إنجاز ترجمة عربية لنص إبداعي عالمي بحدّ ذاته بمثابة عمل إبداعي جديد موازٍ، ومن ثم فإن هذا الإصدار العربي يخضع بدوره للنقد، وإن كان النقد يُسائل في هذه المرة حيثيات الترجمة كفنّ وعلم في آن. وبالرغم من التفات هذا النقد إلى معطيات الترجمة في المقام الأول، فإنه لا يهدر أيضًا قراءة العناصر والمفردات والمقوّمات الجمالية للعمل الأصلي، لكنْ في ضوء المقارنة بين وضعيتها الأولى في اللغة الأم، وحال صياغتها وتمريرها عبر الوسيط/المترجم.
وبقدر ما يكون العمل الأصلي ثريًّا ومؤثّرًا ومفجّرًا للاهتمام، بقدر ما تكثر ترجماته وتتعدد إلى اللغة الواحدة، وبالتالي تتصاعد الجدليات الساخنة وتتأجج المعارك حول تلك النسخ من الترجمات أو الإبداعات الموازية. وإن إقدام مترجم عربي على إعادة ترجمة نص شعري عالمي سبق تقديمه إلى العربية أكثر من مرة، هو فعل ينطوي بالضرورة على مبررات، من بينها ما هو موثوق به من استحالة خضوع الشعر بالذات لترجمة أمينة، ومن بينها كذلك بطبيعة الحال اعتقاد المُقدم على الترجمة الجديدة بأن الترجمات السابقة تستوجب الاستدراك والتصويب لما يشوبها من خطأ أو تقصير أو نقصان أو تحريف الخ، أو لأنها لم تعد متسقة مع العصر الحالي من حيث اللغة أو المفاهيم والتصورات أو آليات الترجمة وإجراءاتها وقواميسها الحية وتطبيقاتها المختبرية المتطورة يومًا بعد بيوم.
وإن المثير في الترجمة العربية الجديدة لأيقونة الشاعر الأميركي البريطاني تي إس إليوت” (1888-1965) “الأرض اليباب” (الأرض الخراب)، التي أنجزها الشاعر والمترجم العراقي فاضل السلطاني (73 عامًا)، وصدرت حديثًا عن دار “المدى” في بغداد (2021)، أنها جاءت مصحوبة بدراسة للمترجم حول ستّ ترجمات عربية سابقة للنص ذاته، حيث لم يكتفِ السلطاني، المقيم في بريطانيا، بطرحه المغاير لعمل إليوت الملحمي الأكثر شهرة، الصادر عام 1922، وإنما أخذ على عاتقه مراجعة الترجمات السابقة، ودخل في إشكاليات جادة معها، واتهمها بأنها مليئة بالأخطاء، وهذه الترجمات الستّ هي لكل من: (توفيق صايغ – أدونيس ويوسف الخال – لويس عوض – يوسف اليوسف – عبد الواحد لؤلؤة – ماهر شفيق فريد)، على الترتيب.
هكذا، يفتح كتاب “الأرض اليباب – وتناصها مع التراث الإنساني” لفاضل السلطاني مسارين عريضين للنقاش: فهو؛ من جهةٍ، ترجمة إبداعية جديدة لنصّ إليوت؛ أنجزها شاعر وأكاديمي محترف، مختص بالأدب الإنكليزي، وتحتمل هذه الترجمة بدورها المراجعة والتقييم والنقد. وهو؛ من جهة ثانية، نقد منهجي خصيب للترجمات التي نقلت رائعة إليوت الملغزة إلى العربية، وهذا النقد نفسه قابل أيضًا للنقد والاشتباك، ما يعني أن الكتاب يحمل أهمية مضاعفة، كونه يخوض هذه المواجهات كلها في مجال النقد المعني بالإبداع والترجمة، إلى جانب قيمته في إثراء فن الترجمة بنتاج رصين، يضاف إلى ما تم إنجازه من جهود ومحاولات، فيها ما فيها من الصواب والخطأ، إزاء التراث الإليوتي المهم، الذي يعد واحدًا من أبرز النماذج التأسيسية لمنطلقات الحداثة في العالم العربي، على مدار النصف الثاني من القرن الماضي.
بالإضافة إلى ذلك كله، فإن من دواعي الأهمية الأخرى للكتاب أيضًا أنه حفل بالهوامش والتوضيحات حول القصيدة وأجوائها، إلى جانب ما أثبته السلطاني في نهاية النص من شرح عام لمضمون القصيدة، حرصًا على تقريبها من ذائقة المتلقي العربي بطريقة أبسط، قبل أن يختتم كتابه بالدراسة المقارنة للترجمات العربية الستّ المشار إليها، مع إهماله عن قصد ترجمات عربية أخرى للعمل نفسه، بوصفها دون المستوى المأمول، وهي ترجمات: فائق متى، ونبيل راغب، ومحمد عبد السلام منصور.
لماذا هذه الترجمة الجديدة لقصيدة “الأرض اليباب”؟ تتفاوت الأسباب التي يفصّلها كلّ من المترجم فاضل السلطاني، والناقد السوري خلدون الشمعة، في تمهيدهما للكتاب، فيذهب الشمعة إلى إحالة الترجمات العربية في تعدديتها وتباين نتائجها إلى بيولوجيا داروين ونظرية النشوء والارتقاء، حيث تصبح الترجمة كما يفترض المرء نتيجة للتكرار داروينية في حرصها على الكمال والاكتمال، فالتكرار الذي تمثله تعددية ترجمة عمل أدبي مهم كالأرض اليباب، يظل دارويني المنزع، بمعنى أن ترجمة فاضل السلطاني الأخيرة تأتي من باب استكمال الترجمات العربية السابقة، وتصويب هناتها الهينات حينًا، أو تعديل كلماتها حينًا آخر، أو ربما اقتراح قراءة مدققة مستجدة في ضوء احتكام موضوعي للأصل الإليوتي.
أما المترجم، فإنه يستلهم مقولة بول ريكور بأن الأعمال العظيمة تشكل على مر العصور موضوع ترجمات عديدة، وذلك شأن أوديسة هوميروس، والإلياذة، وملحمة كلكامش، وغيرها. ومن ثم، فإن إعادة ترجمة “الأرض اليباب” قد تأتي في هذا الإطار بوصفها “ملحمة القرن العشرين”. ومع ذلك، فإن هذا ليس هو الدافع الأساسي لهذه الترجمة الجديدة لملحمة إليوت، وفق المترجم، الذي يبرهن غرضه الرئيسي من الترجمة قائلًا بوضوح “لقد قرأنا في أوقات مختلفة منذ الستينات عدة ترجمات عربية لهذه القصيدة، ووجدنا للأسف أنها تحتوي على أخطاء كثيرة في فهم النص الأصلي وفي مواضع مهمة، إلى الدرجة التي تعكس المعنى إلى نقيضه”.
هكذا يمضي السلطاني مباشرة إلى التأكيد على أنه يقدم ترجمة مختلفة، مغايرة، وأن عمله ليس المقصود منه التقليل من شأن الترجمات السابقة، ولا من الجهد الكبير الذي بذله المترجمون من قبل، ملتمسًا لهم الأعذار في ترجماتهم، التي أنجزوها في وقت لم تتوفر فيه دراسات نقدية كافية عن هذه القصيدة وعالم إليوت الشعري عمومًا، أو لم يتح لهم الاطلاع عليها، كما في وقتنا الحالي. ومن هنا، يمكن تفهم الصعوبات التي صادفها المترجمون المذكورون وغيرهم في ترجمة هذه القصيدة المركبة، التي هي عبارة عن قطع يبدو أن لا علاقة ظاهرية بينها، ولا يوجد نمو عضوي ينتظمها، لكن يوحدها، في النهاية، الموضوع العام الذي توحي به عبر استخدام ما سمّاه إليوت نفسه “المعادل الموضوعي”، ويعني به أنه لا ينبغي على الشاعر الحديث، بعكس الشاعر الكلاسيكي والرومانسي، التعبير عن عواطفه بشكل مباشر، بل عبر إيجاد مجموعة من الأشياء، ووضع سلسلة من الأحداث التي ينبغي أن تكوّن الصيغة الفنية لهذه العواطف.
ولعل ما تفوق فيه السلطاني على المترجمين السابقين، يعود إلى حرصه على تفهم قصيدة إليوت ككل على نحو دقيق، بخاصة أنها تستند في بنيتها إلى مصادر أنثروبولوجية وفلسفية وثقافية وشعرية من التراث الإنساني كله، في كل سطر منها تقريبًا، وتتناص مع الأساطير القديمة، اليونانية والرومانية والشرقية، مع إدخالها في النص مفردات من لغات أخرى، كالإغريقية واللاتينية والإيطالية والألمانية والفرنسية.
ولهذا السبب، كما يوضح السلطاني، يأتي إرفاقه بالكتاب ترجمة للفصل المتعلق بالقصيدة من كتاب “قصائد تي.إس. إليوت” لكريستوفر ريكس وجيم ماكيو، وهو سفر ضخم صدر بمجلدين عام 2015 في أكثر من 2000 صفحة، ونفد من الأسواق خلال أقل من شهر، ما يدل على أن قارئ القرن الواحد والعشرين، ابن التحولات الاجتماعية والثقافية والتكنولوجية الهائلة، ما يزال متلهفًا لمعرفة المزيد عن عالم إليوت الشعري، وقصيدة “الأرض اليباب” بالذات، بالرغم من مرور ما يقرب من قرن على صدورها، ومئات الدراسات التي صدرت خلال هذه الفترة الطويلة. وفي قراءتهما لإليوت، لم يبق المحرران ريكس وماكيو سطرًا من القصيدة، إلا وأحالاه إلى مصادره الأسطورية والدينية، والشعرية والنثرية، في كل التراث الإنساني وليس الغربي فقط. ومثلما قال إزرا باوند “كلما عرفنا إليوت أكثر، كلما كان ذلك أفضل”. ومن هنا، فلعل الترجمات الجديدة لإليوت تكون أكثر اتساعًا وتفهمًا وارتكازًا إلى العلم والمنطق.
ويكفي الاطلاع على أمثلة قليلة لمواضع الاختلاف بين ترجمة السلطاني والترجمات العربية السابقة، لتبيان ذلك التطور الدارويني الذي يعتقد به خلدون الشمعة لإثبات تفوق الترجمة الأخيرة، ومن ذلك اتفاق أربعة مترجمين على ترجمة القصيدة بعنوان “الأرض الخراب”، فيما يجزم السلطاني بأن صفة اليباب لأرض إليوت هي الأدق. فصحيح أن كلمة اليباب تعني في القاموس العربي الخراب، لكنها تعني أيضًا اليباس، والقصيدة كلها تتحدث عن أرض قاحلة، جافة حتى من قطرة ماء، فلا شيء هناك غير الصخور. والأسطورة الآرثرية، التي استند إليها إليوت، تشير هي أيضًا إلى الجدب والجفاف، فهي تتحدث عن الملك الصياد، الذي يرمز إليه إليوت، بالرجل ذي العصيّ الثلاث، كما رسم في ورق التاروت، الذي كان يلقب بالرجل المجروح أو العاجز. وكان بحسب الأسطورة آخر سلسلة الملوك الذين حافظوا على الكأس المقدسة، لكنه كان عاجزًا عن الوقوف نتيجة جرحه لساقيه بسيفه. وكان كل ما يستطيع فعله هو الصيد بقاربه في نهر قريب من قصره. ولكن تذكر قصص أسطورية أخرى، أنه أصيب في أعضائه التناسلية، فأصبح عاجزًا عن الإنجاب، ومن هنا انحسر الماء عن أرضه، وحل الجفاف، لكن الفارس باسيفال أنقذ الملك، فعاد النماء للأرض.
وفي كتاب السلطاني، الجدير بالمناقشة الثرية لما فيه من طرح جريء مختلف، الكثير من مثل هذه الإشارات إلى الهنات والأخطاء التي وردت في الترجمات العربية السابقة، ومنها مثلًا ترجمة الشاعر اللبناني توفيق صايغ للمفتتح الشهير بـ”شر الشهور نيسان” بدلًا من “نيسان أقسى الشهور”، والفرق كبير بين الشر والقسوة، فنيسان هو شهر قاسٍ للنسبة لأولئك الميتيين، لأنه بداية الربيع الذي تتفتح فيه الطبيعة وينبثق الجمال، بينما هم عاجزون عن التمتع بخيراته، وهذا يضاعف من آلامهم، ويزيد الأمر كآبة اختلاط الذكرى بالرغبة.
ومن النماذج الأخرى، العبارة التي ترجمها عبد الواحد لؤلؤة إلى “كومة من مكسر الأصنام”، ولويس عوض إلى “مهشم الأوثان”، ويوسف اليوسف إلى “كومة من الأوثان المهشمة”، ويرى فاضل السلطاني في دراسته الشيّقة الشائكة أنها “ترجمات بعيدة عن روح النص”، حيث أقحم المترجمون ثقافتهم الإسلامية على نص هو ابن ثقافة أخرى، لا تعرف الأصنام أساسًا، وكان يمكن بكل بساطة ترجمتها بـ”كومة صور مهشمة”.
المدن