وِسادات السوريين الخامدة/ عبد الله فيصل كيوان
يتابع السوريون رحلة حلمهم البسيط، الذي يقتصر على متابعة لقمة العيش، يوماً بيوم، ضمن روتين يومي قاتل، لا جديد فيه يُذكر، ولا بصيص أمل، إذ لم يتجاوز الحلم السوري ربطة الخبز، مع قوت يومي، لإكمال ما تبقّى من رحلة بحثهم الشاقة عن الأمل والاستقرار. فمن حيث المبدأ والمنطق، لم يُخطئ كاتبنا المسرحي السوري الراحل سعد الله ونوس، عندما قال: “نحن محكومون بالأمل، وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ”. ربما يكون الأمل، هو الضوء الوحيد الذي جعله متمسكاً بآخر رمق في الحياة، بدءاً بفنّه، ومؤلفاته، ومسرحياته، وانتهاء بمرضه الذي تحداه بألم وعذاب شديدين، قبل أن توافيه المنيّة في منتصف عام 1997.
ربما قالها ونوس، من باب دافعه الشخصي البحت، أو محاولةً منه لتلخيص ما يدور حول هذا العالم كله، فهل نجح في تلخيصه؟ أم أن الحياة الآن مربوطة ومحكومة بالانتظار، أكثر من الأمل؟ مقولته تلك، تنطبق على السوريين بشكل خاص، وتلامس واقعهم أكثر من أي زمن مضى، فمَن المُلام الأول في ثورة الانتظار تلك؟
تأتي أولاً السلطة، بوعودها الشفهية طوال هذه السنوات، وأكاذيبها بالأمل في جنيف، وتكريسها لعبودية العمل، وتناقضاتها في مستقبل مشرق لا يُرى، لا من خلال العين المجردة، ولا من خلال الشق السفلي لباب مغلق حتى. وثانياً، يأتي الشعب، بخوفه وجلده لذاته. ولأننا كشعب، نخاف من أن نخرج إلى الشارع، وننادي بالحق بالحياة التي تخصنا، تضامنّا بشكل كبير مع القضية الفلسطينية، وخرجنا بصوت واحد، وقلب واحد. الجميع نادوا فلسطين، وكأننا نطالب بحريتنا التي لم نحصل عليها. فبدت انتفاضة فلسطين، كأنها انتفاضة على ذاتنا العاجزة عن التغيير في البلد، وعلى الغضب الدفين المقموع فينا منذ سنوات، ذاك الذي لم ينتج إلا نهايات وخيمة. ثم نسمع صوت ونوس، لو كان حياً، وهو يسأل متعجباً: أين صوت الصمت المنتظر منذ عشر سنوات؟ ولماذا نخاف اليوم، فننتظر الأمل كي يتسرب من أسفل الباب ذاك؟
نعم، لسنا أولاد اليوم، في الانتظار، بل نحن أسياده، ولا شك أننا متفقون على أن الرابط الوحيد المشترك بيننا، هو الانتظار. نعيشه من دون أن نعي وجوده. ومن المؤكد أن أقصى مراحل الألم، هي فقدان لذة الانتظار، فيصير ألماً نعيشه، ولا ندركه. ولا يأتينا إلا بقدوم بائع الأمل في شوارع هذا البلد، وبيده أوراق اليانصيب، ينادي: “يانصيب، يا بتخيب، يا بتصيب. أو يانصيب، جرّب حظك”.
وهنا يصبح الحلم واقعاً، نجربه للحظات مع ملذات يومية بسيطة، لنقترب أكثر من بائع الأمل، فنستيقظ من علو صوته، ونتردد في شراء ورقة ما، خشية فقدان قوتنا اليومي. وهو أيضاً مثلنا، يريد أن نشتري منه، ليكمل يومه بسلام وهدوء، ويخاف من أن نشتري، في كُلِّ مرة يبيع فيها، ورقة قد يندم على بيعها، لأنها قد تكون ورقة العمر التي أهدرها بالمجان، مقارنةً مع نسبة الربح، في حال كانت رابحة أكثر من جائزة الأمل التي يُقدمها بمبلغ زهيد، أو شبه مجاني. فبائع اليانصيب هو المقصود في مقولة ونوس، على الأقل في وقتنا هذا، وهو مُضيف الألم إلى مقولته.
عندما كنت مقيماً في دمشق، كنتُ أمرّ يومياً من سوق مجاور، في الذهاب إلى عملي، والإياب منه. وفي أحد الأيام، كنت على موعد مع صديقة جديدة جداً. في اللقاء الأول، كانت سريعة البوح، تتحدث كثيراً عما تعانيه. أبرز ما ذكرته في حديثها، كان أنها تنتظر اللقاء بأمّها التي هربت من البلد، منذ بداية الثورة في سوريا. هجرتْ البلد من دون سابق إنذار. اختارت الرحيل، بدلاً من الموت في سجون الدولة. قالت صديقتي: “لا معنا مصاري نقدر نسافر لعندها أنا وأختي، ولا هي معها مصاري حتى تساعدنا نسافر. يا الله… والله أنا بعدني صغيرة كتير على هيك حياة، بتمنى أرجع شوفها، ولو مرة واحدة بس”. كانت حزينة جداً، وتعيش على أمل لقاء أمها مرة أُخرى، أو أخيرة، وأنا مستمر في الإنصات، ومعرفة الصديقة التي كانت تنتظر من يؤنس وحدتها، وفراغها.
انتهى اللقاء، وعدتُ إلى المنزل كما في كل يوم، ومررت من السوق المعتاد، لأجد الحياة كما كانت يوم أمس. أرى بائعي البسطات جالسين، ورجلاً مُسناً يدخن وهو ينتظر شيئاً ما، وبعض الشبان المطلوبين إلى الخدمة العسكرية، يوزعون أنظارهم يميناً وشمالاً، خوفاً من دورية أمن مفاجئة، والأمثلة كثيرة. ثم وصلت إلى المنزل، لأجد رسائل في هاتفي تنتظر الرد. الخلاصة تكمن في الانتظار والأمل، الجميع ينتظرون اللحظة التي تعيد لهم أملاً كبيراً، في هذه الحياة. نحن غير قادرين على فعل أي شيء قد يغير منظومة الحياة قليلاً، ولكن، لأننا جميعاً نستيقظ كل يوم، ونبدأ من جديد، فنحن نحلم ونأمل أن يكون الغد أفضل، ولو بنسبة قليلة. لقد حوّل ذلك علاقاتنا الاجتماعية إلى علاقات ميكانيكية. هكذا يحدث مع بائع الأمل، والمشتري؛ يقوم الأمل والألم بتبادل الأدوار عند كل عملية بيع تحدث بينهما؛ بائع الأمل يأخذ الألم، ويعطي الأمل للمشتري. البائع يتألم من بيعه ورقةً قد تكون فرصة العمر له، لو كانت الرابحة، ولكنه فكر بربح بسيط منها، قد يحقق أمل المشتري في ربح الجائزة الكبرى، فيزداد ألم بائع الأمل، لو عرف أنه خسر ورقته الكبرى، وهكذا. كل يوم مربوط باليوم الذي يسبقه، ويوم الغد مصحوب بـ”إذا”، و”لو”. “إذا” الشك والخوف، و”لو” اللوم والحسرة.
كلاهما ملعب يجمع بين الألم، والانتظار، والأمل، في مباراة ثلاثية نتيجتها التعادل، من دون تتويج بطل جديد غير الاعتياد. فما الاعتياد إلا فقدان الرغبة في استمرار الحياة من دون اتخاذ قرار إنهائها، أو تغييرها. الفعل يكمن في متابعة ما يجري فيها بإنصات شديد للصمت، فحسب.
الصمت في دمشق، هو الحل الأمثل لنسيان الماضي، والتماشي مع الحاضر، والتأقلم مع العجز عن التغيير، أو القيام بفعل يحرك الثبات المعيشي قليلاً، نحو الأفضل، إذ وصل العجز إلى مرحلة ثبات الانحدار المعيشي. هكذا صرنا نعيش على انتظار قدوم الأمل مجدداً، بحياة، أو بمستقبل أفضل من الحياة الحاضرة. المشكلة الحقيقية في عدم فهمنا لمقولة ونوس، تكمن في عدم ربطها بالحاضر، وقراءة الشطر الثاني منها فقط: “وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ”. على عكس بائع الأمل، فهو القارئ الذي يفعل ما يقوله الشطر الأول من المقولة؛ لا يمل من الأمل، ولا ينتظره، ولم يعتد عليه، ليس لأنه نغصة العمر، أو ذاك الضوء المنتظر من أسفل الباب، وليس لأنه فقير جداً، أو عاجز عن امتهان أي مهنة أخرى، بل لأنه يفقده كل يوم مع كل ورقة أمل يبيعها، حتى يعيش الأمل ألماً، وينام معه على وسادة خامدة، كسائر وسادات السوريين.
رصيف 22