منوعات

الأرض المسطحة بالعربي! هل هي مزحة؟/ عمار المأمون

لا يغيب عن المتهكمين والساخرين الفتاوى الدينية التي ظهرت بداية النصف الثاني من القرن العشرين، والتي تنفي كروية الأرض، وتنتقد وتكذّب صور الهبوط على القمر. لم يكن الأمر حينها مجرد رد فعل على الاكتشافات العلميّة “الغربيّة”، كما في فتاوى ابن باز وابن عثيمين التي لا داع لتفنيدها، ومحاولات تحديد مكانة من يؤمن بالكروية: هل هو فاسق، مؤمن، أو لا حرج عليه؟

فهذه الفتاوى امتداد لجدل طويل سابق لذلك، يتمحور حول إثبات كروية الأرض ضمن النص القرآني، والاستشهاد بآيات “الدحي” وجري الكواكب، ناهيك أن هذه الاكتشافات تزعزع ثوابت الدين نفسه، وتنفي عنه قدرته على “تفسير كل شيء”.

عادت نظريات الأرض المسطحة للظهور مع استلام دونالد ترامب لرئاسة الولايات المتحدة، وأًصبحت ظاهرة أمريكية بامتياز لا يمكن إنكار حماقة المؤمنين بها، فتجاربهم “العلميّة” مثيرة للسخرية، واتهاماتهم بأن الجميع (ناسا وشركات الطيران وشركات الأقمار الصناعية، والطيارين ورواد الفضاء وكل العلماء في العالم) متآمرون لإخفاء حقيقة أن الأرض مسطحة، لا يمكن إلا الضحك بوجههم.

لكن المرعب في الموضوع، هو تجمع هؤلاء الأفراد وإمكانية وجودهم، وهو الأمر الذي جعلهم محط اهتمام الكثيرين، فإمكانية وجود جماعة تنكر حقيقة علمية لا جدل فيها، يثير القشعريرة، ويكشف لنا عن طبيعتنا كبشر قادرين على إنكار ما هو حرفياً واضح للعين المجردة.

لكن، ما يثير الاستغراب (والضحك)، هو صفحة الأرض المسطحة العربيّة التي “تم إنشاؤها لكشف الحقيقة، وبيان كذب وكالة المسيح الدجّال ناسا”، والتي تمتلك إلى الآن ما يفوق 7000 إعجاب، 8000 متابع، والتي يبدو أنها لم تنشط منذ عام 2019، وتأسست للمرة الأولى من الجزائر، حسب فيسبوك، لكنها مع ذاك تستقطب تعليقات الكثيرين، المصدقين والمكذبين.

ما يهمنا حقيقة في هذه الصفحة، هو الصور والـArt work الذي أنتجته ، وطبيعة بناء الحجة لإثبات عدم كروية الأرض، والاثباتات التي تتحرك بين المنطق الديني والحلول المنزلية والمشاهدات اللاعلميّة، تلك التي تشابه فيديوهات “اصنعها بنفسك”، أي أنتج حقيقتك وحيداً واستخدمها وربما انشرها للعلن!

الواضح أن الصفحة تراهن في منطقها على النص القرآني والتعاليم الدينية، وتتهم ناسا بأنها تمثل الغرب الكافر والمسيح الدجال وغيرها من الاتهامات الشعبويّة، لكن مثلاً، في صورة بعنوان “الأرض مسطحة عقلاً ونقلاً”، نشاهد الكعبة بوصفها مركزاً مفترضاً للأرض، وتقول الفرضية بأن الأرض لو كانت كرويّة لما كان من داع لاختلاف اتجاه القبلة، فبما أنها المركز، أي اتجاه لا بد له أن يمر منها.

في حين أن ضرورة تغيير الاتجاه هو ما يثبت نظرية الأرض المسطحة، كوننا بحاجة لتغيير الاتجاه في حال تنقلنا في أنحاء الأرض، ويترافق ذلك طبعاً مع الآيات التي تحوي كلمات “سطحت، مدت، مهاداً، فراشاً” التي تدل بمعانيها اللغوية على سطح لا كرة.

دليل آخر يتمثل في تموضع السماء والأرض، ومناقشة مفهوم إنزال الماء من أعلى نحو الأرض، وطبعًا عبر كولاج من الآيات القرآنية والأسهم، يكشف لنا القائمون على الصفحة أنه لا يوجد “أعلى” إن كانت الأرض كروية، أي لا مكان لنزول المطر، بالتالي الأرض مسطحة كما قال الله في محكم تنزيله، يترافق الأمر مع حزورة، يمتزج فيها الجد واللعب لدفع المشاهد “لاستخدام عقله” واكتشاف الحقيقة بالمقارنة مع القرآن الذي لا شك ولا ريب فيه.

يتفق الشكل الفني والتوضيحي الذي تقدمه الصفحة مع معجزات محمد بن عبد الله، إذ نشاهد كيف تم الإسراء والمعراج ضمن مخطط الأرض المسطحة واستحالة كرويتها، فلو كانت مكورة وتدور لما عرف البراق أين سيحط بعد رحلته، وهذا ما يتناقض مع الحكاية القرآنية المليئة بالريبة.

نحن أمام نماذج تعكس أسلوب التفكير القائم على الملاحظة الشخصية البحتة، والتفسير البسيط واللغوي للنص القرآني، للوقوف بوجه ماكينات ورياضيات “ناسا”، وهذا بالضبط ما يثير الاهتمام في المؤمنين بالأرض المسطحة، معارفهم قائمة على “الأنا” وقدراتها المعرفية، سواء كنا نشاهد رسومات أو فيديوهات مترجمة عن تجارب مبتذلة لتأكيد كروية الأرض، أو كلام شيوخ ورجال دين يدافعون عن الحقيقة، ويسخرون من خدعة الهبوط على القمر.

جغرافيا العالم المسطح وخصوصيّة المياه

يقسم العالم إلى أرض مسطحة وفوقها سماء، هذه الأرض محدودة بجبال جليديّة تمنع سقوط الأشياء من الأطراف، ونحن كبشر، كحال الجن، الموجودين طبعاً، عاجزون عن اختراق السماء لأننا لم نصمم لذلك، وكل صور اختراق السماء والوصول إلى الفضاء مفبركة بل إن بعض المركبات ارتطمت بالسماء وسقطت، كل هذا منطقي.

لكن الأبرز هو الهجوم على الجاذبية الأرضية المحيطة بالأرض المكورة، وإنكارها بشدة، فلا جاذبية على الأرض، مجرد أجسام تسقط، والإيمان بالجاذبية ليس إلا “استحماراً” يتعارض مع الفطرة، فنحن نعلم أنه حينما تقع الأشياء من أعلى إلى أسفل أو تصعد من أسفل إلى أعلى، فذلك يتعلق بكثافتها وليس بفعل “الجاذبية”، فلو كانت تلك القوة التي تجذب البحر هي نفسها التي تجذب الإنسان لهلك الإنسان وكل المخلوقات على البر!!

الجاذبية تتعارض مع الفطرة أما الكثافة فتتوافق مع الفطرة”، وهنا يظهر القانون الرياضي: “الكثافة = الكتلة / الحجم” دون أي ذكر للجاذبية، التي أضيفت من قبل نيوتن من أجل إخفاء الحقيقة، وهنا بالطبع لا نعلم متى بدأت مؤامرة الأرض الكروية، وفي أي تاريخ بدقة، ومن قرر الترويج لها.

إنكار الجاذبية يرتبط دوماً بسقوط الأجسام، فإن كانت تجذب كل شيء، “لماذا لا ينجذب البالون إلى الأسفل؟”، لا وقت لدينا لإثبات ذلك، لكن المهم أن هناك تخوفاً من هوة ما موجودة خارجاً، هوة خالية لا يمكن الحركة ضمنها، ما يعني أن الأرض المسطحة هي الاستثناء الوحيد في عالم “فارغ” حتى القمر نفسه، ليس إلا “مادة شبه شفافة”، أي هو طيف من نوع ما، لا يمكن الهبوط على سطحه ناهيك عن استعماره واكتشاف جغرافيته التي صنعتها هوليوود وستانلي كوبريك.

أبرز ما يثير العجب في جغرافيا العالم المسطح هو الماء، تلك المادة التي تدهش “علماء الأرض المسطحة” بخصائصها، فهي مضادة للجاذبية، ومثال نهر النيل واتجاهه للأعلى أكثر حجة تكراراً، أيضاً هناك سؤال لماذا لا يقع الماء لا يقع من أطراف الأرض الكروية، والسبب طبعا، أنها مسطحة ولا وجود لجاذبية “تمسك” الماء في مكانه، الأهم، لم الماء لا ينحني بفعل الجاذبية ويتحول إلى كرة حين يكون في إناء ما إن كانت الجاذبية من كل الأطراف؟

هناك ريبة دائمة حول الماء، خصوصاً أنه مولد الأحلام، ويأتي من أعلى ويبق في الأسفل، حسب نظرية الأرض المسطحة، وتوافره يجعل التجربة والتلاعب فيه بيد الجميع، وكأن الماء محرك أساسي لكل أحلام/ هلوسات الأرض المسطحة، لكنه في ذات الوقت هبة من الله أنعم بها علينا وحدنا فقط.

هناك مركزية إنسانوية -دينية لدى خطاب الأرض المسطحة، فلا أحد غيرنا على هذه الأرض ولا داعي للبحث خارجاً، والتركيز يجب أن يكون على مشكلاتنا نحن، من على الأرض، لا تضييع الوقت والمال في “الدجل والخرافات”، هنا يظهر الاستخفاف الهائل بالعلم، والذي سببه الفردانية والقدرة على التواصل مع “الجمهور” وابتذال العلم نفسه، فمفهوم التجربة العلمية تحيل إلى شخص أمام كاميرا يصب الماء في الكأس ليثبت زعمه، والمرعب أن هناك من يصدق ويرتّل كلام الله فخوراً بهذه الاكتشافات.

نكرر، المخيف في نظرية الأرض المسطحة لا النظرية نفسها، بل المؤمنون بها وتواجدهم الكبير، فمن يؤمن بأن الأرض مسطحة أو أن كل العلوم كذب، لا يمكن أن نتوقع ما الذي سيؤمن به لاحقاً، وكيف سيقوده إيمانه للتصرف، وهذا بالضبط يشابه المؤمنين بأن فيروس كورونا مؤامرة عالميّة، كيف سيتصرفون لاحقاً؟ ما هي التجارب التي سيقومون بها؟ وأين الله من كل ذلك؟

رصيف 22

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى