صموئيل بيكيت: الفشل الدائم والترجمة المستحيلة/ نزار آغري
صموئيل بيكيت: الفشل الدائم والترجمة المستحيلة أوصل الفكرة إلى ذروتها. اللغة باعتبارها البطل الوحيد.
بعد الحرب العالمية الثانية، وجد الكاتب الإيرلندي صموئيل بيكيت، نفسه، محشوراً بين عدد وافر من المذاهب والتيارات الأدبية والفكرية من الماركسية والفوضوية، وصولاً إلى الوجودية والسوريالية والدادائية والفينومونولوجية وسواها، هو الذي بقي بعيداً منها، كلها. كان، في قرارة نفسه، يرى أن هذه المذاهب والإتجاهات، شأن العالم الذي تعبّر عنه، مجرد عبث. صياغات طيبة النية بل ساذجة لا أساس لها في أعماق الكائن الفرد.
إنها، أي هذه الصياغات، انشداد لخلاص وهمي لن يأتي.
لم يضع بيكيت نفسه خارج العبث بل رأى أنه جزء منه. كلنا يجلس في المركب، وكلنا يمضي نحو المجهول.
الأدب جزء من العبث. الكتابة، أكانت رواية أم قصة أم مسرحاً، ليست سوى وصف وتقرير حال.
أقصى ما أمكن فعله، في هذا الحال، هو رفض أن يكون داخل السفينة. أراد أن يسير في خضم البحر ولكن ليس داخل السفينة بل بموازاتها.
أشار أميل سيوران إلى أن بيكيت لا يعيش داخل الزمن بل الى جانبه. كان يقرأ “الكوميديا الإلهية” باستمرار وكان مشدوداً بشكل خاص إلى فصلي المطهر والجحيم. يظهر تأثره بالكوميديا في حال أبطاله المغضوب عليهم، التائهين، المعذبين، القابعين في ما يشبه الجحيم، الغارقين بشكل دائم في المعاناة: المعاناة الجسدية والنفسية والذهنية والروحية.معاناة الأمراض والعاهات والتشوهات والرغبات التي لا تُلبى.معاناة الإنتظار. معاناة التواصل. معاناة العجز في التعبير عن الذات. معاناة الفشل في الوصول إلى هدف.
استراغون، في انتظار بيكيت، تجسيد دقيق لهذه المعاناة.
الثرثرة والهذر والدوران حول النقطة نفسها كل الوقت. أليس هذا ما يفعله الإنسان في حياته؟
لا يأتي الإنسان بجديد، أبداً، لأنه لا يمكن خلق جديد داخل حفرة، أي حفرة الكائن البشري.
أبطاله يشعرون بالإحباط لأنهم يفشلون في الوصول إلى ما يصبون إليه. يسعى كل واحد ويجاهد ويكدح ويتعب ويشقى وفي الأخير لا يحصد سوى الفراغ. يصل إلى النهاية ليكتشف، متأخراً، أن ليست ثمة نهاية.
كل شيء يقوم بمعزل عنا، لم نخلق شيئاً ولم يطلب أحد رأينا في أن نكون موجودين ولا في ما إذا كنا راضين بهذا الكون الذي يحيط بنا.
كان بيكيت يكره اللقاءات والإجتماعات ويتجنب الإختلاط بالناس. وحين حصل على جائزة نوبل قال لزوجته: وقعت كارثة. رفض الذهاب إلى استوكهولم لتسلم الجائزة. رأى أن سعينا للتعبير عن العالم ينهض من رغبتنا الأنانية في الإستحواذ عليه، لكننا إذ نفعل ذلك، أي حين نعبّرعن هذا العالم، فإننا في واقع الحال نشوهه، ننقل صورة مزيفة عنه، ثم نقضي الحياة كلها كي نعيد تحسين الصورة.
الكاتب يقوم بالضبط بهذا العمل، لكنه يفشل دوماً. يحاول بيكيت القول إن الكاتب لا يملك أي شيء وبالتالي لا يمكن أن يدير دفة العمل لأن اللغة هي التي تقوده. اللغة الكاتب تجر، تقوده حيث تشاء. هي التي تقول أو لا تقول. تضيف أو تحذف. تفصح أو تضمر. تصيح أو تصمت. تقرر ما تقول وكيف تفعل ذلك.
هل أراد بيكيت أن يقول شيئاً؟ أن يوصل رسالة؟ أن يغير العالم؟ لا، الكلام عاجز عن الأخذ بيدنا لنقول ما نريد قوله حقاً. نحن سجناء داخل أنفسنا لأننا نفشل في التعبير عن أنفسنا. لا يعود الفشل إلى كسل أو قلة حيلة بل هو في صلب تكويننا. يقول على لسان مولوي: في كل مرة أقول: قلت هذا، أوقلت ذاك، أو أتكلم بصوت عال أو تنهض عبارة ما، أنيقة وواضحة وبسيطة إلى هذا الحد أو ذاك أجد في نفسي الرغبة في أن أنسب للآخرين كلمات ذات معنى. أنا والحال هذا لا أملك شيئاً سوى الرضوخ للعرف السائد: إما الكذب أو الصمت.
اللغة عاجزة عن الإتيان بأي شيء لأنها مقيدة بهذا الكائن. ما نقوله، باللغة، في محيطنا، هو إما التظاهر بالفهم لإرضاء الآخرين أو إطلاق صرخة غير مفهومة. اللغة التي نفهمها كاذبة واللغة النقية الخالية من الكذب لا نفهمها. كانت نصوصه صراعاً مع اللغة. تأكد له في الأخير أن الأدب الحامل للمعاني لا يمثل فناً صافياً لأنه يستعمل لغة ملوثة بهواجس وأفكار ونزوات الكائن في تهافته الرخيص على العيش. الفن الحقيقي هو ذاك الذي لا يحمل أي هدف لأن هذا هو مآل الكائن البشري: ليس له هدف فعلي.
في مسرحياته ورواياته تدرج شيئاً فشيئاً نحو اللغة الخالية من “الشوائب”. اللغة التي ترددها الشخصية كي لا تقول شيئاُ. يمكن القول، مرة أخرى، أن استراغون، في انتظار غودو، هو تجسيد لذلك.
في نصه الأخير أوصل الفكرة إلى ذروتها. اللغة باعتبارها البطل الوحيد.
عنوان النص هو:
“Worstward Ho”
(ليست هناك أية إمكانية للإتيان بترجمة صحيحة لهذا العنوان. اقتراحي للترجمة هو. نحو الأسوأ، هيا!). قطعة نثرية صغيرة بحدود خمسة أو ستة آلاف كلمة (الغريب أن النقاد يعتبرونها نوفيلا، أي رواية صغيرة). النص في الأصل محاكاة ساخرة لنص كان تشارلز كينجسلي كتبه عام 1983 بعنوان: Westward Ho! (وتكون ترجمته في هذا الحال: نحو الغرب، هيا!).
وويست وورد هي قرية صغيرة تقع في شمال بريطانيا. استفاد أهل القرية من نص بيكيت فأقاموا فندقاً ومنشأت ترفيهية تحمل اسم النوفيلا ولم ينسوا إضافة إشارة التعجب نفسها التي وضعها بيكيت في عنوان نصه.
اللغة في هذا النص مقطوعة من شجرة. بلا أصل وفصل. لغة طارئة، منزوعة من حمولة المعنى. تعود اللغة إلى أصلها، أي إلى كونها تراكيب صوتية. بهذا المعنى فإن اللغة ليست وسيلة بل جزءاً من الكائن. إنها ركن من أركان عالمه.
لا شخصيات، لا حبكة، لا أحداث. لغة وحسب. لغة مجردة من الحواشي والإحالات والإستطرادات والإستعارات والتشابيه والزخرفة البلاغية. لغة عارية، مقطرة، خرجت من شرنقتها الخاصة. من العدم، أي من دون محمول دلالي. هذه القصة تتحدى القارىء، كل قارىء، ليس لأنها حبلى بالرمز أو المعنى بل بالعكس لأنها ليست كذلك. عذراء لم تمسها يد. القارىء مجبر على استخلاص الرحيق بيديه. أي أن يساهم، شاء أن أبى، في خلق القصة.
بطيبعة الحال سوف يفعل ذلك مستنجداً بذاكرته فيمنحها قواماً ومغزى ودلالات من عنده. ستكون قصته الخاصة التي لا تشبه قصة أخرى. سيقوم بملأ النص بشخصيات وسيرسم وجوهاً ويركب حوادث ويدير حورات. ستكون القصة مثل لعبة مرايا، كل من يقرأها يجدها تعكس دخيلته. أي أنها قصة كل واحد منا.
كتب بيكيت: الهدف النهائي للفن هو الفشل. أن تكون أديباً يعني أن تفشل.
أن تفشل في كل شيء: في الخطاب واللغة والحبكة والحوار.
وهو كتب في هذا النص:
Try again. Fail again. Fail better.
“جَرِّب ثانية، إفشَل ثانية، إفشَل بشكل أفضل”.
ليس ثمة أمل كبير في أن ينجح القارىء في مسعاه. لأنه، هو الآخر، محكوم بالفشل.
كما هو واضح فإن ترجمتي فاشلة. هو لم يكتب: إفشَل بشكل أفضل، بل كتب: إفشَل أفضل.
هذه هي الفقرة الإفتتاحية للنص.
Say on. Be said on. Somehow on. Till nohow on. Said nohow on.
Say for be said. Missaid. From now say for missaid.
Say a body. Where none. No mind. Where none. That at least. A place. Where none. For the body. To be in. Move in. Out of. Back into. No. No out. No back. Only in. Stay in. On in. Still.
All of old. Nothing else ever. Ever tried. Ever failed. No matter. Try again. Fail again. Fail better.
First the body. No. First the place. No. First both. Now either.
أرى من المستحيل ترجمة هذا النص. من المثير أن يجد أحدهم في نفسه الجرأة للقيام بذلك. سنرى إلى أي حد هو فاشل، أي ناجح بالمعنى البيكيتي.
المدن