كتاب “دم الأخوين” لـفواز طرابلسي.. قراءة في وظائف العنف وطقوسه في الحروب الأهلية/ مصطفى ديب
يقيم الكاتب والمفكر اللبناني فواز طرابلسي في كتابه “دم الأخوين: العنف في الحروب الأهلية” (رياض الريس للكتب والنشر، 2017)، روابط بين الحرب الأهلية اللبنانية، والحروب الأهلية عمومًا، من جهة، ومجموعة من العادات والطقوس الدينية والأعراف القبلية المختلفة من جهةٍ أخرى. ويقدّم، عبر الوصل فيما بينها، قراءة جديدة في أعراف تلك الحرب، وما ترتب عليها من عنفٍ، وخطفٍ، ونهبٍ، وعمليات ثأر فردية وجماعية متبادلة.
“البربارة” بين العنف والنهب وإعادة توزيع الثروات
يلقي طرابلسي الضوء، في البداية، على العلاقة التي جمعت بين الحرب الأهلية اللبنانية و”عيد البربارة”. فالأخير، وهو طقس مسيحي ريفي له دلالة اجتماعية مباشرة ترتبط بالعمل، على اعتبار أن القديسة بربارة، صاحبة العيد، هي شفيعة العمال والحرفيين وجميع من يمارس أعمالًا شاقة وخطرة؛ يحمل في متنه شكلًا من أشكال العنف الذي اكتسبه في المدينة، بيروت، التي وصل إليها مع المهاجرين الذين جاؤوها من الريف.
استحدث الوافدون إلى بيروت من الريف، ومعهم بعض أبناء المدينة، صيغة جديدة من طقس البربارة، لا تلتقي مع الأصل إلا في الشكل فقط. فبينما اقتصرت طقوسها في الريف على طواف الفقراء على بيوت الموسرين، في ما يشبه حفلة تسولٍ جماعية الغاية منها طلب المال والإحسان دون حياء، تحولت البربارة في بيروت إلى مناسبةٍ يذكّر فيها فقراؤها مترفيها بوجودهم، عبر الطواف في أحيائهم لا من أجل المال، بل من أجل غاياتٍ أخرى مختلفة، يتقدمها إعلان الهوية، وتكريس حضورها، والقول بأن المدينة هي مدينتهم أيضًا، دون أن يخلو الأمر من ممارسة العنف، بصرف النظر عن أشكاله ودرجاته.
هكذا، تتحول “البربارة” إلى نوعٍ من أنواع الانقلاب في النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي الطبيعي للأشياء، ذلك أنها تحتوي على معظم عناصر الاحتفال الكرنفالي، بما هو طقس غايته الأساس، ووظيفته الأولى، بحسب المؤلف، خلق لحظة زمنية من الهروب والحرية والمساواة.
في الأشهر الأولى من الحرب الأهلية اللبنانية، اكتسى العنف طابع الاحتفال الكبير بعيد البربارة. وفي هذا الاحتفال، انقلب النظام الاجتماعي، وصار العيد أشبه بعملية “إعادة توزيع عمومية للثروات”، حيث انتشرت عمليات النهب التي يرى طرابلسي أنها تحقيق عملي لإعادة التوزيع هذه، التي حدثت بفعل تناوب المقاتلون من جانبي خطوط التماس، على نهب وسط المدينة، حيث يتمركز أغنياؤها. هنا، يقول المؤرخ اللبناني إن الفقراء الذين كانوا قبل الحرب يجتاحون شارع الحمراء، ليلة رأس السنة، ليفرضوا عالمهم، رمزيًا، على الأغنياء؛ اجتاحوا بعدها وسط المدينة، مسلحين، لإقامة ما يسميه “الحفلة العربيدة” من إعادة التوزيع العمومية لمحتويات المرفأ وأسواق الوسط التجاري.
“البربارة”، بهذا المعنى، هي انقلاب حقيقي في النظام الاجتماعي، ولكنه انقلاب مؤقت وزائل وفق مؤلف “ثورات بلا ثوار”. فالنهب، نهب وسط المدينة، افتَتح وظيفة جديدة للعنف هي الارتقاء الاجتماعي وإعادة توزيع الثروة. ولكنه، بانسحاب الجموع البشرية العادية، إن صح القول، لصالح الميليشيات التي احتكرت النهب، تغيرت وظيفته من إعادة التوزيع العمومية، إلى إغناء القلة، الميليشيات، على حساب الكثرة. مما يجعل من العنف الذي كان، في البداية، وسيلة من وسائل التسوية العامة وإعادة توزيع الثروة، أداة للنهب المافيوي وولادة تمايزات اجتماعية من نمط جديد خلال الحرب.
إهانة الأمهات وهتك الأعراض
تتحول الطوائف في الحروب الأهلية إلى مسوخ حقيقية وفق تعبير فواز طرابلسي. وتستعير، في سياق هذا النوع من الحروب، أعرفها وقيمها والعَصَب، من تكوينات اجتماعية أكثر عضوية، هي الأسرة والعشيرة والقبيلة. على أن تستمد، في المقابل، مادتها التعبوية الإضافية من المرجعيات الدينية والمذهبية. والحديث عن الأسرة، في هذا السياق، غالبًا ما يرتبط بالأم التي تجمعها علاقة معقدة ومتشعبة بالحروب عمومًا، والأهلية منها خصوصًا. فهي، عدا عن أنها أكثر من يختبر الفاجعة في الحرب، قد تكون دافعًا أو سببًا في ممارسة العنف والقتل، لا سيما بالنسبة إلى أبنائها، عند تعرضها للإهانة، بصرف النظر عن شكلها. يقول الكاتب هنا، للدلالة على العلاقة المميزة التي تربط القاتل بالأم، إن: “القتلة خصوصًا، لهم أمهات”.
جرى تفسير التعرض للأمهات خلال الحرب الأهلية اللبنانية، من منظور مختلف الأطراف المتصارعة، على أنه محاولة لقتل العائلة، ثم العشيرة، فالقبيلة، وصولًا إلى القضاء على الطائفة التي ينتمين إليها. لذا، يبرر أحد القتلة إقدامه على ممارسة القتل بقوله: “إذ يأخذون منا الأمهات، فإنهم يريدون سلبنا أرضنا ثم يفجرون منا العائلة، وبعد الأمهات يأتي دور الشقيقات ثم دور الأطفال ثم دورنا جميعًا”. وفي هذا القول، على ما يرى الكاتب، جميع عناصر الهذيان القبلي.
الحديث عن إهانة الأمهات، يستوجب الحديث عن إصابة العرض بوصفه جزءًا من الحرب النفسية، التي يمارسها الخصوم في الحروب الأهلية ضد بعضهم البعض. في البداية، هناك إصابة العرض بجراحٍ رمزية عبر استهدافه من خلال العنف اللفظي، بهدف ضرب رجولة/ ذكورة الخصم، على اعتبار أن الأخيرة تتجلى أساسًا في الدفاع عن العرض. وفي الحالة اللبنانية، مورست عمليات التجريح الرمزية في مبارزات كلامية عنيفة بين المقاتلين خلال فترات الاستراحة، التي تبادلوا خلالها الإهانات والتشهير بالأعراض، والتعيير بنقصان الرجولة.
هذا في ما يتعلق بإصابة العرض بجراحٍ رمزية. أما بالنسبة إلى إصابته فعليًا بواسطة الاغتصاب، يكتفي المؤرخ اللبناني بطرح تساؤلاتٍ مثل: ما مدى انتشار حالات الاغتصاب خلال الحروب الأهلية اللبنانية؟ هل الحالات النادرة التي نعرفها، وجلُّها مرتكب في حق من يُعد غريبًا، أي غير لبناني وخلال المجازر، هي كل ما ارتُكب في تلك الحرب، أم أننا نعلم بحالات قليلة، ﻷن الاعتراف بالاغتصاب نادرٌ مخافة الفضيحة والعيب؟ وبحسب طرابلسي، لا يسمح مستوى ما هو معروف عن هذا الموضوع بأكثر من طرح هذه التساؤلات.
العائلة/ العشيرة قبل الطائفة
في جميع ما سبق، ثمة استعادة، وإن جزئية، ﻷعراف القبيلة وتقاليدها وقوانينها. ورغم أنها استعادة مشوّهة تمخضت عنها صيغ سياقية جديدة، إلا أنها تشير، بشكلٍ أو بأخر، إلى حرب قبلية أكثر منها طائفية. فالعائلة – الجميِّل، إده، فرنجية، شمعون.. الخ – والحزب – أمل، حزب الله.. وغيرهما – قبل الطائفة. واﻷولويات التي تصدّت اﻷطراف المتقاتلة للدفاع عنها، هي تلك التي حدّدها المثل القبلي القائل “أرضك وعرضك”. وما يُهدِّد اﻷرض هنا، هو اﻵخر الذي يُرى إلى وجوده على أنه تدنيس لمقدس تمثله اﻷرض ذاتها، اﻷمر الذي يستوجب تطهيرها بطرد اﻵخر منها، وتحويلها إلى محميات مقدسة، تتولى الحواجز اﻷمامية مهمة حمايتها من دنس الغريب.
والغريب لم يكن يُعرّف، زمن الحرب اﻷهلية اللبنانية، بناءً على هويته الطائفية وحدها، بل على انتمائه السياسي الذي يحيل إلى آخر عائلي/ عشائري أيضًا. هذا بالضبط ما يفسِّر مهاجمة قوات من “حزب الكتائب” قرية يدين سكانها بالولاء لريمون إده، والتنكيل بأبنائها المسيحيين. وهو ما يفسِّر أيضًا إغارة قوات تتبع الحزب نفسه، على بلدة “إهدن” وقتلهم النائب طوني فرنجية وأسرته. وفي الحالتين، كان الطرف المستهدِف ينتمي إلى نفس طائفة الطرف المستهدَف، غير أن اﻷخير ينتمي، في نظر اﻷول، إلى عشيرة مختلفة بل وعدوّة. وهذا يكفي في أعراف تلك الحرب، لعدِّه غريبًا.
في العودة إلى مفهوم الغريب الدنِس، والحمى المقدس الذي توكل مهمة حمايته إلى حواجز أمامية تمارس وسائل مختلفة للكشف عن الهوية، تشمل التحقق من اللهجة والكشف عن العورة لمعرفة ما إذا كان مختونًا أم لا، يشير صاحب “تاريخ لبنان الحديث” إلى العرف القبلي الذي يمنح من يلجئ إلى حمى اﻵخر، حتى وإن كانت يداه مضرجة بدماء أحد أبناء قبيلة اﻵخر ذاته، الأمان بمجرد قوله “أنا دخيلك” لشيخ القبيلة الذي سيعفي عنه ويشمله بحمايته. غير أن هذا المصطلح، أنا دخيلك، اتخذ معنى التوسل والتضرع غير المجدي في الحرب الأهلية اللبنانية، ذلك أن القبيلة الحديثة، وفق طرابلسي، تصم آذانها عن تقاليدها القديمة.
القناص وتفريد الجماعة
يرى فواز طرابلسي إلى القناص في الحروب اﻷهلية، على أنه مسخ حداثي لـ “المنتقم” القبلي، الذي يتطوع لغسل العار بالدم، أو الرد على الثأر بالثأر، ويتلقى الضربات اﻷشد إيلامًا في وقائع الثأر وساحاته. والقناص، بمعنى آخر، صياد يعمل على حسابه الخاص، ويؤمن بأن الفرد يحمل جميع خصائص جماعته، وأن قتله يعني قتلهم جميعًا، وعلى هذا اﻷساس يجري تبرير العقاب الجماعي.
لا يشبه القناص في الحروب اﻷهلية، قناص الحروب الكلاسيكية أو حركات التحرير الوطنية. مما يعني أن مهمته تختلف بالضرورة عما هو شائع، حيث تنحصر في اﻹبقاء على توتر أمني، دون أن يؤدي ذلك إلى حدوث اشتباكات، من خلال قطع طريق من الطرقات كدلالة على أن الوضع ليس آمنًا. باﻹضافة إلى قتل المدنيين وزرع الخوف من الموت في الجهة الثانية المعادية. هكذا، يكون نشاط القناص، كما يوضحه المؤلف: “التطبيق العملي لتفريد الجماعة بمعنيين: الجماعة – جماعته – تتجسد هنا بفرد يمارس العقاب باسمها. وعكسًا، الجماعة المعادية تتفرّد، أي تصير كثرة من اﻷفراد، يجدر – إن لم نقل يحلو – قتلهم”. وهذا التفريد ينفي، بل يلغي، وجود أبرياء في الحرب، طالما أن الفرد يحمل الجماعة، جماعته، في ذاته.
لا يكتفي القناص بقتل اﻷبرياء، بل يحرص على اغتيال الحياة ذاتها وفق مؤلف”الديمقراطية ثورة” الذي يضرب من مصير بطلة رواية حنان الشيخ “زهرة” مثالًا على ما يقول. فالبطلة التي تحمل اسم زهرة، وقعت في غرام قناص جامعته وحملت منه. وما حملته في أحشائها يجسِّد الحياة، أي نقيض القناص الذي يرى في الجنين موته، فيسارع إلى قتل زهرة ليتخلص مما في رحمها.
في المحصلة، أعادت الحرب اﻷهلية اللبنانية، شأنها شأن جميع الحروب اﻷهلية اﻷخرى، صياغة الكثير من القوانين واﻷعراف والتقاليد القبلية وغير القبلية. وأفرزت، في المقابل، صيغًا سياقية مشوهة منها. بينما تنكرت ﻷخرى وشذت عنها، بل وانقلبت عليها أيضًا. فإذا كانت الغاية من العنف الذي يُقصد به قتل المذنبين أو القتلة، في النظامين العرفي والقانوني، هو خداع العنف ومنع تفشيه في المجتمع، عبر مبادلة الدم بالدم في النظام اﻷول، وقتلِ القاتل في الثاني؛ فإنه في الحرب اﻷهلية اللبنانية لم يكن يركّز أساسًا على قتل المذنبين، ولم تساهم ممارسته، على غير المذنبين، في خداع العنف أو في إهماده، بل إن مبدأ تبادل الدم نفسه لم يكن متكافئًا في سياق هذه الحرب التي كانت، في أحد أشكالها، حلقة ثأر مفرغة.
الترا صوت
—————————-
بين دماء الأخوين/ علاء الدين العالم
متى يصير القتل، قتل الأخ خصوصاً، واجباً دينياً إيمانياً؟ واجباً قبلياً؟ وكيف يستكمل هذا القتل طورَ التوحش، وانتقال الإنسان من دور الضحية والأضحية إلى دور الضاري؟ وفي هذا العود الأبدي للأدوار في الحروب، ماذا يقول الفن؟ وما يسعه قوله في جنون الانتقام هذا؟ في هذا المدار يدور كتاب فوّاز طرابلسي دم الأخوين…العنف في الحروب الأهلية الصادر عن دار الريس في بيروت. يمازج طرابلسي في كتابه بين لغتين، نقدية تنظيرية ترتكز على أدوات أنثروبولوجية وسوسيولوجية، وأخرى سردية، يغلب عليها قص الأحداث بسلاسة وتشويق. بين اللغتين، وبين الأخوين المتخاصمين، يجري الكتاب.
طقوس العنف ووظائف الحرب
يتكئ طرابلسي في فصله الأول الذي يبحث فيه في جذور العنف في الحروب الأهلية، وظائفه وطقوسه، على أساسَين فكريَّين، الأول يتمثل بحنا أرندت، التي تميّز بين ثلاثة مفاهيم أساسية: السلطة والقوة والعنف. فتميز السلطة «بأنها تتكئ على اعتراف من طرف المطالَبين بالطاعة، أي على مقدار من القبول. أما القوة فترتكز على التفوق العددي. وحده العنف يكتسب طابعاً أدواتياً، وينطوي على فرض الإرادة على خصم بواسطة أدوات». المفهوم الثاني مستقى من تنظير ميخائيل باختين عن الكرنفال، حيث يشكّل الكرنفال «انقلاباً في النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي (الطبيعي) للأشياء» فيصبح الكرنفال لحظة خارج الزمن الاعتيادي، وفيه تنعتق الأنفس من المحددات الاجتماعية.
يستعيد طرابلسي في هذا الفصل المقاربات الأنثروبولوجية التي تقارب بين طقس البربارة في البلاد الشامية، وبين «ملك الكرنفال، أو الملك مومو» في البرازيل، قارئاً الطقسين على اعتبارهما لحظات ثورية يحكم فيها الفقراء أنفسهم، ويغتالون رمزياً «الملك والملكة»، أي يدمرون السلطة. لكن ما الذي يحصل حينما ينعتق الطقس بذاته من طقوسيته/كرنفاليته ويتحول إلى واقع؟ ماذا سيفعل الفقراء حينما تحطم الحربُ الحدودَ الواقعية؟ سيقتحم الفقراء المدينة، التي لم تعد مدينتهم بل مدينة الأغنياء فقط، وخير مثال على ذلك يذكره طرابلسي هو العنف الجماهيري الحاصل مطلع الحرب الأهلية اللبنانية، ففي العامين 1975-1976، حيث «طغى الوجه الاجتماعي على العنف، نهب أبناء المدينة مدينتهم، وكانت أكبر عملية نهب افتتاحية هي سرقة مرفأ بيروت، مخزن بضائع المنطقة بأسرها؛ المرفأ الذي كان محملاً بالرمزيات، فهو يمثل ثروة البلد مثلما يمثل رسالتها التجارية الوسيطة». من جهة أخرى، احتلت عملية السطو على البنك البريطاني في بيروت الغربية المَرتَبة الأولى في السطو، فكانت أكبر سرقة بنك في هذا العصر.
بعد اشتغاله على عنف الجماهير، يضيّق طرابلسي دائرة البحث ليحفر في مجال عنف القبيلة/الطائفة وتمظهراته: «ولما كانت الطوائف قد نخرها التطور التاريخي والانقسامات الاجتماعية وغلبة القيم والعلاقات النقدية، تظهر بما هي مسوخ متعددةُ الرؤوس، تحكمها أعراف أخلاقية وأنماط سلوك مركبة منخلعة ومنفلتة من عقلها، بل قل: إنها مخبلة بكل ما للكلمة من معنى». يقود هذا الاشتغال في أواليات القبيلة والدافع القبلي عند الإنسان طرابلسي إلى مجموعة مفاهيم تحوم في فلك عنف القبلية، حيث تتجلى تمظهرات هذا العنف في أبعاد رمزية عدة، أبرزها البعد الرمزي للسُّباب بين المتحاربين، فما يهدف إليه العنف اللفظي هو إصابة العِرض بما هو «الجرح الرمزي الأعمق»، فما دامت «الرجولة/الذكورة تتجلى في الدفاع عن العِرض، فهذه الرجولة/الذكورة ذاتها هي التي ينبغي استهدافها عند الخصم»، فلا معنى لشتيمة مهما علت بذاءتها إن لم تكن تنال من عِرض الآخر القبلي/العدو. كذلك يقترن مفهوم «الحِمى» بمفهوم العِرض، ويتبادلان موضعهما دائماً، ولعل المثل القبلي الشائع «أرضَك عرضَك» أبرز دليل على الحركة المكوكية لهذه الثنائية المفهومية.
لغة الحرب
على مستوى آخر، يقرأ طرابلسي في العنف والمقدس، ويسعى في هذا القسم إلى زحزحة المسلمات التوحيدية والكشف عن جذرها المشترك (الإسلامي والمسيحي في الحالة اللبنانية مثلاً)، وكيف لجماهير الطوائف أن تُسبغ على القادة لَبوس الإله والنبي والقديس، كل حسب دينه ودَيدَنه.
للحروب لغتها، ينفجر الصراع وتسيل معه لغة خاصة به؛ لغة تَفرِز المع من الضد، وتباين بين الـ«نا» والـ«هم»، لكن ما هي صيغ خطاب هذه اللغة؟ بمعنى، من هو المخاطب فيها؟ يجيب طرابلسي: «العدو دائماً مفرد، تختصر صيغة المفرد كل خصائص الجماعة. ويخدم هذا التفريد في تبرير العقاب الجماعي: أي واحد منهم جدير بالقتل. كل واحد منهم يحمل خصائص الجماعة، إذاً فقَتل واحد منهم يعني قتل الجماعة».
قبل نهاية بحثه في طقوس العنف، يستحضر طرابلسي رينيه جيرار في تنظيره للعنف؛ جيرار الذي ينطلق من أنه لا مفر من العنف في أي اجتماع بشري، وما يفعله النظام الاجتماعي ــــ قَبلياً كان أم جزائياً ــ هو «خداع العنف» ومنعه من التفشي، مع فرق أساسي بين النظامين: فالقبلي «يستبدل معاقبة الجاني بإنزال العقاب (بكبش محرقة) أكان حيواناً أم بشراً، أما القانون الجزائي فيُنزل العقاب بالمذنب شخصياً». يحافظ طرابلسي في تشريحه ظواهر وطقوس العنف في الحروب الأهلية على اللعب بين الثنائيات. لا مجال هنا لإبداء رأي سياسي عارض، ولا وقت للإسهاب في تخوين طرف على حساب آخر في الحرب. ليس ذلك الغرض هنا، بل هو تحديد «المشترك» بين المتخاصمين، فمثلاً يمثل طرابلسي بحادثة جوزيف سعادة والسبت الأسود من جهة، ويقرأ هذه الحادثة من أساس سعادة القومي في شبابه، إلى دمويته في يوم السبت الأسود، وصولاً إلى اعترافاته على التلفزيون الفرنسي وقوله «سوف أُعيد ما فعلت، ولكن بفن أكبر، لأني اكتسبت الخبرة (…) للعلم القناص الشيعي أعطى الجواب نفسه». يُسدل طرابلسي فصله الأول بتعداد الآليات السرية للحروب الأهلية، وأولها التخلص من الفائض البشري، وثانيها العدو هو أنا. في الأول، كان مثاله حالة الفلسطينيين في لبنان على اعتبار أنهم فائض بشري لا حاجة لأحد به، كما كانت تذيع القوى المسيحية، وفي الحالة الثانية تغريب العنف الذي كان يمارسه كل طرف على الآخر: «حرب الآخرين على أرضهم»، وهو الجهاز الذي ينتج مفردات تحضر في كل الحروب الأهلية (الطابور الخامس، الغرباء، المؤامرة الخارجية… إلخ).
الخسارة والصورة
لا تأخذ باقي فصول الكتاب الحجم ذاته الذي شغله الفصل الأول، إنما يمر طرابلسي على موضوعات عدة سريعاً، منها فن الملصق وحضوره في الحروب، أو كما يعنونها الكاتب «الملصقات بما هي أسلحة». يستعرض طرابلسي في هذا الفصل أثر الملصق في الحروب الأهلية. يستند على عمل زينة معاصري في تأريخها للملصق في الحرب عبر كتابها ملامح النزاع، الملصق السياسي في الحرب الأهلية اللبنانية. يشرح دلالات ملصقات الحروب، ومن ثم ينتقل في فصل تالٍ إلى وقفة تأملية مع أعمال كاثي شميدت كولفيتس، تحديداً منحوتتها «الأم وابنها القتيل». كاثي الفنانة الألمانية التي ولدت منتصف القرن التاسع عشر في بروسيا الشرقية، لأب اشتراكي صقل موهبة ابنته في الرسم فكانت أول من أطلق «فن المُلصق والرسمة المطبوعة على عدة نسخ التي تكسر وحدانية اللوحة الزيتية التقليدية». عاصرت كاثي تاريخ ألمانيا الحديث، بدايةً بأحداث «عصبة سبارتكوس» وقيام جمهورية ڤايمر، مروراً بالحرب العالمية الأولى حينما فقدت ابنها، وصولاً إلى الحرب العالمية الثانية التي سلبتها زوجها وأحد أحفادها وقسماً من أعمالها الفنية، ناهيك عن الاضطهاد الذي تعرضت له على يد النازية. كل هذه الأحداث جعلت من أعمال كولفيتس الفنية تعبيراً درامياً عن الفقد والخسارة، في الرسم أو في النحت الذي امتهنته لاحقاً، حاملةً معها وصية كبير شعراء ألمانيا غوته: «البذور المعدة للزرع إياكم أن تطحنوها»، العبارة التي ذيلت بها إحدى لوحاتها في بداياتها الفنية، وكأنها تستشرف طحن البذور في الحروب القادمة.
في الفصل المعنون بـ«ما فائدة الشعور بالذنب»، يسترجع طرابلسي مقالاً طويلاً له يفنّد فيه قراءات «ثقافوية» ذات رؤى استشراقية، منها نظرية دومينيك مواسي عن جيو-سياسات المشاعر، إذ يقسم مواسي العالم إلى ثلاث ثقافات على أساس المشاعر، وهي «ثقافة الأمل» للصين والهند، و«ثقافة الذل» لدول الشرق الأوسط، و«ثقافة الخوف» للدول الغربية. والغريب أن هذه النظرية تقتصر على الأطراف الثلاثة السالفة وحسب، وتسقط من قُمقُمها حالات كثيرة «تشمل سائر بلدان آسيا وروسيا وقارات أوستراليا وإفريقيا وجنوب أميركا». من جهة أخرى، يناقش طرابلسي المقولة الاستشراقية التي تضع الشعور بالذنب عند الغرب قُبالة العيب في الشرق، ويفتّتها بالأدوات الفكرية المعاصرة ذاتها التي فتّت بها نظرية مواسي، مؤكداً على الصبغة الاستشراقية التي تقع فيها مثل تلك المقولات التي تفترض قبلاً التطور الغربي والتخلف الشرقي.
داوود وجالوت الآن/هنا
يسرد طرابلسي قصة «داوود وجالوت» ويقابل استخدامها الإسرائيلي التوراتي بالحضور في الثقافة العربية الإسلامية، فبينما بقي حضور القصة خفِراً في التراث الإسلامي والفارسي، ولم يحظ بالتفسيرات الكثيرة، شكلت القصة ذاتها «واحدة من الأساطير المؤسسة لدولة إسرائيل، ومادة دعاية دائمة لها» تظهر فيها على أنها «داوود» العبراني المجرد من وسائل الدفاع ضد «جالوت» العربي الكاسح ديموغرافياً. هذه الدعاية، التي تغير من دور الضحية والقاتل، تجعل كلاً منهما مكان الآخر. ثنائية قاتل-ضحية ستأخذ طرابلسي وقارئه إلى أعمال الفنان الإيطالي مايكل أنجلو كارافاجيو، وتحديداً لوحته «داوود وجالوت». تكمن المفارقة في آخر صيغة للوحة المرسومة عام 1610 أن «كارافاجيو الشاب هو الذي يقطع رأس كارافاجيو البالغ. وهنا نلقى انقلابات كارافاجيو على الرواية التوراتية. لكنه انقلاب مختلف جذرياً عن الانقلاب الإسرائيلي الذي يحول الدبابة ضحيةً والطفل قاتلاً».
مسرح العدوان على الواقع… موللر والماغوط
في المسرح، كان مثال طرابلسي المسرحي الألماني هاينر موللر، الكاتب الذي عاش في كنف ديكتاتوريتين: الأولى شيوعية والثانية رأسمالية و«اتخذ المسافة النقدية منهما معاً». شبّه موللر نفسه في سيرته حرب بلا معارك: الحياة في ظل ديكتاتوريتين بالفنان الإسباني الكبير فريدريكو غويا، الذي كان منفصماً بين إيمانه بمبادئ الثورة الفرنسية، وممارسات نابليون واحتلاله لإسبانيا. كذلك كان حال موللر مع إيمانه بالاشتراكية «وبما يشهد من ارتكابات باسمها في بلده، ألمانيا الشرقية». ومن وجهة نظر طرابلسي عن موللر، يرى أن ما يجمع الفنانَين هو أنهما «يعتديان على الواقع»، الأول بالرسم والثاني بالمسرح. وهو يمثِّل على مسرح موللر بقراءة نقدية لعرضين من إخراج الأخير مقتَبَسَين من نصوص لبرتولد بريخت، الأول عن نص «الصعود المتنازع عليه لآرتورو أوي» والثاني عن نص «القرار» لبريخت، وقد دمجه مولر مع نص له بعنوان «ماوزر». كذلك يقف طرابلسي سريعاً عند قراءة مولر لشكسبير عبر نصه الأشهر «آلة هاملت»، ليخلص إلى أن موللر تخلص من أمثولات بريخت التعليمية ولم يتخلص من براعة نصوصه، وقَلَبَ أمل شكسبير في مملكة هاملت إلى غثيان؛ «الغثيان الذي تسببه أجهزة الإعلام الرأسمالي. وكم أن موللر استباقي في غثيانه من الإعلام المعاصر».
من مسرح مولر إلى مسرح محمد الماغوط ينتقل طرابلسي في وقفاته النقدية هذه مع الفن والحرب. لا ينطلق في قراءته المعاصرة لمسرح الماغوط من مسرحيات معروفة للأخير، بل يذهب إلى ديوان الماغوط المنشور أوائل الستينات الفرح ليس مهنتي، وتحديداً مسرحيته «العصفور الأحدب». الماغوط الشاعر الذي «يحمل قدراً كبيراً من الوعي للمفارقات بين الطبقات وبين مدينة وريف، ما يدفعه إلى حقد وعنف وثورة» كان قد استبشر، عبر مسرحيته هذه، صعود البعث إلى السلطة التي سيستولي عليها بعد سنوات قليلة من كتابة المسرحية وسيُحكم قبضته عليها إلى الآن. وهنا يعقد طرابلسي مقارنة بين شخصية القزم في النص التي تصرخ «أنا إنسان، أنا إنسان» وبين محمد أحمد عبد الوهاب، الشاب السوري الذي صرخ على شاشات التلفزة بداية الحراك السوري: «أنا إنسان ماني حيوان». وعلى هذا المنوال، يجري نقد طرابلسي لنص الماغوط بين ثنائية أدب/واقع، أدبٌ كان قد كتبه الماغوط عن أطفال مقطعين ويخضعون لمحاكمات، وواقع شرس دفع إلى اعتقال آلاف الأطفال السوريين، مذ خطت أيديهم شعار «الشعب يريد إسقاط النظام» على جدار مدرستهم. «ليس الواقع أغرب من الخيال، الواقع أغرب من واقعه. الواقع أوحش من أوحش ما في الخيال».
غيرنيكا لكل حروب العرب
في سِيَره بين أروقة القاتل والضحية، يستذكر طرابلسي لوحة بيكاسو الأشهر «غيرنيكا». أين القاتل وأين الضحية في اللوحة التي أجملت عذابات الحرب الأهلية الإسبانية؟ إنهما يتماهيان، وذلك ما تفعله الحروب الأهلية دوماً؛ يختلط فيها دور القاتل ودور الضحية. فغيرنيكا، القرية الواقعة في إقليم الباسك شمال إسبانيا، التي تعرضت لقصف جوي ألماني بغية إخضاعها لقوات فرانكو، ستشهد «نقلة نوعية في دور الطيران في الحروب الحديثة، حيث شكلت أول سابقة يهاجم بها عسكريون من السماء مدنيين بلا دفاعات». منطلقاً من غيرنيكا، يتتبع طرابلسي تاريخ القصف العسكري للأهداف المدنية، من صواريخ ألمانيا النازية تجاه المدنيين، إلى قصف دريزدن من قبل الحلفاء، وصولاً إلى القصف الأميركي في فييتنام والعراق وأفغانستان، والقصف الإسرائيلي للمدنيين في فلسطين ولبنان، وانتهاءً بالبراميل المتفجرة في سوريا. يرى في كل ذلك غيرنيكا، ويتتبع هذه الغيرنيكا في هذا القصف أو ذاك، فكلما اعتلى القاتل في السماء ودبّ الموت في صفوف المدنيين العزّل، خُلقت غيرنيكا جديدة، وما أكثرها في بلادنا العربية اليوم.
علاء الدين العالم هو كاتب مسرحي فلسطيني/سوري
موقع الجمهورية