كيف تعيد المرأة قراءة التاريخ النبوي؟/ فريد الزاهي
إذا كان ابن عربي قد أنّث العالم والألوهة فذلك أصلًا كي يتماشى الأمر لديه مع عملية الخلق باعتبارها فعلًا أنثويًا بامتياز. إنه تأنيث وجودي يعيد النظر في نشأة الكون ويجعل الخالق الكائن وراء الحجب يدين بوجوده في النطاق البشري للمعرفة البشرية، من خلال ذلك الحديث القدسي الذي يردده: “كنت كنزًا مخفيًا فأحببت أن أعرف فخلقت خلقًا فبي عرفوني”، بالرغم من أن ابن تيمية والسيوطي وآخرين، اعتبروه حديثًا من دون سند… إنه تأنيث لا يمكن أن ندرجه بشكل أو بآخر في المواقف النسوية بمعناها الحديث، التي تستعيد التاريخ هنا وهناك، وتسعى إلى إعادة صياغته وفقًا لمنظور نسوي يعتمد تأويل التاريخ والنبوة والأحداث، بشكل روائي تخييلي كما هو الأمر لدى الروائية الجزائرية آسيا جبار، أو بشكل سياسي سوسيولوجي كما هو الأمر لدى عالمة الاجتماع المغربية فاطمة المرنيسي، أو بشكل تاريخي سياسي كما هو الأمر لدى الباحثة التونسية هالة الوردي.
تأسيس النسوية في التاريخ النبوي
صدر في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات كتابان بالفرنسية لكاتبتين مغاربيتين (رحلتا عنا في وقت متقارب) عن النبي: الأول لعالمة الاجتماع المغربية فاطمة المرنيسي بعنوان “الحريم السياسي: النبي والنساء” (1987)، الذي تعيد فيه النظر من خلال بحث سيوسيولوجي تاريخي ذي منزع نسوي في إقصاء النساء من مجال السياسة والمشاركة في الشأن الاجتماعي والسياسي. والثاني للروائية الجزائرية آسيا جبار بعنوان “بعيدًا عن المدينة المنورة” (1991)، وهو عبارة عن رواية تاريخية تحكي علاقة النبي الودود بالنساء عمومًا وبابنته فاطمة بالأخص. لم أكن بعد حينها قد التقيت فاطمة المرنيسي، التي تعرفت عليها بعد التحاقي بالمعهد الجامعي للبحث العلمي والاشتغال جنبًا إلى جنبًا معها في المؤسسة نفسها حتى تقاعدها في نهاية التسعينيات. بيد أن الصدفة لاقتني بآسيا جبار حين دعاها المعهد الفرنسي إلى تقديم روايتها. حاورتها مطولًا عن روايتها ومصادرها الوثائقية واقترحت عليها ترجمتها للغة العربية. غير أننا عجزنا معًا عن العثور عن مصدر تمويل للترجمة فظلت الرغبة تلك تسكنني لحد اليوم.
كتاب فاطمة المرنيسي عبارة عن تحقيق تاريخي من منظور نسوي. وهو ينطلق من نقد معاصر لتبعات الحديث الذي جاء في صحيح البخاري ورواه ابن أبي بكرة رضي الله عنه قَالَ: “لَقَدْ نَفَعَنِي اللَّهُ بِكَلِمَةٍ سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَّامَ الجَمَلِ، بَعْدَ مَا كِدْتُ أَنْ أَلْحَقَ بِأَصْحَابِ الجَمَلِ فَأُقَاتِلَ مَعَهُمْ، قَالَ: لَمَّا بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَهْلَ فَارِسَ، قَدْ مَلَّكُوا عَلَيْهِمْ بِنْتَ كِسْرَى، قَالَ:( لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً)”. ولتفنيد صحة هذا الحديث تتساءل المرنيسي عن وضعية ابن أبي بكرة الذي كان يتيمًا واغتنى في عهد الرسول، وعن علل تذكره لحديث نبوي أكثر من ربع قرن من وفاة الرسول، في سياق مطبوع بالفتن. وقد ذكر الراوي الحديث حين عزمت عائشة، التي كانت معارضة لخلافة علي بن أبي طالب، على مهاجمة البصرة، وطلبت مساندة أعيان تلك المدينة التي كان ابن أبي بكرة من ضمنهم، فأجابها هذا الأخير بالامتناع مذكرًا بهذا الحديث. كما تعود المرنيسي لما جاء لدى ابن الأثير عن ابن أبي بكرة من أنه تعرض للجلد على يد الخليفة عمر ابن الخطاب بسبب شهادة زور. تقول المرنيسي: “لقد كان ابن أبي بكرة إذًا رجلًا لم يمنحه الإسلام فقط الثروة والحظوة، وإنما أيضًا هوية”، لتستنتج أن البخاري كان عليه، بالنظر لما يعتري سيرة هذا الراوية من نواقص، أن يبعده عن مصادر رواية الحديث النبوي. فالمعروف عن هذا الرجل أنه كان يتذكر أحاديث غير متداولة في مناسبات معينة قصد التأثير على الأحداث السياسية أو خدمةً لأغراض شخصية.
لا تكتفي المرنيسي بمساءلة الأحاديث المعادية للنساء في دورة انتقالها من الشفهي إلى المكتوب، بل تنتهي من خلال المقارنة بين رواياتها، ومن خلال الرصد التاريخي لمقاصدها السياسية والاجتماعية، إلى أنها أحاديث تم وضعها أو تحويرها قبل تدوينها بعد ذلك بأكثر من قرن من الزمان. وهي في هذا التقصّي التاريخي والخطابي، تسترشد بالتأثير الذي كان لنساء النبي في الحياة السياسية والاجتماعية، رواية وحضورًا وفاعليةً. كما أنها تعتمد على تحليل المعطيات المباشرة المشككة لا في صحة الحديث وإنما في وثوق صاحبه وأهليته للرواية.
النبي والنساء من منظور حكائي نسوي
اشتغلت آسيا جبار في بناء رواية “بعيدًا عن المدينة المنورة” على المصادر بمعية أحد أصدقائي المغاربة الباريسيين، ونهلت من السِّيَر كما من الأخبار لتبني رواية شيقة عن الوجه الإنساني لعلاقة النبي بالنساء وعشقه لهن وتقديره الكبير لكينونتهن. “سميت ‘رواية’ مجموع الحكايات والمشاهد والرؤى أحيانًا، التي غذتها فيَّ قراءة بعض المؤرخين في القرنين أو القرون الثلاثة الأولى للإسلام (ابن هشام وابن سعد والطبري). ففي خلال الفترة المذكورة هنا، التي تبدأ بوفاة محمّد، فرضت مصائر متعددة لبعض النساء نفسها عليّ، فسعيت إلى بعثها… إنهن نساء متحركات ‘بعيدًا عن المدينة المنورة’، أي جغرافيًا وزمنيًا خارج مكان سلطة دهرية صارت تنزاح بشكل لا رجعة فيه عن أنوارها الأصلية”.
تعيد آسيا جبار، انطلاقًا من التاريخ العربي الإسلامي، وبصيغة حكائية مسبوكة، قراءة السيرة النبوية وخاصة علاقة النبي بالنساء. وهي تبدأ روايتها انطلاقًا من لحظة احتضار النبي في بيت عائشة، وكأنها بذلك تطلق مسير حكايتها من اللحظة الفاصلة بين النبوة وبين الخلافة: “لقد مات. لا لم يمت بعد. مال رأسه شيئًا ما جانبًا على عنق عائشة. وقتًا قليلًا قبل ذلك، كان قد طلب من رجل، ربما كان كاتبًا، أو قريبًا أو أمين سرّ، كي يملي عليه ما كان يريد تركه للمؤمنين درءًا للفتنة. كانت تحيط به أغلب نسائه. بعضهن سيصرّحن، أو سيُقال عنهن في ما بعد، إنه طلب ذلك بصريح العبارة من ابن عمه وزوج ابنته وابنه بالتبني الذي حضر لذلك الغرض. بيد أن امرأتين من بين زوجات كانتا قد أخطرتا أبويهما بالأمر”.
وهي في اعتمادها على المصادر السيرية والفقهية الإسلامية (الطبري وابن هشام وابن سعد بالأخص)، تستل منها تلك اللحظات التي تجعل نبي الإسلام متفهمًا للمرأة وفي الآن نفسه موزعًا بين مسؤولياته السياسية وحبه للنساء واحترامه لهن. إنها نظرة تعيد كتابة التاريخ النسوي، بشكل حكائي مواز لكتاب فاطمة المرنيسي عن النبي والنساء، وإن بنبرة تركز فيها على الحكاية أكثر من التحليل. والحقيقة أن بعض المشاهد واللحظات تبيّن عن تأويل شخصي يتملَّك تلك العلاقة ويمنحها نكهة جديدة تعيد النظر في المسلمات “الذكورية” المتداولة أو المنسية والمهمشة. بل إن المؤلفة سوف تركز على علاقته بابنته فاطمة التي كان النبي قريبًا منها جدًا، عاطفيًا وفكريًا، بحيث إنها تجعلنا نرى في النبي، وهو على فراش الموت، وكأنه يكاد يعهد بالخلافة لابنته… لولا مواضعات المجتمع العربي حينها… وهي في هذه العملية التأويلية تعيد قراءة التاريخ انطلاقًا من افتراضات جديدة تصوغها بالتفكير في حياة النبي وفقدانه لأبنائه الذكور. فمع أن النبي ظل يسمى “أبا القاسم” فهو فقد ابنه هذا وهو لا يزال في المهد. وقد منحته خديجة ولدين ذكرين آخرين توفيا في طفولتهما هما أيضًا. أما إبراهيم، الابن الرابع، الذي وُلد له في ما بعد في المدينة مع جاريته مارية القبطية، فقد وافته المنية في الثانية من عمره، فلم يبق له من الأبناء غير أربع بنات كانت فاطمة آخرهن، وتوفيت ستة أشهر بعد وفاة النبي.
في وضعية كهذه، تصوغ آسيا جبار فرضيتها النسوية بالشكل التالي: “لو كانت فاطمة ابنًا ذكرًا في اللحظة الأخيرة التي ظل فيها النبي محافظًا على كامل وعيه، فإن سيناريو طلبه الأخير (أي الوصية) كان سيكون مغايرًا: فحين أراد النبي التعبير عن وصيته الأخيرة بخصوص من سيخلفه في الدنيا ويقود الأمة الإسلامية الهشة الناشئة (عشر سنوات فقط بعد الهجرة)، طلب من زوجاته الحاضرات أن يحضرن له كاتبًا، فجاءت عائشة بأبي بكر وحفصة بعمر بن الخطاب فيما سارت الأخريات لإحضار علي زوج ابنته فاطمة. وحين رأى الرسول ثلاثة رجال عوض واحد أدار وجهه ولزم الصمت”.
في سياق هذا التأويل المتخيل، تتساءل الكاتبة إن لم تكن فاطمة في صباها ومراهقتها ترغب في أن تكون بنتًا وولدًا في الآن نفسه لضمان استمرار نسل الرسول. وهي حين قبلت الزواج بابن عم أبيها، ألم تكن قد تزوجت نفسَها تقريبًا كي تقترب أكثر من هذه الوراثة المستحيلة والمرغوب فيها في آن واحد ومن ذلك الأنموذج الذكوري الذي من خلاله كان النبي محمد سيضمن به سلالته ويؤبده؟ إن هذا السؤال وغيره عن “الغريزة الذكورية” لفاطمة يعتبر مدخلًا لإعادة النظر في التاريخ الإسلامي وإعادة صياغته بشكل تُمنح فيه المرأة الموقع الذي قد يكون لها. هكذا تسائل آسيا جبار حسّ التمرد لدى فاطمة وكافة النساء اللاتي عشن في كنف النبي، لتنتهي إلى منح هذه الهبّات طابعًا ذاتيًا وتاريخيًا: “ظلت المعارضة النسوية حية، لكن، ألم يتوقف اليوم جموحها لأن فاطمة رحلت؟ لا، إنه سوف يستمر عبر بناتها، أولا من خلال أم كلثوم ثم زينب، لأن الواحدة منهما والأخرى قد استثارت همة الناس لتحدي الدناءة والتنديد بالهجْر حين قُتل علي وتم تعذيب الحسين…”. إنها معارضة سوف تستمر من خلال نساء أخريات تحولها الكاتبة لرمز متحول ومليء بالتطلعات التاريخية الماضية والحاضرة. وتنتهي “الرواية” بهجرة عائشة وقد بلغت الأربعين للمدينة… حاملة معها رمزها “كأم للمؤمنين” وكذاكرة مثقلة بآثار العداوات والفتن.
***
مقابل هذه القراءات للتاريخ النبوي وموقع النساء فيه، التي سعت من خلالها فاطمة المرنيسي وآسيا جبار، واستمرارا لها وبشكل مغاير، أصدرت التونسية هالة الوردي بالفرنسية (أيضًا) عام 2016، كتابًا مثيرًا أكثر للجدل بعنوان: “الأيام الأخيرة لمحمد، تحقيق في الموت الغريب للنبي”، مستعيدة فيه بعض أسئلة فاطمة المرنيسي وآسيا جبار، والعديد من المعطيات الواردة في كتاب “الشخصية المحمدية” لمعروف الرصافي. وخلافًا للنظرة النسوية الواضحة لدى الكاتبتين، تسعى هالة الوردي إلى إعادة قراءة التاريخ الأصل للمسلمين انطلاقًا من رؤية تاريخية وسياسية ومن دون أي مقاصد نسوية. فهل يمكن اعتبار أبحاثها مجاوزة للنسوية في هذا المضمار؟
ضفة ثالثة