منوعات

الطبخ كـ”مِحنة”… طباخ صدام حسين يروي ذكرياته/ مريم حيدري

“إن كان ما نأكله يصنعنا، فإن الطباخين لا يصنعون غذاءنا فقط، بل يصنعوننا أيضاً”. بهذه الجُمل لمايكل سيمونز، كاتب “تاريخ الطبخ والطباخين”، يستهلّ الصحفي البولندي فيتولد شابوفسكي كتابه “كيف تُطعمون الديكتاتور” (How to Feed a Dictator)، وقد خصص الفصل الأول منه للطباخ الخاص بصدام حسين.

يسرد الكاتب في مقدّمة كتابه كيفية دخوله عالم الطبخ والمطاعم في بدايات العشرينيات من عمره؛ فبعد تخرّجه من الجامعة في بولندا، ذهب إلى زيارة أصدقائه في كوبنهاغن، وهناك بدأ العمل في أحد المطاعم المكسيكية على سبيل الصدفة، فأُعجب بالعمل، واستمرّ فيه وارتقى شيئاً فشيئاً.

تعلّم فيتولد في ما بعد طريقة إعداد كثير من الأطباق، وانتقل إلى مطاعم أخرى، إلى أن ترك المهنة بسبب استيائه من مدير المطعم، فقرّر العودة إلى بولندا، قبل أن يشتغل لفترة قصيرة كدليل سياحي في المناطق المحاذية لكوبنهاغن. و”لم أنس أنه كيف يمكن للطباخين أن يكونوا أشخاصاً جذابين؛ فهم شعراء، وعلماء فيزياء، وأطباء، وأطباء نفسانيين، وعلماء رياضيات في الوقت ذاته”.

امتهن فيتولد الصحافة لسنوات عدة إلى ان شاهد ذات يوم فيلماً وثائقياً بعنوان “تاريخ الطبخ” يتحدث عن طهاة الجيش، ففكر عند نفسه: عمّ يمكن أن يتحدث الأشخاص الذين طبخوا في اللحظات المصيرية في التاريخ؟ “وسرعان ما تداعت لي أسئلة كثيرة أخرى؛ ماذا طلب صدام حسين من أكلٍ بعد الإبادة الجماعية للأكراد؟ هل كان يشعر بألم في معدته؟… وماذا أكل فيديل كاسترو بعد أن ساق العالم إلى أعتاب حرب نووية؟… هل المأكولات التي كانوا يتناولونها كانت تؤثر على سياساتهم؟”.

“لم يكن أمامي خيار. أسئلتي كانت كثيرة، ومن أجل الحصول على أجوبتها، كان علي إيجاد الطباخين الذين طبخوا للديكتاتوريين. فبدأتُ البحث عنهم، واستغرق ذلك أربعة أعوام، سافرتُ خلالها إلى أربع قارات”.

يسرد فيتولد في كتابه، لقاءاته بالطهاة الخاصين بكل من صدام حسين، وعيدي أمين، وأنور خوجة، وفيديل كاسترو، وبول بوت. في كلّ فصل من الفصول الخمسة من هذا الكتاب ثمة راويان؛ الكاتب، والطاهي، فتتنوع أبواب الفصول بين كلّ منهما، ما زاد على ظرافة الكتاب.

لقاء “أبو علي”

“مستشاري ومرشدي -في العراق- حسن، حصل لي أخيراً بعد عامين من البحث على آخر طباخ حيّ لصدام. اسمه أبو علي، وقد امتنع عن الحديث عن الديكتاتور لسنوات عدة، لأنه كان يخشى ثأر الأمريكان. بعد اثني عشر شهراً نجح حسن في أن يقنعه للحديث معنا”.

“وافق الطباخُ أخيراً لكنه وضع شروطاً للمحادثات: ألا نسير في المدينة، لا نطبخ سوياً، وبالرغم من رغبتي، لم نستطع أنا وحسن أن نلتقيه في بيته. تمّ القرار أن يكون لنا موعد في غرفة مغلقة في أحد الفنادق خلال الأيام المقبلة، وليبوح لي أبوعلي بكلّ ما يتذكره، وكان ذلك نهاية المطاف”.

وهكذا تبدأ أحاديث وذكريات أبي علي، وينتقل السردُ إلى لسانه: “ولدتُ في الحلة، بالقرب من الآثار التاريخية في بابل، وحين كنتُ مراهقاً انتقل والداي إلى بغداد”.

يواصل أبو علي أنه كان لعمّه مطعم في بغداد، بالقرب من بيتهم، فكان يتردد إليه يومياً، إلى أن طلب ذات يوم من عمّه أن يعمل لديه في المطعم، وكان عمره 15 أو 16 عاماً.

تعلم أبو علي لدى عمّه طبخ مختلف الأطباق العراقية من “الشيش كباب”، إلى “الدولمة” (المحشي)، و”الكُبّة” (الكفتة)، فنجح في أن يكون طباخاً ماهراً، وواصل العمل في مطعم عمّه لسنوات. لكن طموحه كان أكثر من ذلك؛ “ذات يوم قرأتُ في صحيفة أن مركز بغداد الصحي، والذي كان أكبر مستشفى في المدينة، يبحث عن طباخ. فقدمتُ الطلب. في المقابلة سألوني سؤالاً واحداً فقط: هل يمكنني طبخ الأرز لثلاثمائة شخص؟ الأمر الذي كنتُ أفعله يومياً خلال السنوات الثماني الأخيرة”.

بعد العمل هناك لعدة سنوات، طموح أبو علي قاده إلى مزيد من النجاح. كان آنذاك قد حقق حلمه في شراء السيارة، لكنه ترك المركز الصحي ليجد عملاً في فندق من فئة خمس نجوم، وبراتب أعلى، إلا أنه تم استدعاؤه للجيش، فأُرسل إلى أربيل، شمالي العراق، وكانت المعارك قائمة هناك إثر انتفاضة بقيادة ملا مصطفى.

“كان عمري 26 عاماً، ولم أجد عند نفسي مبرراً لأكون ضد الأكراد، كما أنني بالطبع لم أشأ ان أُقتل في حرب ضدّهم”.

أخبر أبو علي الضابطَ بأنه كان طباخاً في بغداد، وأنه يجيد الطبخ أفضل من إطلاق النار، فآل به المطاف إلى ان يصبح طباخاً لأحد القادة (محمد المرعي) والذي كان يشكو سوء الأكل في الجيش، “إلى أن انتهت مدة الخدمة العسكرية، وذهبتُ إلى الموصل، ومن هناك إلى بغداد”.

في بغداد شارك أبو علي في دورة احترافية للطبخ في بغداد، تخص الذين يريدون التوظيف في مطابخ القصور الحكومية، فتخرج منها بدرجة ممتازة، وأصبح عضو مجموعة مكونة من أفضل طهاة العراق، يطبخون للوزراء، ورؤساء البرلمانات، ورؤساء الجمهورية والملوك، فطبخ لملك الأردن والمغرب، “لكنني في أحيانٍ كثيرة لم أعرف لمن كنتُ أطبخ. الطبخ، نوعاً ما، يشبه الخدمة في الجيش. من الأفضل ألا تفكروا كثيراً، بل تلبوا الأوامر فقط!”.

ذات يومٍ أُمر أبو علي وزملاؤه أن يعدّوا أفضل كعكة ممكنة، فأعدّوها مزينة بنقوش بين النهرين الأثرية، “وعلى شاشة التلفزيون شاهدتُ أن صدام حسين قصّها بنفسه. الكعكة التي كنا أعددناها كانت كعكة عيد ميلاده”.

بداية الطبخ لصدام حسين

يبدأ أبو علي حديثه عن صدام بأنه “كان وغداً حقيقياً”، ويواصل شارحاً حياته (صدام حسين) منذ الطفولة.

“كل شيء بدأ ببساطة”. أبلغ أبو علي أنه مطلوب لدى أحد القصور بالقرب من مطار بغداد. ذهب إلى هناك وبعد كثير من الإجراءات الأمنية والتفتيش، قيل له إنه سيقابل صدام حسين. “ظننتُه يمزح… لكنه قال لي إن كلّ ما سيقول الرئيس سيكون سريّاً”.

“قال لي: إذاً أنت أبو علي؟”.”وقّعتُ اتفاقاً سرياً يلزمني بعدم الحديث عن أي شيء أشاهده في بيت صدام، وإن خالفتُ ذلك فجزائي هو الموت”، و”بعد عشر دقائق كنتُ واقفاً أمام صدام حسين”.

رددتُ متلعثماً: “نعم، سيدي الرئيس!”.

“جيد. اطبخْ لي (تِكّة)”. والتكّة هي قطع اللحم المشوية.

“انحنيت تعظيماً، وذهبت إلى المطبخ”. وهكذا بدأ مشوار أبي علي طباخاً لصدام حسين.

طبخ أبو علي، وأُخذ اللحم المشوي إلى صدام برفقة سلطة الخيار والطماطم، وبعد عشرين دقيقة طلب الرئيس لقاءه، فوجده راضياً عن طبخه. “قال لي: أرجو أن توافق على العمل هنا. قلتُ: طبعاً، سيدي الرئيس! وهل كان بإمكاني أن أرفض طلباً لصدام؟!”.

في “المزرعة”

“المكان الذي كان يعيش صدام فيه، كنا نسميه (المزرعة)، وكان ذلك قبل امتلاكه كلّ تلك القصور الضخمة. كانت المزرعة عبارة عن أرض شاسعة، يربي فيها بعض أهالي تكريت الدجاجَ، والماعزَ، والغنمَ، والبقر. زياد، القصاب هناك، كان يذبح خروفاً وعدة دجاجات كلّ يوم، فكان لدينا اللحم الطازج يومياً… كما أن المزرعة كانت تحتوي على بحيرة صغيرة، كان يمكننا اصطياد السمك منها كلّما رغب صدام بأكل (المسكوف). المسكوف هو السمك المشوي، والذي كان يعشقه صدام”.

ذكريات الطبخ والحياة

“كنا ثلاثة، نطبخ لوجبتين كلّ يوم… عن طريق الطباخيْن الآخرين عرفتُ أن الخمسين ديناراً التي استملتُها أول مرة من صدام، لم تكن بسبب حظّي السعيد؛ إن كان صدام سعيداً يمنح الجميعَ أموالاً بغير حساب… ولكن إن صادف ذات يوم ولم يعجبه طعم الأكل، فكان يجبرنا أن نردّ تكاليف الطعام إلى الخزينة”.

“كلّ عامين كانوا يعطوننا بدلات خيطت خصيصاً لنا في إيطاليا… كان صدّام يصطحبنا معه في رحلاته إلى خارج العراق بين الحين والآخر، فكان لابدّ أن يكون مظهرنا جيداً. كلّ عام كان يأتي خياط من إيطاليا إلى القصر، ويأخذ المقاسات لجميع الذين كانوا يشتغلون لصدام، ويذهب ليخيط الأزياء في ورشته في إيطاليا ليرسلها بعد ذلك بطيارة إلى القصر”.

“حين بدأتُ عملي، كان العراق يخوض الحرب مع إيران، وكنا في المعارك في كثير من الأحيان… كنا نذهب بالسيارة إلى المعارك، حيث يلتقي صدام الجنودَ… كان الرئيس يريد أن يظهر أنه معني بشؤون الجنود، فيعدّ الأرز لهم شخصياً. كانت لدينا طنجرة للأرز، كنتُ قد طبخت فيها الأرز نصفَ طبخ. كنا نشعل النارَ، وصدام ينهي طبخه. ثم يسكب المرقَ، والذي كنتُ أعددته مسبقاً، على الأرز”.

“خلال شهر رمضان فقط، وحين كان صدام صائماً منذ الفجر حتى المساء، كان يأتي ليلقي نظرة على المطبخ… فقط حين كان جائعاً جداً، ويريد أن يعود إلى صفوِه، كان يمرّ بالمطبخ… قبل أن يتناول صدّامُ الأكل، كان يتذوقه كامل هناء (طباخ صدام القديم الذي كان على وشك التقاعد). وإن لم يكن كاملُ هناك، كان يأمر أحد الطباخين أن يتذوّق قليلاً منه. حتى الهدايا التي كانت تصل من الخارج، والتي كان يحبّها صدام، من قبيل النبيذ، والويسكي، أو السجائر الكوبية، كانت تخضع كلّها لــ(عملية تجريب السمّ)”.

“كان صدّام في غاية الصحة. خلال الفترة التي كنتُ في المزرعة، لمرة واحدة فقط شعر بالمرض. كان حدثاً غير طبيعي، ولذلك ألقي القبض علينا جميعاً تلك الليلة، والشرطة السرّية فتشتنا للتأكد من أن أيدينا لم تكن ملوثة بالسمّ”.

“سافرتُ مع صدام إلى بلدان عديدة، من ضمنها المغرب، والأردن، والاتحاد السوفياتي. في موسكو، استضافنا غورباتشوف. تحدثوا هناك عن السلاح، لأن الحرب ضد إيران كانت لم تزل قائمة. في الاتحاد السوفياتي حتى الطباخون كانوا يتعاملون كطباخي قوة كبرى. كنا جميعاً نطبخ على فرن ضخم. أحياناً كانوا يغيرون أماكن طناجرنا على الفرن، ويستبدلونها بأوانيهم. لم تكن هناك ضرورة لذلك. كان المكان يسع لأوانينا جميعاً، لكنهم كانوا كذلك. بلدهم كان يفرض الأوامر في السياسة، وطهاتُهم في المطبخ… استمرّت هذه اللعبة لساعات عديدة. هناك عرفتُ أن الحروب هكذا تنشب؛ كل طرف يريد لطناجره أن تكون قريبة من النار”.

“بعد الهجوم على الكويت، كنت أشعر بإرهاقٍ بالغ من العمل للرئيس. أسوأ جانبٍ في هذه المهنة كان كونها غير قابلة للتكهن. وهذا ما دمّرني. انتظرتُ إلى أن تحين اللحظة المناسبة، وأخيراً قلتُ لأحد حرّاسه الشخصيين إنني أريد المغادرة. طلبني صدام، وقال: سمعتُ أنك تريد المغادرة. قلت: آسف، لكنه صحيح. طأطأ الرئيس رأسه: حسناً، أفهم. وبعد أسابيع تحققت أمنيتي الكبيرة، وبدأتُ عملي في أحد الفنادق ذات الخمس نجوم”.

“حين غادرت الخدمة لصدام، طلبت الحكومةُ مني أمراً واحداً وحسب؛ كان صدام يعشق (البسطرمة) التي كنتُ أعدّها، والتي تتكون من اللحم البقريّ المجفف، وفي الشتاء فقط. سمح لي صدام بالمغادرة، ولكنه طلب أن أبقى أعدّ له البسطرمة مرة واحدة كلّ عام… البسطرمة الأخيرةُ أعددتها قبيل الهجوم الأمريكي الثاني على العراق. حين ألقى الأمريكانُ القبض على الرئيس في بيت بالقرب من تكريت، وجدوا هناك بعض الطعام ملفوفاً في ورق النخيل. كان صدام حسين يحملها (البسطرمة) معه إلى نهاية حياته”.

رصيف 22

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى