سر الطاغية .. العبودية المختارة/ سيف الدين عبد الفتاح
في ظل ذلك الاهتمام الذي يتعلق بهوامش الظاهرة الاستبدادية، تخيرنا مجموعة من الكتابات تناولت هذا الموضوع الخطير ضمن مفاتيح عدة؛ وقفت من خلالها على مفاصل ساهمت في تفكيك تلك الظاهرة. وفي الكتاب الذي وقفت مقالات للكاتب عنده سابقًا، “كيف تعمل الديكتاتوريات”، أشير إلى مفتاح الجماعة المسيطرة ودوره في تشكل تلك الظاهرة وتكونها، بل وفي انهيارها أيضًا وما يطرأ عليها من تغيرات وما تتركه من آثار ومآلات. ومن مطالعة لتلك الكتابات وبشكل مبكّر، لفت نظري ذلك الكتاب المهم الذي وقفت على ثلاث ترجمات مختلفة له، ما قد يشير إلى أهميته، وما تناوله من أفكار وقضايا، ومنها المفتاح الذي يتعلق بالجماعة المسيطرة، وإن كان قد تناوله بطريقة مختلفة عما جاء في الكتاب الآخر، بالتأكيد على أنه اهتم بدراسة تكون الحالة الاستبدادية وتشكلها وتطوّرها. وهو أمر حدا بنا أن نتوقف عند هذا الكتاب، من خلال الترجمات الثلاث، بما تضمنته من مقدّمات مهمة، ساهمت في تعظيم الاستفادة من الكتاب، بما رصدته من سياقات مهمة، بالإضافة إلى ما تناوله الكتاب من أفكار، والوقوف على كثير من أبعاد تلك الظاهرة التي اختير لها اسم “العبودية المختارة”. وبحق كانت تلك الترجمات جميعها تعبر عن أساليب مختلفة في الترجمة، لكنها كانت من الدقة والعمق بمكان، سواء تمثلت في الطبعة التي قام على ترجمتها مصطفى صفوان، ونشرت عدة مرات في مصر وخارجها، أو الطبعة التي أصدرتها دار الساقي وترجمها صالح الأشمر، أو تلك الطبعة التي أصدرتها المنظمة العربية للترجمة بترجمة عبود كاسوحة.
وقد نشرت عروض كثيرة نوهت إلى أهمية هذا الكتاب، أحال بعضها إلى ظاهرة تتعلق بتلك النصوص التي تكتب في موضوع واحد، وهو الاستبداد. وقد أشار بعضهم، من طرف خفي، إلى أن أكثر ما كتبه عبد الرحمن الكواكبي في كتابه “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” من أفكار قد نقلها من تلك المقالة المطوّلة عن “العبودية المختارة” التي سبقت كتابه بما يقرب من ثلاثة قرون، إلا أننا نرى أن هذا “التناصّ” الموضوعي لا ينفي، في أي حال، أصالة تلك الكتابة في تلك المقالة، وفي الوقت نفسه، أصالة ذلك التأليف الذي قام عليه الكواكبي. بل ونستطيع أن نؤكد أن اختلافات وتمايزات عدة قد لاحظناها في منهج النصّين، وفي أفكارٍ كثيرة تضمّنها كتاب الكواكبي، إلا أن بعضهم قد يكون متقصّدا، بشكل أو بآخر، في النيْل من كتاب الكواكبي، نظرا إلى شهرته وتعدّد طبعاته. وصار هذا المُؤلَف علماً لدى كل من كتب في الظاهرة الاستبدادية أو عنها، واعتبروا الكتاب من العلامات الرئيسة عن مرحلة النهوض العربي، وأصالة منهجه في تناول تلك الظاهرة. وهذه الظاهرة متكرّرة، ومن مثل ذلك ما جرى مع ابن خلدون، حينما اتهمه أحدهم بالسرقة من أفكار آخرين، خصوصا إخوان الصفا. ولعل هذا النهج يحتاج إلى مراجعةٍ كثيرة، فالأمر قد يقع في دائرة وحدة الاهتمام والتناصّ، لا السرقة ونقل الأفكار، وهو أمرٌ لا ينال من أصالة تلك الكتابة وإسهاماتها المتميزة.
سر الطاغية والطغيان يكمن في مفتاحين مرتبطين. وعطفا على مقالة الكاتب السابقة في “العربي الجديد” عن الجماعة المسيطرة؛ فإن هذا المفكر القاضي لابواسييه، يؤكّد على فكرة الداعمين للمستبد الطاغية، باعتبارهم قلة متحكّمة أشبه، كما ذكرنا، بمعاني العصابة، تتكوّن هيكليا بمصالح مشتركة ضيقة، تشكل اتفاقا غير مكتوب؛ وكذا تتشكّل في ظل بيئة نفسية ووسط جماعي مواتٍ، فتكون أركان الحالة الاستبدادية بين مستبدٍ طاغية والمرتكنين لظلمه؛ إن رغبا وإن رهبا “يكمن في إشراك فئة قليلة من المستعبَدين في اضطهاد بقيتهم، إنهم هؤلاء المتملقون المقربون إلى الطاغية الذين يختارون العبودية طواعيةً، بينما يكون الشعب مُكرهًا عليها”. إنه المفتاح الأول الخطر في الظاهرة الاستبدادية وتشكيلها، وقد أكّد على ذلك بصورة جلية بأنه “لا جموع الخيالة ولا فرق المشاة ولا قوة الأسلحة تحمي الطغاة؛ الأمر يتضح مع وجود أربعة أو خمسة يشدّون له البلد كله إلى مقود العبودية، يتقرّبون منه أو يقرّبهم إليه، ليكونوا شركاء جرائمه، وهم من يدرّبونه على القسوة نحو المجتمع، هؤلاء الأربعة أو الخمسة أو الستة ينتفع في كنفهم ستمئة، يفسدهم الستة مثلما أفسدوا الطاغية، ثم هؤلاء الستمئة يذيلهم ستة آلاف تابع يوكلون إليهم مناصب الدولة، ويهبونهم إما حكم الأقاليم أو التصرّف في الأموال، ويحرصون على أن يرتكبوا السيئات، حتى لا يكون لهم بقاء، إلا في ظلهم ولا بعد عن طائلة القوانين وعقوباتها إلا عن طريقهم، إن من أراد أن يتقصى هذه الشبكة وَسِعَهُ أن يرى لا ستة آلاف ولا مئة ألف، بل أن يرى الملايين يربطهم بالطاغية هذا الحبل” (بتصرف). في المقابل، يؤكّد المؤلف؛ في أكثر من مكان في كتابه العميق؛ في مواضع عدة، مُلِحًا على فكرته الكبرى في “العبودية المختارة” و”القابلية للاستبداد”؛ أن “موافقة المُسترقّين، لا قوة الطاغية، هي التي تؤسّس الطغيان، وإن قبول الشعوب استرقاقها المتأتي من رغبتها المستكينة، ومن أنانيتها المفرطة، ومن أطماعها المخادعة.. هو الذي يتيح لواحد، تعضده شبكة رقيق ذات تسلسل هرمي ومتضامنة، أن يوطد سلطان برضا الجميع”. في ما يتعلق بموضوع الطغيان والعبودية وترسيخ الأرضية التي يقف عليها الطاغية، فإن الإشارة بأصابع الاتهام إلى الجمهور من عامّة الناس، وليس إلى الطاغية فحسب، كقوله: كل ما أريده هو أن أفهم كيف أمكن للكثير من الناس، والبلدات والمدن، أن تتحمّل وطأة طاغية واحد، لا يملك من القوة إلا ما أعطوه، ولا قدرة على أذيتهم إلا بقدر ما أرادوا أن يتحملوا منه، ولا يستطيع أن يوقع بهم مكروهًا، إلا لأنهم يفضلون أن يعانوا منه الأمرّين على أن يعارضوه. ويضيف: “ثم إن هذا الطاغية ما من حاجة إلى محاربته وهزيمته؛ فهو مهزوم من تلقاء ذاته، إن لم ترض البلاد باستعباده لها، كما لا يتعيّن انتزاع شيءٍ منه، بل يكفي الامتناع من إعطائه أي شيء، وما من داع لأن تجهد البلاد نفسها لتفعل شيئًا لمصلحتها، شريطة ألا تفعل شيئًا ضد مصلحتها.. إذًا، الشعوب هي التي تُسلس القياد لمضطهدها؛ لأنها لو كفّت عن خدمته؛ لضمنت خلاصها. الشعب هو الذي يَسترِق نفسه بنفسه، وهو الذي يذبح نفسه بيده، إذ لما كان يملك الخيار بين أن يكون عبدًا أو أن يكون حرًا، فقد تخلّى عن حرّيته، ووضع القيد في عنقه”.
بين هذه الجماعة المسيطرة التي تدعم المستبد وحالة العبودية المختارة التي تمكّن له، تقع هذه الحالة الاستبدادية، بكل تشكيلاتها وبكل عنفوانها. وهي ضمن مفاتيح كثيرة يمكن من خلالها ليس فقط الحديث عن كيفية تكوّن الظاهرة الاستبدادية، كما تعطي أيضا مؤشّرات حول تفكيكها؛ والقيام بكل ما يتطلب مواجهتها، بما تستحقه وتستلزمه من عملٍ يستهدف مفاصلها الخطيرة.
العربي الجديد