مملكة «الحساسيات»: هل نملك تجارب اضطهاد فريدة فعلاً؟/ محمد سامي الكيال
يدور في أيامنا سجال كبير حول مراعاة الحساسيات الذاتية لأفراد وجماعات مختلفة، وتنقية اللغة والإنتاج الثقافي والفني والفكري من كل إشارة قد تستثير تلك الحساسيات، الملاحظ هنا أن ذلك السجال لم يعد متعلقاً بالتعبيرات والأفكار العنصرية والتمييزية، التي بات هنالك شبه اتفاق على رفضها، وترسّخ حظرها ومعاقبة متبنيها في البنى القانونية لكثير من الدول، بل أساساً بكل ما يمكن أن يُفهم منه، عن طريق تأويل معيّن، تحيّزٌ أو عداءٌ، حتى لو كان غير واعٍ، ضد مجموعة هوية ما، رسّخت نفسها بوصفها هوية مهمشة.
من ناحية أخرى قد لا تحتاج استثارة الحساسيات حتى إلى تعبيرات مؤوّلة، فيكفي أن يقوم شخص من خارج المجموعة، التي استُثيرت حساسيتها، بالإدلاء برأي ما، حتى لو كان متعاطفاً، حول شؤونها؛ أو أداء فعل، رمزي أو ثقافي، يتعلّق بها، كي يواجه قائمة طويلة من التهم، ليس أقلها «الاستيلاء الثقافي» أو التمركز حول هوية سائدة. وبالفعل، ما الذي يعرفه الرجال عن معاناة النساء في مجتمع ذكوري؟ كيف يمكن لممثل عادي أن يؤدي دور شخص من ذوي الاحتياجات الخاصة؟ وبأي حق يستولي أشخاص مترفون على رموز ثقافية، جاءت من رحم تجربة تاريخية فريدة لمجموعات مهمشة؟
تعبير «التجربة التاريخية» هنا شديد الأهمية، رغم أنه لم يعد من التعبيرات الأساسية في الثقافة السائدة، فالنقد السائد والمنتشر للصوابية السياسية لا يُعنى كثيراً بواحدة من أهم الحجج، التي يطرحها أنصار مراعاة الحساسيات، صراحةً أو ضمناً: لكل مجموعة هوية، بل لكل ذات فردية، تجربتها الخاصة، غير القابلة إلى الرد تماماً إلى تجربة عامة وشاملة، وتصعب ترجمتها عملياً إلى لغة عمومية أو كونية، خاصة إذا أدركنا أن ما اعتبرناه طويلاً لغات كونية ما هو إلا لغة فئة سائدة، تمتعت بالقوة والامتياز، وكل السرد، الذي ساد حتى وقت قريب، كان مفصّلاً على قياس أبناء تلك الفئة، وهم غالباً ذكور بيض غربيون بورجوازيون. لا يتعلّق هذا بكتابة التاريخ أو بالثقافة الجماهيرية حسب، بل أيضاً بالمجالات المحدِدة بشكل ملموس ومباشر لوضعنا الحياتي، مثل الطب، الهندسة المعمارية، البنى التحتية للمدن، إلخ.
بناءً عليه فتأويل ما في التعبيرات من عدوان مصغّر، وتحديد معايير الإساءة والأذية، لا يمكن أن يقاس بلغة ومنطق أصحاب الامتياز، بل وفقاً للتجربة التاريخية، الذاتية والفريدة، لضحاياهم، وعلى كل لغة، تدّعي العمومية، أن تراعي الحساسيات الخاصة. لكن كيف يمكن تحديد تلك التجربة التاريخية، والاتفاق عليها بين أفراد المجموعة المهمشة أنفسهم؟ وهل تجربتهم فريدة للدرجة التي يتصوّرون؟
أغاني النسّاجين
تتبع أصول المفاهيم السائدة اليوم قد يقودنا لنتائج طريفة، فمن الغريب أن أهم من تحدث عن «التجربة التاريخية» بل جعل مفهومها مركزياً في الثقافة المعاصرة، لم يكن ناشطاً في منظمة غير حكومية، أو حتى مفكراً ما بعد حداثياً، بل المؤرخ الماركسي البريطاني الشهير إدوارد بالمر تومبسون، بالتحديد في كتابه المرجعي «نشأة الطبقة العاملة الإنكليزية» الذي ترك أثراً لا يمحى في كثير من التيارات الثقافية، التي ظهرت بعد نشره عام 1963. لم يكن تومبسون بالتأكيد أول من اهتم بالتأريخ للطبقة العاملة، فقبله سعى كثير من المؤرخين إلى تتبع أحوالها، وأصول نشأتها التاريخية، لكن من خلال معطيات بنيوية يسهل رصدها: الثورات الصناعية وتطوّر بناها التحتية، توزيع الأيدي العاملة، الأجور ومعدلات الدخل والقدرة الشرائية، إلخ. أما تومبسون فسعى إلى ما هو أكثر، «كتابة التاريخ من تحت» من منظور الخبرة التاريخية الذاتية للطبقة العاملة الإنكليزية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وهي الطبقة التي لطالما تحدث الجميع عنها، لكن تم إقصاء صوتها الذاتي. سعى تومبسون إلى ما اعتبره إنقاذاً لأصوات النسّاجين والحدادين والحرفيين، الذين دمرت الصناعة الحديثة أنماط حياتهم، وأجبروا على بيع عملهم في ما بعد وراء آلات ضخمة، قبل أن يتم الاستغناء عنهم، وتوظيف فئات أقل أجراً من جيش العمل الاحتياطي الضخم في البلاد. وعبر الوثائق المهملة في الأرشيف البريطاني، الذي حوى إفادات بعض العمال، مدونةً بألفاظهم نفسها؛ أو تسجيلاً لتقاليدهم وأغانيهم وعاداتهم. ومن خلال تفحّص كثير من الآثار والتراث المادي، كتب تومبسون أكثر من ثمانمئة صفحة عن التجربة التاريخية للعمال الإنكليز، محاولاً جعلهم «ذات تاريخهم الخاص» لا مجرد موضوع لتفحّص نخب المؤرخين.
التجربة التاريخية بالنسبة لتومبسون ما يؤسس الطبقة نفسها، وبفضلها أصبح العمال «طبقة عاملة» معرفاً إياها بشعور الأفراد بهوية معينة لاهتماماتهم ومصالحهم الذاتية، نتيجة تجربتهم، المتوارثة أو الحالية، التي عايشوها بشكل لا إرادي، بسبب موقعهم في عملية الإنتاج. وإذا كانت الظروف المادية قابلة للتحديد التجريبي الخارجي، فإن الوعي الطبقي ليس كذلك، بل هو ردة الفعل الذاتية، والاستجابة الثقافية الفريدة على الضغط الخارجي: يشعر العمّال بأنهم عمّال، بالتناقض مع هوية ومصالح بقية الطبقات، ويبتكرون مجموعة من التقاليد وأنظمة القيم والتعبيرات الثقافية. ولكي نعيد بناء تاريخ الطبقة العاملة، علينا أن نبيّن كيف كانت تجربتها التاريخية الفريدة، كما عايشها العمال أنفسهم.
يُعتبر عمل تومبسون ثورة على مناهج التأريخ السائدة في عهده، سواء التقليدية منها أو البنيوية، ومؤسساً لمدارس فكرية شديدة التأثير، مثل مدرسة «دراسات التابع» الهندية، التي حاولت إعادة بناء التجربة التاريخية للفلاحين الهنود، في تمرّدهم على النخب، الاستعمارية والمحلية؛ ومدرسة «الدراسات الثقافية» البريطانية (وليس الأمريكية) التي اهتمت بشدة بالرموز الثقافية، في كل تفاصيل الحياة اليومية، وبحث علاقاتها، بشكل عابر للتخصصات الأكاديمية، بمجموع البنى الاجتماعية والإنتاجية والسياسية. يمكن بسهولة إدراك مدى تأثير المؤرخ البريطاني على ثقافتنا المعاصرة: لكل هوية مهمشة تجربتها التاريخية الخاصة، التي لا يمكن اختزالها بالبحث بالبنى التي تعيش ضمنها والظروف المادية التجريبية، ناتجة عن إحساسها بوجودها، واستجابتها الثقافية الفريدة على الضغط الخارجي، الذي عانته من قبل أصحاب الامتياز: البيض والمستعمرين والذكور.
تجارب غير شفافة
إلا أن تومبسون لم يذهب بعيداً في بحثه عن «ذات التاريخ» فهو بالنهاية كتب عمله الأبرز في جامعة «ليدز» البريطانية، ورأى أن بإمكانه إعادة بناء تجربة العمال التاريخية بالمعايير واللغة التي تجيزها تلك الجامعة، أي فعلياً بلغة عمومية، بل وأقرب للغة النخب. لهذا أهمية كبيرة، شرحها المؤرخ الهندي سوميت سركار، الذي انسحب من مدرسة «دراسات التابع» بعد أن رأى ما وصلت إليه من نتائج مناقضة لما رامه مؤسسوها: من الصحيح أن التجربة التاريخية ليست محايدة وشفافة، ولا توجد إلا من خلال التأويل، سواء تأويل أصحاب التجربة أنفسهم، ونظرتهم لهويتهم وحساسياتهم؛ أو تأويل المؤرخ، الذي يعيد بناء تلك التجربة، بانحياز كامل مع منظور أبنائها، إلا أن التأويل نفسه لن يمتلك المعنى، ولن تكون له فائدة تواصلية، إذا لم يكن قابلاً للترجمة للغة عمومية مشتركة، يفهمهما حتى من لم يعش التجربة التاريخية. وللتوضيح أكثر: ما أهمية أن نتحدث عن عمال وفلاحين، عاشوا وماتوا قبل عقود طويلة، إذا لم تكن تجربتهم قابلة للترجمة إلى لغة يفهمها البشر جميعاً؟ استحالة الترجمة تعني استحالة المعرفة والفعل والتواصل الإنساني نفسه، وحرماننا من هذه الإمكانيات لن يعني سوى أن نصبح ذواتاً خاضعة ومستلبة.
التجربة العمومية
هكذا وبفضل إدوارد تومبسون، الذي كان أستاذاً جامعياً، وليس عاملاً من القرن الثامن عشر، استطعنا أن نعرف كثيراً عن حياة عمال تلك الحقبة، وتجربتهم التاريخية، ويمكن تعميم إمكانية المعرفة هذه على كل الميادين الاجتماعية والثقافية والسياسية المعاصرة. والأهم أن التصريحات، الصادرة عن فرد من هوية ما، قد لا تكون معبّرة بالضرورة عن كل أفراد هذه الهوية، إذا أخذنا بعين الاعتبار أهمية التأويل وإعادة التأويل، أي الشرط الأيديولوجي التي ينشط ضمنه المتحدثون باسم الهوية. ففي عصر توزّع فيه خيرات «التمكين» المؤسساتي على من يدّعون تمثيل معاناة هوياتهم، قد يقوم كثيرون بإعادة تأويل التجربة التاريخية بما يتناسب مع مصالحهم في التمكين. وكذلك فإن التجارب التاريخية، على خصوصيتها وتنوّعها، ليست فريدة للدرجة التي قد يتخيّلها البعض، فكلها تتمركز في نقطة الالتقاء مع ضغوط خارجية، متعلّقة ببنى اجتماعية واقتصادية وسياسية، يمكن تعيينها بوضوح، وعايشها الجميع بدرجات مختلفة، وقابلة للفهم بالتأكيد.
يصعب بهذا المعنى الحديث عن حساسيات، لا تدركها إلا جماعة هوية معينة. كما أن اللغة المشتركة تمتلك إمكانيات كبيرة لإعادة إنتاج كل تجربة تاريخية، وجعلها تراثاً إنسانياً عمومياً، وتحويلها إلى دافع تحرري ضد الشروط غير العادلة، وهذا أجدى من جعلها امتيازاً جديدا، يفكك العام والمشترك، بهدف التنافس على لعب دور الضحية.
كاتب سوري
القدس العربي