الديمقراطية هنا.. الديمقراطية هناك/ ماهر مسعود
كما تتآكل تلك الجزر الديمقراطية بفعل الفشل الكبير الذي بات يلوح في الأفق للمشروع الديمقراطي عالميًا، والذي بدأت مظاهره تصبح ساطعة، مثل رأس جبل الجليد، مع فشل الربيع العربي (آخر محطّات قطار الديمقراطية)، ولا سيما مع فشل الثورة السورية بتشابكاتها الدولية، وتأثيراتها العالمية التي تصاعدت موجيًا، مثل تأثير الفراشة التي ترفرف في بوينس آيرس لتخلق إعصارًا في الصين، على ما هو معروف في الأوساط العلمية والفلسفية (منذ إدوارد لورينتز عام 1963)، بتأثير الأشياء الصغيرة في إنتاج الظواهر الكبرى على المدى البعيد؛ فسورية الصغيرة، التي لم تملأ عين أحدٍ في التحليل السياسي والأكاديمي الدولي عند قيام الثورة، باتت نموذجًا سياسيًا وعسكريًا (بالمعنى المباشر أو غير المباشر) لجميع القوى الآنتي-ديمقراطية في العالم.
ومن مبدأ تأثير الأشياء الصغيرة بالكبيرة، يمكننا المغامرة بالقول: إن ترامب كان نسخة عن السيسي، وليس العكس، والانقسام الشعبي الذي حدث في الانتخابات الأميركية التي جاءت بترامب أو التي أدت إلى رحيله، كانت نسخة عن الانقسام الشعبي الذي أدى إلى مجيء مُرسي أولًا ثم استمر ليأتي بالسيسي لاحقًا، وليس العكس، وعندما سمّى ترامب السيسي بـ “دكتاتوري المفضّل”، فإن المعنى الظاهر هو التقليل من الأهمية والسخرية، لكن المعنى الباطن الذي يمكن استنتاجه هو رغبة ترامب في موقع دكتاتوري على شاكلة السيسي. والأمر ذاته يمكن إسقاطه على بوتين الذي هو نسخة عن الأسد، بقدرته على الإجرام اللامحدود والرغبة المرضية في السلطة وإثبات الذات، وليس العكس، وعندما سمّى بوتين الأسد عام 2012 بـ “الولد الذي جاء بالعالم إليّ”؛ فالجملة فيها من الاستخفاف بقدر ما فيها من الشكر.. وأخيرًا يمكن تشبيه البلادة و”الروح المخصيّة” التي يتصف بها بايدن وسياسته، ببلادة قيس سعيّد في تونس، وليس العكس. وفي قلب ذلك كله، نجد أن التوجه العالمي في السياسة، نحو ما يُدعى القبائلية “tribalism” وسياسات الهوية، يماثل -من نواح عدة- توجّه دولنا ومجتمعاتنا نحو التشرذم والقبائلية والانقسام الهوياتي والطائفي والديني والاثني، في خط يبدو بلا رجعة لأشكال ما قبل الدولة.
إن السؤال الذي يعبّر عن مشكلة، ويتجنّب الجميع طرحه علنًا في الغرب، نظرًا للمفارقات التي ينتجها والحمولة التاريخية الثقيلة التي يحملها، هو: هل يمكن للمشروع الديمقراطي أن يكون مشروعًا محليًا، أو إقليميًا، في عصر العولمة، أم لا بدّ أن يبقى مشروعًا عالميًا؟ والمفارقة الكبرى التي ينتجها هذا السؤال هي التالية: إذا كانت الديمقراطية مشروعًا عالميًا، فهي إذًا تحتاج إلى قوة عسكرية متطورة، وحماية فوق دستورية، ونفوذ دولي، وحتى تدخل عسكري، وذلك ضد المشاريع الكونية المقابلة للدول الآنتي ديمقراطية ورعاياها الصغار، وهذا ما باتت ترفضه الأجيال “الأوبامية” الجديدة في الغرب. وبالمقابل، إذا كانت الديمقراطية مشروعًا محليًّا أو إقليميًّا (أوروبي وأميركي مثلًا)، فهي لن تستطيع أن تحمي نفسها حتى داخل دولها، نتيجة لتمدد المشاريع الاستبدادية المنافسة من الخارج، التي ستُخرِج من الداخل اليمين الكامن في تلك المجتمعات من جحوره، وتدفعه إلى القيادة، ومن ثم إلى قيادة الانزلاق نحو النمط الآنتي-ديمقراطي غير المرغوب من الأجيال الجديدة ذاتها. وهذا ما يدفع نحو تناقض صارخ، بين ما يتم استبعاده قيميًا دون قدرة على منع استحضاره سياسيًا، وكأن القيم هي ما يصنع السياسة!
لقد تخلى الغرب عن السرديات الكبرى، أي الـ “Grand Narrative”، بفعل ضربات ما بعد الحداثة، وضمن تلك السرديات، جميع الأيديولوجيات الكبرى التي حملت طابعًا عالميًا على طول القرن العشرين، سواء كانت ماركسية أو فاشية أو نازية أو حتى دينية قبلها، ثم بعد تفاؤل من النوع “الفوكويامي” بانتصار آخر سردية غربية عالمية قامت عليها الحداثة، وهي سردية الليبرالية الديمقراطية؛ ذلك التفاؤل الذي استمر ينازع قرابة عقدين منذ انهيار الاتحاد السوفييتي وصولًا إلى عام 2008، وهو عام الأزمة الاقتصادية العالمية ووصول أوباما إلى الحكم في أميركا، بدأ بعدها التراجع والتخلّي عن تلك السردية الديمقراطية الليبرالية، لتمضي في تقلّص وانكماش وجَزْر ما زال مستمرًا حتى اليوم. حيث بات الحس العام، أو القناعة السائدة غربيًا، والتي تسري مثل خيوط اللاوعي تحت مياه القرارات السياسية المُتّخذة في السنوات الثلاثة عشر الماضية، هي أنه لا يمكن فرض الديمقراطية والليبرالية على أحد، بل إن هناك دولًا ومجتمعات لا تريد ذلك، أو هي غير مؤهلة لا للحرية ولا للديمقراطية (ولا سيما الدول والمجتمعات العربية والإسلامية)، ولذلك علينا الاهتمام بأنفسنا، وترك الآخرين لمصيرهم المختار من قبلهم، وخصوصياتهم الثقافية واللغوية والحضارية.
المحصّلة إذًا، بعد أن كانت الأسس الفكرية والفلسفية والسياسية للحداثة والتنوير، تقوم على عالمية العقل والرغبة البشرية بالحرية (ديكارت، كانط، هيغل، وصولًا إلى سارتر)، وكونية قيم الديمقراطية والليبرالية وحقوق الإنسان (جون لوك، مونتسكيو، توكفيل، وصولًا إلى جون ديوي)، وتتحدث عن طبيعة الميل الإنساني إلى التحرر ورفض الأغلال والرغبة في الاعتراف، وحقيقية العلم والتقدّم.. الخ، أي بعد أن كانت تتحدث باسم الإنسان بصفة جوهرية في كل مكان، بغض النظر عن مكان وجوده وزمانه، بات الحديث عن الخصوصيات الحضارية والثقافية يتصاعد مثل انتصار هينتغتوني غير متوقع، وبات حديث فوكو عن “موت الإنسان” يبدو أكثر واقعية.
السياسة، في أحد جوانبها، مثل الطبيعة، لا تحتمل الفراغ. وفشل المشروع الديمقراطي في التحوّل إلى نموذج إرشادي عالمي سيملأ فراغه مباشرة المشروعُ الصاعد للدكتاتورية الديجتالية الصينية، لكن المشكلة مع المشروع الصيني أو الروسي هي أنها مشاريع لا تملك ما تقدمه للعالم، بالمعنى الفكري أو الفلسفي أو الأدبي أو الثقافي أو القيمي، ليس لديها سوى اقتصاد رأسمالي متطور، وسياسة استبدادية متخلّفة تقوم على أحدث أشكال التكنولوجيا. ليس لدى الصين ولا روسيا أدب عالمي يحتفل بذاته وقيمه الكونية، لأن الإبداع الأدبي مجاله الحرية، وليس لديهم فلسفة عالمية يمكن تبنيها في الدفاع عن قيم الحرية والاعتراف والكرامة البشرية العامة، لأن أنظمتهم تقوم بالضبط على هدر كرامة مواطنيهم، وقمع حريات شعوبهم. ليس لديهم مؤسسات دستورية تقوم جوهريًا على حقوق الإنسان والمواطن، ولا استقلال حقيقي للمجتمع المدني في دولهم، ولا حرية فعليّة للأحزاب والحركات السياسية عندهم، لأن أنظمتهم ذاتها تقوم على قمع كل ما سبق ذكره، وتنبني على رفض أصيل للتعدد، التعدد الذي وصفته حنّة آرنت بأنه العدو الأكبر للتوتاليتارية. ذلك هو الجانب الدستوبي فعلًا في تلك المشاريع.
يبدو أخيرًا أن الديمقراطية هنا، والدكتاتورية هناك (وهو الشكل الذي عاشت عليه الديمقراطيات الغربية سابقًا، واستفادت من امتيازاته)، لم يعد شكلًا قابلًا للحياة، بل ما يبدو أكثر ترجيحًا في عالم اليوم هو ديمقراطية هناك وهناك، أو لا ديمقراطية هنا ولا هناك. وهذا ليس طرحًا جديدًا في عالم الفكر والأدب والفلسفة، فقد تنبأ به سلمان رشدي، في روايته “العار”، وتحدث عنه أريك فروم، في كتابه “الإنسان بين الجوهر والمظهر”، وأما جيل دولوز فقد صاغه بطريقة عظيمة، عندما قال في إحدى حواراته بما معناه: إن لم يبدأ الغرب برؤية مشاكل العالم الثالث، بوصفها أقرب إليه من مشاكله ذاتها، فلا مستقبل للديمقراطية في الغرب، ولا في أي مكان آخر.
مركز حرمون