قليل من أفغانستان في دمشق/ رانيا قطف
عام 1985، وفي عددها المئة وسبعة وستين، نشرت مجلة ناشيونال جيوغرافيك الأمريكية، على غلافها، صورة لوجه فتاة أفغانية تبلغ من العمر ست سنوات، واضعةً عنواناً لها، هو: “على طول حدود أفغانستان التي مزّقتها الحرب”، ووصفاً إلى جانب الصورة يقول: “عينان قلقتان تخبراننا عن مخاوف لاجئة أفغانية”.
هي الفتاة اليتيمة “شربات غولا”، التي حرمتها الحرب السوڤياتية من بلدها، ولجأت إلى باكستان مع عائلتها، وعندما رآها المصور ستيڤ مكاري في مخيم بيشاور، في شتاء العام 1984، التقط صورتها، لتصبح وجهاً من أشهر الوجوه الأفغانية في العالم.
عندما بلغتُ العاشرة من عمري، رأيت وجه هذه الفتاة. كانت المرة الأولى التي أسمع فيها عنها، وعن تلك البلاد. كان عليّ حينها البحث عن موضوع شيّق، أتحدث عنه أمام الطلاب في صفي المدرسي، ولجأت إلى مجلة ناشيونال جيوغرافيك. عندما رأيت الفتاة التي كانت حينها أصغر مني بقليل، نسيت الوظيفة، وقررت الجلوس في المكتبة، لأقرأ عن قصتها، ولم أكن أتصور أنني، بعد ذلك بنحو خمسة وعشرين عاماً، سأكتب عنها، وعن بلدها، إذ يكرر التاريخ نفسه، حرباً، ونزوحاً، ولجوءاً، وشتاتاً.
طريق الحرير
بعد عقد على الأحداث في سوريا، وما يحدث اليوم في أفغانستان، بدأت أدرك أكثر، ماذا يعني اللجوء، والبحث عن وطن يأوينا، وأشخاص فقدناهم، وربما الأهم هوياتنا المبعثرة.
ومع وقوفنا على عتبة التساؤل عن مصير أفغانستان، والمواطنين الأفغان، وإلى أين سيؤول، وكيف سيعيشون شتات الهوية، والثقافة، والتاريخ، وما هو مبطن في الذاكرة كله، من عادات وتقاليد وموروثات، بدأت أبحث عن تراث أفغانستان، وتاريخها الممتد إلى مدينتي دمشق. لا بد وأن أجد شيئاً منها، واندهشتُ عندما اكتشفت أن هذا البلد البعيد القريب، يعيش منذ زمن معنا، من خلال تفاصيل تزيّن بيوتنا، وتزاحم صناعاتنا في الأسواق، وعلى الرفوف.
بدايةً، لفتت انتباهي صور نشرتها الفنانة والمصورة الأفغانية فاطمة حسيني، لمتجر سجاد وأقمشة مطرّزة، التقطتها من وسط أسواق كابول، لأجد فوراً الرابط والتشابه مع أسواق دمشق التي يعود عمرها إلى مئات السنين، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، “القيمرية” الذي كان يُدعى “الهند الصغرى”، لكثرة الصناعات اليدوية، والأجنبية فيه، وخاصة القادمة من شرق آسيا، عبر طريق الحرير.
فدمشق التي كانت مركزاً عالمياً لمرور القوافل القادمة من أنحاء العالم، جمعت الثقافات التي تشتهر بها المدن كلها التي كانت على تواصل معها، من صناعات، وحرف يدوية، وأقمشة، وكان لا بد من تأثير متبادل ومتناقل بين تلك الثقافات كلها.
مثلاً، لم يكن من الصعب أن ألحظ التشابه بين تطريز قماش “الصرمة” في دمشق، والذي يعود تاريخه إلى قرنين قبل الميلاد تقريباً، وبين تطريز أقمشة أفغانية عثرت عليها في الكثير من المحال الدمشقية مؤخراً، وهو أمر أشارت إليه الباحثة الأسترالية هيذر كوليير روس، في كتابها “فن الزي العربي” The Art of Arabian Costumes.
أمضت الكاتبة سنواتٍ عديدة، وهي تدرس مختلف أنواع المجوهرات والأزياء التقليدية في الجزيرة العربية، ورأت أوجه تشابه واضحة بين تطريز قماش “الصرمة” الدمشقي، وبين التطريز المعروف في مدينة زاهدان الواقعة قرب الحدود بين إيران وأفغانستان. وتكمل الباحثة قائلةً إن دمشق نجحت في خلق الاستمرارية لهذا النمط من التطريز الذي دخل إليها عبر طريق الحرير. أما عن الرابط الأساسي بينهما، فإن تطريز “الصرمة” يعتمد كلياً على الأشكال النباتية، وطريقة التطريز البارزة فوق مستوى القماش مطابقة لما نجده في منطقة زاهدان.
ومن محل إلى آخر، في قلب أسواق دمشق القديمة، لفتت ناظري رسوم، وألوان، قرأت من خلالها زمناً يتسلل من بين رسومها. إنه السجاد الأفغاني الجميل، والبسط اليدوية المشغولة بإتقان، التي سحرتني، من دون أن يغيب عن بالي البلد الرازح تحت وطأة تغييرات سياسية وميدانية أثقلت كاهل سكانه.
وقرب حي القيمرية، وفي متجر صغير للبسط والسجاد، حدثني أبو جميل، وهو خبير في تصليح السجاد بأنواعه المختلفة، قائلاً إن السجاد الأفغاني يُعد من أجود أنواع السجاد المصنوع من الصوف، لهذا كان متوفراً بكثرة، في دمشق. والجدير بالذكر، أن أرقى أنواع السجاد الأفغاني، تجمع بين البسط المشغولة على آلة النول، بطريقة الضفائر، وبين السجاد المصنوع يدوياً.
ولا يزال شائعاً حتى اليوم، لدى العديد من العشائر الأفغانية، أن يُصنع سجاد خصيصاً للعروس، لتأخذه مع جهازها، وهي عادة موجودة عند أهل الشام، إذ تأخذ العروس مع جهازها، سجادةً، وقطعة من قماش “الأغباني” الدمشقي الشهير، وصينية مصنوعة من الخزف التشيكي.
وتُعرف سجادة العروس في أفغانستان، بالسجاد التايماني Taimani، وهو أغلى الأنواع، لأنه يُصنع من صوف الخرفان الصغيرة. وكلما مرّ الزمن، كلما أصبح ملمسها أشبه بالحرير، وارتفع سعرها، وهناك أيضاً الهيرات Herāt ، وهو نوع من البسط اليدوية، والكيليم Kilim، المشغولة يدوياً بواسطة النول والإبرة.
وفي خان السفرجلاني، وسط سوق الصاغة في دمشق القديمة، يعرض صاحب متجر ماري للتحف، قطعة قماش يغطي بها واجهة محله الزجاجية. شدّتني هذه القطعة بتفاصيلها الملونة، لأدخل وأتحرى عنها، وأكتشف إضافة جديدة في أسواقنا الدمشقية، وهي شراشف البلوش المكونة من خليط من قصاصات الأقمشة الزائدة التي يُعاد تدويرها وجمعها، واشتهرت بها قبيلة بلوش في أفغانستان.
هذا النوع من الصناعات اليدوية، المعروف عالمياً باسم Patchwork، اشتهرت به البادية السورية، وأيضاً دمشق، فكانت النساء تعيد تدوير ملابس أبنائهن، ليصنعن منها البسط والأغطية. واللافت في الأمر، أن الشرشف الأفغاني صُنع بالطريقة نفسها تماماً، فاختيرت أجزاء من فساتين أطفال، وتمت حياكتها يدوياً، لتصبح شرشفاً أشبه باللوحة الفنية، في حين تُصنع القطع الدمشقية من ملابس تعود لأفراد العائلة كلهم، فنجد فيها قماش الصاية، والبروكار، وغيرها من الأقمشة الملونة.
الأحجار الكريمة
الإكسسوارات التي تدخل الأحجار الكريمة في صناعتها، والتي تتزين بها واجهات العديد من المحال، بالقرب من الجامع الأموي، أو في التكية السليمانية في دمشق، أيضاً يعتمد بعضها على ما يحمله التجار من أفغانستان.
يخبرني محمد الخطيب، مالك محل للمجوهرات في الشارع المستقيم قرب باب دمشق الشرقي: “نعتمد في صياغتنا على الأحجار الكريمة، وخاصة حجر اللبيس الذي كان مشهوراً لدى التدمريين، والسومريين، واعتاد أهل دمشق التزين بها، لجمال ألوانها، وطاقة أحجارها. لكل حجر تسميته، ومنفعته في حالات الشفاء، وقوة الحضور، والتحصين ضد الطاقة السلبية”.
معظم هذه الأحجار كانت يأتي إلى دمشق، من السند، والهند، وأفغانستان، عبر طريق الحرير، ولا تزال الأحجار الأفغانية حاضرة بقوة في صناعة الإكسسوارات الدمشقية.
ويضيف صاحب محل “الأيدي الماهرة للشرقيات”، قرب مقهى النوفرة الدمشقي الشهير، أن الإكسسوارات الفضية الأفغانية، تتميز عن غيرها في أسواق دمشق، بتفاصيلها النادرة، وأغلبها يعتمد على حجري اللبيس، الذي يستخرج من الجبل الأزرق، أو الفيروزي الموجود في أفغانستان، والعقيق الأحمر، نظراً لأهمية الأخير، إذ يقال في دمشق إن “العقيق يُذهب الضيق”.
“أفغان” في دمشق
منذ زمن طويل، استقطبت دمشق الكثيرين من الرحالة، والمهاجرين، والفارّين من بلادهم، وجذبتهم للعيش فيها، لما لديها من مناخ لطيف، وفاكهة لذيذة، ومياه عذبة، وأسواق قديمة متنوعة. ومن أسماء العوائل المقيمة في دمشق، منذ عقود طويلة، المغربي، والمصري، واليمني، والسيقيلي، والشيرازي، ما يدل على أصولهم، وبلادهم التي جاؤوا منها. واليوم، توجد في دمشق عائلتان تحملان اسم “الأفغاني”، إحداهما دمشقية، والأخرى تعود أصولها إلى أفغانستان.
ئلة الأفغاني الدمشقية، إلى بداية القرن الماضي، ولُقبوا بهذا الاسم بسبب جدهم الذي كان يملك متجراً في مئذنة الشحم، وسط دمشق القديمة، وكان يسافر كثيراً إلى أفغانستان، بغرض التجارة، وجلب الحبوب والبذور. وعند عودته، كان يناديه أهل السوق قائلين: “جاء الأفغاني”، فثبت عليه هذا اللقب، واليوم تشتهر هذه العائلة ببيع المثلجات، وتملك ثلاثة متاجر أحدها يُسمى دمشق، والآخر الأفغاني.
أيضاً، تعيش عائلة أفغانية في دمشق، منذ أكثر من أربعين عاماً، وإن سألنا أياً من سكان حي البرامكة، وسط المدينة، عن أفضل بائع للزيت وموزّع له، في المنطقة، سيقول لك حتماً: “الأفغاني”.
وفي نهاية المطاف، علمت بأن رجلاً أفغانياً كان يقطن في دمشق، يُدعى عبد الحكيم الأفغاني، كان يعمل في صناعة الحبر، بعد أن قرر الاستقرار في المدينة التي زارها في شبابه، وعشقها.
كان عبد الحكيم ينتج أفخر أنواع الحبر العربي يدوياً، وكان الحبر الأسود الذي يصنعه “سلساً كالحرير”، حسب وصف الخطاط الدمشقي أحمد المفتي الذي كان يشتريه منه باستمرار، حتى إنه اشترى آخر علب صنعها قبل وفاته عام 1984، عن عمر يناهز خمسة وتسعين عاماً، وإلى يومنا هذا لم يخلفه وريث، ليعوض لدمشق خسارتها الأفغاني الشهير.
كانت جولتي في دمشق أشبه بالسفر عبر الزمن، فرأيت فيها ما لم أستطع الوصول إليه، بسبب بعدي عن أفغانستان، وبسبب الظروف التي فرضت علينا صعوبة في زيارتها. أفغانستان تبدو لي أشبه بزهرة جميلة، ضاعت معالم عطرها عن العالم، بسبب الحرب، لكننا لو بحثنا جيداً، فسنجد أثراً من هذه المعالم في كثير من الأماكن حولنا.
رصيف 22