اليسار والانتفاضة في سورية: التشرذم السياسي، المأزق الاستراتيجي والمواءمة مع الواقع الراهن/ فرديناند أرسلانيان
Ferdinand Arslanian
المقدمة
برزت في أوساط المعارضة السورية صورة نمطية لكائن يساري سمي بـ”الأنتي الإمبريالي” يمثل شخصية متحجرة يبني موقفه السياسي بالتضاد مع الموقف الأميركي متجاهلًا أن ما يحدث على أرض الواقع يمثل ثورة شعبية. أما في الأوساط الموالية للنظام، فبرزت صورة نمطية أخرى عن الشاب اليساري الرومانسي الساذج الذي يجمل انتفاضة هيمنت عليها التيارات الجهادية. يمكن القول بأن هذه الصور المذكورة تعكس مأزق اليسار السوري الذي عانى من تقاطع أزمتين، أزمة فكرية وتنظيمية مرتبطة بأزمة اليسار الماركسي بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وأزمة محلية مرتبطة بغياب الحياة السياسية في سورية خلال حكم البعث وتحول الأحزاب السياسية فيها إلى ما يشبه بالدكاكين السياسية التي تعصف بها الخلافات والمصالح الفردية. أثّر ذلك بالتالي على آلية تعامل اليسار السوري مع الوضع المعقد للانتفاضة السورية إذ إنه رغم كونها انتفاضة ضد نظام قمعي تحول إلى “رأسمالية المحاسيب” في العقد السابق للانتفاضة إلا أن هذا النظام يشارك اليسار أصوله الأيديولوجية وعلى علاقة تناحرية مع خصوم اليسار من القوى “الإمبريالية” الغربية والكيان الصهيوني. علاوةً على ذلك، فإن الصراع الدموي الذي جرى في العراق إبان الغزو الأميركي وتعبيره الطائفي شدّدا من تعقيدات التعامل مع الوضع السوري.
وبالنظر إلى المقالات التي تناولت موضوع اليسار السوري، يمكن القول إن هذه المقالات ركزت عمومًا على غياب اليسار “الحقيقي” وشددت على ضرورة بروز هكذا يسار للعب دوره السياسي المرجو. بالمقابل، غفلت هذه المقالات عن التمحيص “العياني” في الطيف الواسع من التيارات التي تعرّف عن نفسها على أنها يسارية وتحليل موقفها من الانتفاضة السورية. وعليه، ستكون مساهمة هذه المقالة في موضوع اليسار السوري هو التركيز على تحليل موقف مختلف التيارات اليسارية في سورية من الانتفاضة ومناقشة ممارستها السياسية خلال الانتفاضة السورية وتحولها إلى أزمة معقدة تتمفصل فيها الصراعات الداخلية مع الصراعات الإقليمية والدولية. بالأخص، ستتناول هذه المقالة التيارات التي تتبنى الفكر الماركسي على اختلاف تنويعاتها ولن تتطرق إلى الأحزاب القومية العربية واليسار الكردي إلا في إطار تحالفهما مع التيارات الماركسية. ستصنف هذه المقالة التيارات اليسارية بحسب موقفها من الانتفاضة إلى ثلاث كتل رئيسة هي المعارضة التقليدية اليسارية المتمثلة بـ”هيئة التنسيق الوطنية”، وتيار وسطي بين النظام والمعارضة ممثلًا بـ”جبهة التغيير والتحرير”، وتيارات متموضعة ضمن الحراك المعارض، وذلك علاوةً على الأحزاب الشيوعية الرسمية المندرجة ضمن الجبهة الوطنية التقدمية بقيادة حزب البعث الحاكم والتي لم يخرج موقفها عن الموقف العام للنظام السوري. ستحاجج هذه المقالة بأن مختلف الكتل اليسارية عانت من مأزق استراتيجي يكمن في استحالة التوفيق بين العمل على إسقاط النظام مع الاستمرار في رفض كل من تدويل وعسكرة الأزمة السورية وستشرح كيف واجهت كل كتلة ذلك المأزق وكيف ساهم ذلك في مواءمة استراتيجيتها مع المناخ السياسي للواقع الراهن.
المعارضة التقليدية: هيئة التنسيق الوطنية
الجذور والنشأة
تعود أصول “هيئة التنسيق الوطنية” إلى “التجمع الوطني الديمقراطي” والذي تأسس سنة 1979 كتكتل معارض وناتج عن الانقسامات والانشقاقات عن الأحزاب اليسارية والقومية العربية المنضوية تحت الجبهة الوطنية التقدمية. تعرض التجمع تنظيميًّا لضربة قاسية إبان أحداث الثمانينيات وتم إحياء نشاطه في أوائل الألفية الثانية ضمن الحراك المدني المسمى بــ”ربيع دمشق”، ومرورًا بمشاركته في “إعلان دمشق” سنة 2005. شكل “إعلان دمشق” أكبر تجمع لأقطاب المعارضة السورية إلا أنه سرعان ما تفاقمت الخلافات بين مختلف التيارات المنضوية تحت لوائه بدءًا من تعليق الأخوان المسلمين نشاطهم في الإعلان لتشكيل تحالف مع نائب رئيس الجمهورية المنشق آنذاك عبد الحليم خدام ووصولًا إلى الخلاف اليساري الليبرالي حول جدوى الاستعانة بالخارج لإسقاط النظام السوري تيمنًا بالتجربة العراقية في إسقاط نظام صدام حسين. توحدت التيارات الماركسية سنة 2007، وعلى رأسهم “حزب العمل الشيوعي”، في التجمع اليسار الماركسي (تيم) وسعت إلى خلق تيار ثالث بين النظام و”الإعلان” مع الأحزاب القومية العربية المندرجة في التجمع والأحزاب اليسارية الكردية خلال الفترة 2008-2010 ولكن من دون نجاح في الوصول إلى رؤية موحدة. إلا أنه مع اندلاع الانتفاضة السورية في آذار 2011، تمكنت تلك القوى من التوحد في “هيئة التنسيق الوطنية” خلال شهر حزيران. عرفت هيئة التنسيق عن نفسها على أنها تجمع لتيارات ماركسية وقومية عربية وكردية وسعت إلى تجاوز نواتها اليسارية من خلال ضم شرائح أخرى إلى صفوفها كـ”التيار الديمقراطي الإسلامي” وجهات محسوبة على الحراك كـ”حركة شباب 17 نيسان” و”حركة معًا” وحصرت برنامجها السياسي بالتحول الديمقراطي على النموذج الليبرالي وكذلك برنامجها الاقتصادي فكان مبنيًّا على الصيغة الرأسمالية مع الاحتفاظ بدور أكبر للدولة في النشاط الاقتصادي.
فشل الحصول على الشرعية من الشارع المعارض
ساهم رفض هيئة التنسيق الوطنية المشاركة في اللقاء التشاوري الذي دعا إليه النظام كقاعدة للحوار في التوافق الأولي بين مختلف الكتل المعارضة وإن لأسباب مختلفة. فبينما كان رفض التيارات الأخرى الليبرالية والإسلامية ناتجًا عن رفض الحوار مع النظام من حيث المبدأ كان رفض الهيئة ناتجًا عما وصفته بغياب المناخ الملائم للحوار في ظل اتباع النظام الحل الأمني للتعامل مع المظاهرات. إلا أن الانقسامات داخل الأسرة المعارضة أخذت في التبلور وخاصةً مع تغير المناخ الإقليمي والدولي المصاحب لانهيار نظام القذافي في ليبيا بمساعدة الحظر الجوي الغربي والذي تمخض عنه تأسيس “المجلس الوطني” في اسطنبول. جاء رد الهيئة على إعلان المجلس الوطني بشكل فوري من خلال انعقاد “مؤتمر حلبون” في ريف دمشق طرحت فيه شعار اللاءات الثلاث (لا للعسكرة، لا للطائفية، لا للتدخل الخارجي) كأساس لتمايز رؤيتها السياسية عن رؤية المجلس الوطني. إلا أن طروحات هيئة التنسيق لم تكسب ثقة الحراك المعارض والذي سارعت التنظيمات السياسية المنبثقة عنه إلي تأييد المجلس الوطني والتأطر داخل تنظيماته خلال شهري أيلول وتشرين الأول من سنة 2011. شكل هجوم هيثم مناع، رئيس الهيئة في المهجر، الذي اتهم المجلس بتلقي التمويل من المنظمات غير الحكومية الغربية وبهيمنة تنظيم الأخوان المسلمين على مؤسساته، وعلى قناة العالم الإيرانية، القشة التي قطعت علاقة الهيئة بالشارع المعارض.
في ظل هذه الحالة من العزلة السياسية، تعلقت الهيئة بمبادرة الجامعة العربية والتي عدتها بمثابة صمام أمان ضد تدويل الأزمة السورية ومما فاقم بدوره من الخلافات مع المجلس الوطني والحراك المعارض لدرجة ظهور هتافات في المظاهرات تندد بالهيئة والهجوم على وفد الهيئة خلال اجتماعه مع ممثلي الجامعة العربية. ومع فشل المبادرة العربية وتحويل الملف إلى مجلس الأمن في شباط 2012، حدثت موجة من الانشقاقات داخل صفوف الهيئة. فمن جهة أكثر محاباةً للشارع المعارض، انشقت مجموعة من الشخصيات المعارضة بقيادة ميشيل كيلو لتشكيل المنبر الديمقراطي والذي رسم لنفسه دورًا تنسيقيًّا بين مختلف التنظيمات المعارضة بهدف خلق تمثيل سياسي ملائم للانتفاضة السورية. أما من جهة أكثر إثارة للريبة تجاه الحراك المعارض، فانشقت مجموعة أخرى من أعضاء الهيئة بقيادة فاتح جاموس، القيادي في حزب العمل الشيوعي، تحت اسم “طريق التغيير السلمي” والذي رفض اعتبار ما يحدث في سورية ثورة بل أزمة قابلة للتصعيد نتيجة لتضافر هشاشة البنية الداخلية الاجتماعية مع المناخ الجيوسياسي وبالتالي تم رفض شعار إسقاط النظام والإصرار على الخروج من الأزمة بأقل التكاليف الممكنة.
البحث عن الحل السياسي وسط العسكرة
أعادت الهيئة النظر في استراتيجيتها إثر الفيتو الروسي الصيني على المبادرة العربية وإعلان “خطة عنان” جاعلة تدويل الأزمة السورية أمرًا واقعًا. بناءً على ذلك، تم رفض “مؤتمر أصدقاء دمشق” على اعتباره منصة للعسكرة ولاستئثار المجلس الوطني بالتمثيل الحصري للمعارضة بينما أيدت الهيئة خطة عنان وتقربت من روسيا والصين من منطلق رفضهما للعسكرة آنذاك وتأييدهما لحل سياسي. حاولت الجامعة العربية توحيد طرفي المعارضة للعمل بـ”مبادئ جنيف” – والذي ركز على تشكيل حكومة انتقالية يضم ممثلين عن كل من النظام والمعارضة كأساس لحل الأزمة السورية – من خلال عقد “مؤتمر القاهرة” في تموز 2012 على الرغم من توافق الطرفين على مبادئ عامة حول مستقبل سورية إلا أن مؤتمر القاهرة لم يسفر عن خطوات ملموسة إثر تفضيل الطرف الآخر الرهان على التصعيد العسكري مع إطلاق معركة العاصمتين، دمشق وحلب. كان رد هيئة التنسيق على التصعيد العسكري الذي تلا مؤتمر القاهرة هو القيام بجولات مكوكية للعواصم الدولية والإقليمية لإعادة إحياء الحل السياسي للأزمة السورية. كما عقدت الهيئة، وتحت رعاية كل من روسيا والصين وإيران، مؤتمرًا للمعارضة في دمشق سمي بـ”مؤتمر الإنقاذ”. إلا أنه لم يكن للمؤتمر وقع إيجابي، فنظرت أطراف المعارضة للمؤتمر بسلبية كما أنها أثارت موجة أخرى من الانشقاقات داخل صفوف الهيئة (حركة معًا – هيئة الشيوعيين السوريين) على اعتباره يمثل خروجًا عن مبادئ مؤتمر القاهرة. كما تلا المؤتمر اختفاء القيادي في الهيئة، عبد العزيز الخير، على طريق مطار دمشق إثر عودته من الصين. استمرت حالة الريبة بعدئذ بين طرفي المعارضة مع تحول “المجلس الوطني” إلى “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية”. حاولت الهيئة التقرب من رئيس الائتلاف، معاذ الخطيب، عقب طرح مبادرته الفردية للحوار مع النظام في أوائل سنة 2013، إلا أن هذه المحاولة لم تسفر عن أي تقدم ملموس.
الاندماج مع الجسم العام للمعارضة
شكل التقارب الروسي والأميركي في ربيع 2013 وإعلانهما المبدئي للحل الدبلوماسي للأزمة السورية موضع ترحاب للهيئة والتي أعلنت عن استعدادها للمشاركة بـ”مؤتمر جنيف 2″ المزمع عقده. إلا أنه مع اتفاق الطرفين الروسي والأميركي على تقاسم مهمة تشكيل الوفود بينهما، رفضت الهيئة الشرط الأميركي للمشاركة في الوفد المعارض تحت مظلة الائتلاف واعتذرت عن الحضور. بينما شكلت الفترة التي تلت فشل مؤتمر جنيف 2 حالة من التخبط لدى الائتلاف إذ تفاقمت خلافاته الداخلية والتي مثلت انعكاسًا لخلافات الدول الراعية. انتهزت الهيئة هذه الحالة من التخبط وأخذت زمام المبادرة وخاصة في ظل تقاربها مع نظام السيسي في مصر والذي كان له مصلحة في إضعاف موقع تيار الإخوان المسلمين في المعارضة السورية. على ذلك الأساس، عملت الهيئة على التقارب مع الجناح السعودي في الائتلاف والذي أسفر عن عقد مؤتمر القاهرة في 2015 وتبني بيان جنيف كأساس للمفاوضات مع النظام. إلا أن ذلك قوبل بهجوم مضاد فرنسي تركي إذ رتب الطرفان اجتماعًا بين شخصيات مقربة منهما لدى كل من الهيئة والائتلاف في باريس، الأمر الذي فجر بدوره خلافًا داخليًّا في الهيئة بين “تيار المستقلين” بقيادة هيثم مناع و”تيار الأحزاب” بقيادة حزب العمل الشيوعي والتيار الناصري إذ اعتبر المستقلون اجتماع باريس محاولة انقلاب على مؤتمر القاهرة. أدى هذا الخلاف إلى موجة من الاستقالات في صفوف المستقلين وتشكيل تيار “قمح” بقيادة مناع. ومن جهة أخرى، تعزز التقارب بين الهيئة والائتلاف مع اجتماع بروكسل تموز 2015 والذي شكل أساسًا لانضمام “هيئة التنسيق” إلى “الهيئة العليا للمفاوضات” أواخر سنة 2015 وبذلك أصبحت جزءًا من الجسم العام للمعارضة السورية.
الأصول والنشأة
تعود أصول جبهة التغيير والتحرير إلى الصراعات السياسية داخل الأحزاب الشيوعية الرسمية المندرجة ضمن الجبهة الوطنية التقدمية في أوائل الألفية الثانية وبالتحديد إلى “اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين” والتي مثلت مبادرة لتوحيد قواعد الحزب الشيوعي الرسمي بقيادة “قدري جميل” والتي أدت بالمحصلة إلى خلق تيار جديد آثر الابتعاد عن العمل ضمن إطار الجبهة الوطنية التقدمية والمشاركة في الانتخابات التشريعية لعام 2003 بشكل منفرد و تأسيس جريدة “قاسيون” الخاصة بها. ومع اندلاع الانتفاضة، دعم جميل المظاهرات معتبرًا إياها ردًّا طبيعيًّا على السياسات النيوليبرالية المتبعة خلال العقد السابق على الانتفاضة وطالب بإجراء إصلاحات على المحورين السياسي، متمثلًا بطرح دستور جديد وإصلاح النظام الانتخابي، والاقتصادي متمثلًا بالتراجع عن سياسات التحرير الاقتصادي. سياسيًّا، تم التحالف مع جناح “الانتفاضة” في “الحزب السوري القومي الاجتماعي” بقيادة “علي حيدر” إذ أعلن التحالف عن نفسه كمعارضة “وطنية” تؤكد على أهمية القضايا الخارجية كتحرير الجولان إلى جانب القضايا الداخلية ومنها جاءت تسمية “جبهة التغيير والتحرير”. وعلى خلاف القوى المعارضة الأخرى، شارك جميل في اللقاء التشاوري منتقدًا كلًّا من عنف النظام في مواجهة المظاهرات ومقاطعة المعارضة للقاء باعتبارها تبنيًا ضمنيًّا للعنف. لم يختلف جميل مع مزاعم النظام حول وجود المؤامرات الخارجية إلا أنه طالب بإجراء إصلاحات جذرية لتحصين الداخل من هكذا مؤامرات.
في مواجهة التدويل ومحاولة إصلاح النظام من الداخل
وضع تنامي تدويل الانتفاضة السورية الجبهة التي شددت على وطنيتها على المحك. هاجمت الجبهة بشراسة معارضة الخارج والتدخل المتنامي للسفير الأميركي “روبرت فورد” في الشأن السوري إثر لقائه مع ممثلي المعارضة والحراك. إلا أنها أيدت الفيتو الروسي الصيني المزدوج في مجلس الأمن في تشرين الأول 2011 واعتبرتها بمثابة حماية المدنيين من تداعيات السيناريو الليبي. ساهم تجميد عضوية سورية في جامعة الدول العربية في تبلور استراتيجية الجبهة إذ دعت إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية تعمل على الحوار والإصلاح لمواجهة التدخل الخارجي. تنظيميًّا، تحولت اللجنة إلى حزب سياسي “حزب الإرادة الشعبية” بينما شكلت الجبهة ائتلافًا أوسع مع “طريق التغيير السلمي” المنشق عن “هيئة التنسيق” تحت مسمى “ائتلاف قوى التغيير السلمي”.
إثر ذلك، شاركت جبهة التغيير والتحرير في الانتخابات التشريعية في أيار 2012 وحصلت على 5 مقاعد من أصل 250 مقعدًا. وعلى إثره دخلت في حكومة وحدة وطنية مع حزب البعث الحاكم حصلت فيها على حقيبتين وزاريتين هي وزارة المصالحة الوطنية لعلي حيدر ووزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية لقدري جميل. كما شغل جميل منصب نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية ومدير هيئة الاستثمار. عكست المناصب التي شغلتها الجبهة رؤيتها لمعالجتها الأزمة السورية من خلال معالجة كل من الشق السياسي من خلال الإشراف على المصالحات الوطنية والجانب الاقتصادي من خلال التراجع عن سياسات التحرير الاقتصادي. إلا أن تزامن تشكيل الحكومة مع اشتداد وتيرة الحرب في صيف 2012 أدى للحؤول دون إمكانية اتباع سياسات اقتصادية طويلة الأمد والاعتماد على الإجراءات الطارئة. شهدت هذه الفترة تزايد التوتر بين جميل والحكومة نتيجة رفع الحكومة المتكرر للأسعار دون موافقة جميل كما زاد انتقاد جريدة قاسيون لـ”شركة سيرياتل” المملوكة لـ”رامي مخلوف”، ابن خالة الرئيس، من وتيرة التوتر وعلى إثر ذلك تم إعفاؤه من منصبه كمدير هيئة الاستثمار.
الابتعاد عن النظام والانخراط الملتبس في المعارضة
وفي ظل التحضيرات لمؤتمر جنيف 2، سعت الجبهة إلى التمثيل في “مؤتمر جنيف 2” كجهة معارضة مستقلة بدلًا من مشاركتها ضمن وفد النظام. وبناءً على ذلك، قام جميل بزيارة إلى موسكو للقاء “روبرت فورد” لمناقشة مشاركته في المؤتمر إلا أنه في نهاية المطاف اعتذر عن المشاركة تحت مظلة الائتلاف. ومن الجهة المقابلة، قامت الحكومة السورية بإعفاء جميل من جميع مناصبه في الحكومة كرد على هذه الزيارة. تزايد التباعد بين جميل والنظام، بعد ذلك، إذ قاطع حزبه الانتخابات الرئاسية التي جرت سنة 2014 وصولًا إلى إلغاء الحكومة لعضويته في مجلس الشعب. بالمقابل، تصدرت الجبهة عقد مؤتمرات في موسكو برعاية روسية وعرفت فيما بعد بـ”منصة موسكو”. استطاعت المنصة الحصول على قبول دولي كطرف معارض مستقل إلى أن تم إدراجها في مؤسسات المعارضة (“الهيئة العليا للمفاوضات” سنة 2017 من ثم “هيئة التفاوض السورية”) وذلك على الرغم من الارتياب المعارضة بها كممثل للنظام والتصادم المتكرر بينهما.
اليسار المتموضع ضمن الحراك المعارض
التشكيلات السياسية والموقف السياسي الأولي
ضم الحراك المعارض الكثير من النشطاء الذين كانوا أعضاء سابقين في الأحزاب اليسارية المعارضة. فـ”ياسين الحاج صالح” و الذي يعد من أبرز مفكري الحراك كان عضوًا في “الحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي”، و يمكن أيضًا ذكر “جلال نوفل” و”سميرة الخليل” والذين كانا أعضاء سابقين في “حزب العمل الشيوعي”.
إلا أنه بحلول خريف 2011، وبالتزامن مع إعلان التشكيلات السياسية المعارضة الأساسية، أعلنت عدة أحزاب يسارية صغيرة متموضعة ضمن الحراك المعارض عن نفسها مثل “ائتلاف اليسار السوري”، “ائتلاف اليسار الثوري في سورية” و”تنسيقيات الشيوعيين السوريين” وطرحت رؤاها السياسية على مواقع التواصل الاجتماعي. عرف “ائتلاف اليسار السوري” عن نفسه على أنه ائتلاف عدة مجموعات وشخصيات يسارية منخرطة في الانتفاضة السورية ويعتبر المفكر الفلسطيني “سلامة كيلة” من أهم رموز هذا الائتلاف. بينما يحسب “ائتلاف اليسار الثوري” في سورية على التيار التروتسكي ويمكن الاستقراء من مواقع التواصل الاجتماعي بأن مدينة السلمية في وسط سورية تشكل معقله الأساسي. أما “تنسيقيات الشيوعيين السوريين” فعرفت عن نفسها على أنها تمثّل القاعدة الشعبية للأحزاب الشيوعية الرسمية والتي هي على خلاف مع قياداتها حول الموقف من الانتفاضة السورية. نظرت هذه المجموعات إلى الانتفاضة السورية على أنها ثورة الطبقات المعدمة وعدت تحقيق الديمقراطية بمفهومها الليبرالي هدفًا مرحليًّا باتجاه الوصول إلى أشكال ديمقراطية أكثر مباشرة مستقبلًا. اختلفت هذه المجموعات مع كل من “هيئة التنسيق” حول التفاوض مع النظام ومع “المجلس الوطني” من جهة أخرى حول اللجوء إلى العسكرة والتدويل ووضعت هذه المجموعات بالمقابل ثقلها على قوة الجماهير واتباع وسائل سلمية كالإضرابات والعصيان المدني للإطاحة بالنظام.
العسكرة ومواءمة المفاهيم
إلا أنه مع تزايد عسكرة الانتفاضة في النصف الأول من سنة 2012، تبنت هذه المجموعات العسكرة كأمر واقع. ومع امتداد رقعة الاشتباكات إلى كل من دمشق وحلب عدت هذه المجموعات هذا التقدم بمثابة بداية للنهاية. أما حالة الفوضى المصاحبة للعسكرة فنظر إليها على أنها من الأعراض الجانبية للعملية الثورية حتى أنه تم الاستعانة بالمقولة اللينينية التي مفادها أن من يتوقع أن يرى ثورة اجتماعية نقية فلن يراها. وبنفس المنطق، تمت مواءمة المفاهيم والمقولات الماركسية وإسقاطها على المستجدات السياسية في الأزمة السورية. فتخبط وعجز الائتلاف الوطني اعتبر دلالة على فشل البرجوازية في قيادة الثورة وبروز التيارات الدينية المتشددة ودور الدول الإقليمية الراعية لها فنظر إليها من منظور الثورة المضادة بينما مثلت روسيا إمبريالية مشرقية جديدة على نفس السوية مع الإمبرياليات الغربية التقليدية. إلا أن موقف هذه التنظيمات تمايز بخصوص حل الأزمة، فبينما دعم كل من “ائتلاف اليسار السوري” و”تنسيقيات الشيوعيين السوريين” فكرة الحكومة الانتقالية طالب “ائتلاف اليسار الثوري في سورية” بإعادة تنظيم لجان التنسيق المحلية والجيش الحر والقوى الديمقراطية واليسارية في جبهة ثورية موحدة.
الناشط عمر عزيز وتأسيس المجالس المحلية
وأخيرًا وليس آخرًا، لعب اليسار أيضًا دورًا في تكوين المجالس المحلية. ونخص هنا بالذكر دور الناشط “عمر عزيز” المتأثر بالأفكار الفوضوية والذي كان قد ترك عمله في السعودية ليعود إلى سورية للمشاركة في الانتفاضة. طرح عزيز في أواخر سنة 2011 ورقة للنقاش يجادل فيها أهمية تشكيل نظم إدارة ذاتية في المناطق الثائرة. شخّص عزيز المشكلة بتداخل “زمنين، زمن السلطة وزمن الثورة”، بمعنى أن إدارة الخدمات المرتبطة بالحياة المعيشية اليومية تدار من قبل نفس السلطة التي تحاول الجماهير إسقاطها. مما قد يشكل خطورة على “الثورة” من خلال احتمال شعور الجماهير بالإرهاق نتيجة الانشغال بمشاكل الحياة اليومية وعليه فـ”انتصار الثورة فهو رهن بتحقق استقلالية زمنها”. وبناءً على ذلك، أوصى بتشكيل مجالس محلية تعمل على تأمين مستلزمات الحياة اليومية. وقد تم تأسيس أول لجنة محلية في منطقة برزة في ضواحي دمشق في أوائل 2012 وسرعان ما انتشرت هذه اللجان إلى سائر أنحاء المناطق الخارجة عن سيطرة النظام. إلا أنه تم اعتقال عمر عزيز في تشرين الثاني 2012 من قبل السلطات السورية حيث توفي في السجن في شباط 2013 أما اللجان المحلية فكان مصيرها أنه تم إخضاع عملها لمصلحة مموليها والمجموعات المسلحة فبدت على أنها مرتبطة بـ”زمان سلطة جديدة” بدلًا من “زمن الثورة”.
الخلاصة
سعت هذه المقالة إلى تصنيف التيارات السياسية السورية التي تعرف عن نفسها بأنها تتبنى الفكر اليساري الماركسي حسب موقفها من الانتفاضة ومناقشة استراتيجياتها خلال الانتفاضة السورية وتطورها إلى أزمة دولية وحددت ثلاث كتل سياسية هي “هيئة التنسيق الوطنية”، “جبهة التحرير والتغيير”، واليسار المتموضع ضمن الحراك المعارض. واجهت هذه الكتل الثلاث مأزقًا استراتيجيًّا متمثلًا باستحالة التوفيق بين هدف تغيير النظام مع المحافظة على سلمية الانتفاضة وتجنب التدخل الخارجي. أيدت “هيئة التنسيق الوطنية” تدويلًا لاعسكريًّا للأزمة السورية للضغط على النظام لإجراء تحول سياسي أما “جبهة التغيير والتحرير” فاعتبرت في البداية التدويل الخطر الأساسي فخفضت سقف تغييرها للنظام وحاولت الإصلاح من الداخل قبل أن تتبنى استراتيجية شبيهة باستراتيجية الهيئة. أما التيارات المحسوبة على الحراك فأرخت شرط اللاعنف وأيدت العسكرة مع رفضها لكل من التدخل الخارجي والمساومة على تغيير النظام.
وعلى الرغم من رفضهما الأولي للتدويل، نجحت كل من “هيئة التنسيق الوطنية” و”جبهة التغيير والتحرير” في استثمار التغييرات المستجدة في الوضع الدولي. فقراءتهما السياسية بأن التوازن الدولي لن يسمح بنجاح فكرة الحسم العسكري في سوريا جعلهما يتحديان الحل العسكري الذي تبناه الجسم الأساسي للمعارضة السورية من خلال خلق علاقات مع القوى الدولية والإقليمية الرافضة لذاك الحل. ومع إعادة البحث الدولي عن الحلول السياسية بدءًا من سنة 2013، نجح كل منهما في كسر احتكار الائتلاف للمعارضة وتليين موقفها المتصلب. كما أن اليسار المتموضع ضمن الحراك شهد تحولات مماثلة، نخص هنا بالذكر دور المجالس المحلية والتي عوضًا عن تمثيلها لفكرة الإدارة الذاتية مثلت شكلًا جنينيًّا من البلديات التابعة لإمارات دينية ناشئة. وبالمحصلة، فإن اليسار السوري على الرغم من شرذمته ومأزقه الفكري كان قد حافظ على هامش من النشاط السياسي في ظل الركود السياسي الذي عاشته سورية جعله يلعب أدوارًا مختلفة، وإن هامشية، في الانتفاضة السورية. وبالمقابل، فإن الانتفاضة السورية أثارت تغييرًا في استراتيجية هذه التنظيمات بحيث جعلتها أكثر مواءمة مع المناخ الدولي والمحلي المعاصر.
فرديناند أرسلانيان، باحث في مركز الدراسات السورية في جامعة سانت أندوز في اسكتلندا وحاصل على شهادة الدكتوراه في العلاقات الدولية من نفس الجامعة متخصص بالاقتصاد السياسي لسورية وتأثير منظومة العقوبات الدولية على ديناميات الصراع في سورية.
جدل