إخراج السياسة من السياسة/ رشيد الحاج صالح
دأب النظام الأسدي، في سياق تأسيسه للمجال السياسي العام، في سورية ما قبل عام 2011 وما بعده، على دفع المثقفين والكتّاب القريبين منه إلى تبنّي سرديتين أساسيتين، في ترسيمه للفكر السياسي في المجال العام للسوريين. وكانت الغاية من هذه السرديات إخراج السوريين من السياسة، بحيث يكوّنون مفهومًا يجعل النظامَ السياسي مالكًا لكلّ شيء، وغير مسؤول عن أيّ شيء، في الوقت نفسه. ولكن كيف كان ذلك، وما هو دور مثقفيه في ذلك؟
تقوم السردية الأولى على الفصل بين الوضع العام في سورية وبين رأس النظام. هكذا شجّع النظام السوري عددًا كبيرًا من الكتّاب والمؤلفين والأدباء والصحفيين وأساتذة الجامعة والفنانين الذين فصَلوا في كتابتهم وأعمالهم الأدبية والفنية فصلًا شبه كامل بين الثقافة والسياسة، عن طريق إرجاع مشكلات السوريين وهمومهم وخيباتهم، إلى أسباب ثقافية/ تاريخية بعيدة قد تتعلق بالتاريخ أو بالتراث، أو إلى أسباب خارجية عالمية، قد تتعلق بالعولمة أو بالإمبريالية أو بالأوضاع العامة للأمة، أو بجهل السوريين وتخلفهم، بحيث تُغرق تلك السردية سوريةَ في بحور صراعات التاريخ والقوميات ومخططات القوى العالمية ونظريات المؤامرات بمختلف أشكالها.
تقول تلك السردية، بطريقة غير مباشرة، إنه من غير العدل أن يتحمّل النظام السياسي الأسدي أي مسؤولية تجاه مشكلات السوريين، من فقر وبطالة وفساد وظلم وعدم تحرير للأراضي السورية المحتلة، ما دامت القوى الكبرى تزوّر تاريخ سورية والمنطقة منذ أيام الفراعنة، كما تقول كتب أحمد يوسف داود، وما دام الإسلام حوّل السوريين إلى متخلفين منذ مئات السنين، بحسب نظريات أدونيس، وما دام منبع الفلسفة الاندهاش من أصل الكون، بحسب كتب الفلسفة في جامعة دمشق، بحيث تتحول ظواهر الفقر والقهر السياسي وعذابات السوريين إلى أمور وضيعة، لا تتناسب مع جلالة التاريخ والفلسفة والميثولوجيا ومسرح شكسبير والشعر الجاهلي.
وليس رئيس قسم الفلسفة السابق في جامعة دمشق عادل العوا، ووزراء الثقافة ونوّابهم، والمفكرون المعروفون عبد الكريم اليافي، عبد الكريم ناصيف، ندّرة اليازجي، علي القيّم، محمود خضرة، والدائرون في فلك اتحاد الكتاب العرب، سوى غيض من فيض. حتى إن بعض المفكرين والأدباء كتَب أكثر من عشرين كتابًا، من دون أن يذكر كلمة واحدة عن السياسة، لا من قريب ولا من بعيد، ومن هؤلاء عبد النبي اصطيف، عزيز بهنسي، عمر موسى باشا، أحمد يوسف داود وحنّا عبود. وهم جزء من عدد كبير من الكتاب الذين كانوا يفضّلون الالتحاف بنموذج “المثقف المختص”. حتى تحوّلت السياسة، من حيث هي إدارة للبلاد وحلّ لمشكلات البطالة وهموم الناس وصراع على السلطة، إلى أمرٍ لا مفكّر فيه، بكل بساطة.
وتقوم السردية الثانية، وهي أخطر السرديات، على أن المجتمع السوري متخلّف بالأصل، وأن السوريين هم الفاسدون، وليس الرئيس، وأنهم لا يحبّون وطنهم، ويتهربون من الضرائب، ولا يلتزمون بالقانون، ويسرقون الكهرباء، ولا يقدرّون تضحيات النظام وما يقوم به من أجلهم. وهذه سردية منتشرة بشكل هائل بين ضباط الجيش وكبار المسؤولين.
وتستند هذه السردية إلى المقولة الميكيافلية التي تنطلق من أن الإنسان، والمجتمع من ورائه “سيئ”، وعلى السلطة أن تضبطه. ويعود انتشار هذه السردية بين عناصر الأمن والمسؤولين لما تحمله من سهولة في تبرير الفساد السياسي، فضلًا عن أنها تُرضي شهوة هؤلاء في التنمّر على المجتمع. ويُعدّ كلٌّ من عماد فوزي الشعيبي والشاعر أدونيس من صقور هذه السردية.
مهمة هذه السرديات هي إضعاف السياسة وجعلها تابعة للتراث والتاريخ، وكذلك التمويه عليها، من حيث هي بالأساس “صراع في سبيل السلطة” أو “إدارة التسلط على إرادات الآخرين”. أو العمل على كسب أكبر قدر ممكن من النفوذ. وهي معانٍ للسياسة، ترسخت في علم السياسة منذ نحو مئتي عام، وهو الأمر الذي كان يدركه حافظ الأسد جيدًا، ولا يريد لأحد أن يشاركه هذا الفهم. فما يهمّ الأسد الأب، والابن من بعده، هو أن تخرج السياسة من ذهن السوريين، من حيث هي الفعل القائم على البحث عن مصادر للنفوذ، والصراع على السلطة. حتى إن أحد البعثيين قال ذات يوم، وهو صادق المشاعر، إن حافظ الأسد يريد أن يترك المنصب، ولكنه يعرف أننا (يقصد السوريين) لن نقبل بذلك أبدًا!
مهمة السرديات المذكورة أنها جعلت الرئيسَ غير مسؤول عن شيء، على الرغم من أنه يملك كلّ شيء. يدير السياسة الخارجية، ولكنه لا يعرف شيئًا عن الوضع الاقتصادي، بالرغم من أن عبد الحليم خدّام قال في إحدى مقابلاته: إن بشار الأسد يخصص جزءًا من وقته اليومي، ليشرف شخصيًا على أمواله التي ينهبها.
هكذا، تساعد تلك السرديتان في تقديم النظام الأسدي على أنه مكافح للفساد، على الرغم من أن الفساد عنده سياسة قائمة بحد ذاتها، بل إنه من وسائله المفضلة لجلب الموالين غير الشرفاء، وأحد أهمّ عناصر استمراره. فالطاغية -كما يؤكد مايكل جونستون في كتابه “متلازمة الفساد”- يحمي الفساد بنفسه، من حيث هو ثاني وسيلة في تثبيت كرسيه، بعد العنف.
وهذا يعني، من جملة ما يعنيه، أن حافظ الأسد غير مسؤول عن هزيمة حزيران، بالرغم من أنه كان وزير الدفاع النافذ! وأنه يمكن تحميل الحكومة أوزار الفساد والبطالة، على الرغم من أنّ الرئيس هو من يوزّع المناصب العليا، توزيع المناصب الذي يعدّه ماكس فيبر من أهمّ مصادر النفوذ وجلب الموالين لدى القادة.
لا شكّ في أن مثل تلك السرديات هي التي تموّه كيف أن حافظ الأسد، على الرغم من شهرته بين البعثيين كزعيم قومي كبير لحزب البعث، هو أكثر من أهان البعثيين وهمّشهم، حتى حولهم إلى مجرد كتبة تقارير عند الفروع الأمنية. مثلما تموّه تلك السرديات كيف أنه كان يمجد فلسطين، بالرغم من أنه ثاني أكبر قاتل في التاريخ الحديث للفلسطينيين، بعد إسرائيل.
أما صقور سرديات إخراج السياسة من السياسة، على اختلافها، فيتزعمهم اليوم إنصاف حمد، حسن م يوسف، نزيه أبو عفش، ودكاترة قسمي الفلسفة والإعلام بجامعة دمشق، وغيرهم كثير من الكتاب والمثقفين. وقد دخل على الخط فئتان جديدتان: الأولى هي مرشحو الرئاسة الذين يرشحون أنفسهم ضد الرئيس ويشيدون به في الوقت نفسه؛ والفئة الثانية هي “جمعية العلوم الاقتصادية السورية”، بحلتها الجديدة، التي تطرح الإصلاح الإداري والاقتصادي، منذ نحو ربع قرن، بوصفه بديلًا عن الإصلاح السياسي، أي ممارسة الإصلاح السياسي، ولكن من دون الاقتراب من القصر الجمهوري والأجهزة الأمنية والجيش.
تعكس عبارة حنة أرندت المشهورة “ليس للسياسة سوى معنى واحد وهو الحرية” قلق النظام الأسدي من السياسة، وتفسّر كل عمليات اللفّ والدوران، وسهره الليالي على إنشاء تلك السرديات عن السياسة، وما الثورة السورية في حقيقتها سوى محاولة لاسترجاع السياسة، من حيث هي تأسيس للحرية.
مركز حرمون