دور الكتلة الاجتماعية السورية في مجابهة المخططات الدولية/ حيان جابر
حاولنا في المقالة السابقة تسليط الضوء على تأثير الصراع الدولي في سورية على الأرض والشعب السوري، من دون التحدث عن دور الشعب السوري في إفشال ذلك أو تسهيله، وهو ما سوف نحاول الإجابة عنه في هذا القسم. الأمر الذي يتطلب المرور سريعًا على ظروف مختلف التجمعات السورية، والمرور على مدى الرضى أو الغضب الشعبي من الوضع الحالي، ومنهما ننتقل إلى دوافع التحركات الشعبية ومثبطاتها، وصولًا إلى محاولة استقراء إمكانات التحرك والتأثير الشعبي مستقبلًا.
ظروف التجمعات السورية:
من الملاحظ في أوضاع الكتلة الاجتماعية السورية الحالية مدى تشتتها الجغرافي داخل سورية وخارجها، ويلاحظ اختلاف كبير بين ظروف كتلة وأخرى، فعلى سبيل المثال تحظى الكتلة السورية المهاجرة أو اللاجئة في إحدى دول اللجوء المستقر مثل بعض الدول الأوروبية أو كندا أو الولايات المتحدة الأميركية، بظروف معيشية وقانونية مستقرة غالبًا، ويتمتع الأغلبية في هذه الدول بكامل حقوقهم الإنسانية، كالحق في التعلم والطبابة والتنقل، باستثناء فئة صغيرة منهم ممن يقيمون بشكل غير قانوني لأي سبب من الأسباب.
بينما يفقد السوريون المقيمون أو اللاجئون في دول الجوار السوري أغلب الحقوق الإنسانية الأساسية المقرة دوليًا، من حق التعلم إلى الطبابة والتنقل، حيث يراوح حجم فقدان الحقوق الأساسية من دولة إلى أخرى، يغدو لبنان من أقل دول الجوار المعترفة بحقوق اللاجئين عمومًا والسوريين خصوصًا، بينما تتربع تركيا على رأس القائمة، لكن بكل الأحوال يواجه السوريون في جميع دول الجوار صعوبات قانونية تحد من قدرتهم على ممارسة حقوقهم الإنسانية كاملة بسلاسة ومن دون أي شروط إضافية، بل توحي بعض الأخبار القادمة من تركيا بين الفينة والأخرى ببعض التشاؤم في ما يخص ظروف السوريين وأوضاعهم داخلها، ما يزيد من قلق الوسط السوري ويدفع بكثير من السوريين إلى البحث عن كيفية الانتقال إلى إحدى دول اللجوء المستقر بشكل قانوني أو غير قانوني، على الرغم من حجم المخاطر المحتمل مواجهتها وضعف احتمال النجاح في الوصول إلى الهدف المنشود، فضلًا عن ارتفاع تكاليف السفر.
في حين تتشابه ظروف السوريين داخل سورية بشكل كبير مع اختلافات واضحة في ما يتعلق بالطرف المسيطر على كل منطقة، فمن الناحية الاقتصادية والخدمية نجد هامش اختلاف قليل نسبيًا بين تجمع وآخر، لكن عمومًا تعد الظروف الاقتصادية والخدمية داخل سورية غاية في الصعوبة والقسوة، نتيجة توقف عجلة الإنتاج أو تعطلها، ومن ثم محدودية فرص العمل المتاحة، وارتفاع تكاليف الحياة، وصعوبة الاستيراد، وانهيار القطاعات الخدمية أو تدهورها بأحسن الأحوال، وهجرة الكفاءات العلمية والمهنية. وتتشابه الظروف الأمنية والأوضاع القانونية الرثة بين مجمل المناطق السورية، كاحتمالات الاعتقال التعسفي المرتفعة ومخاطر الحملات العسكرية أو عودة المواجهات العسكرية المباشرة أو غير المباشرة، وصولًا إلى غياب الحقوق القانونية بشكل كامل بما فيها الحقوق الأساسية عمليًا، وإن كانت متضمنة في بعض النصوص النظرية، كالحق في العمل والتنقل والطبابة والتعليم. وعليه تحولت الكتلة الاجتماعية السورية إلى كتل متفرقة ومبعثرة غير متواصلة من ناحية، ومنهكة وقلقة من ناحية ثانية.
الشارع السوري والقوى المهيمنة:
يفرض اختلاف القوى المسيطرة أو المحتلة للمناطق السورية تباينًا واضحًا في توجهات الكتلة الاجتماعية الخاضعة لها، أو -بالأصح- اختلافًا شكليًا في توجهاتها، فعلى الرغم من سوء ظروف مجمل مناطق سورية المعيشية إلا أن التباين البسيط في ما بينها من ناحية، والخوف من التبعات الأمنية الناتجة من تبدل القوى المسيطرة، يدفع أغلب السوريين داخل سورية إلى مسايرة وأحيانا التماهي مع توجهات القوى المسيطرة ولو شكليًا، وبالتحديد يدفعهم نحو التعامل مع القوى المسيطرة كأهون الشرين أو ربما أهون الشرور، لذا تندر مظاهر معارضتها والتصدي لها ميدانيًا، باستثناء حالات قليلة، كما في احتجاجات مدينة السويداء وبعض مدن محافظة الرقة. بينما تتصاعد الأصوات المعارضة في مجال الفضاء الإلكتروني لتطال مجمل قوى الأمر الواقع المحلية والاحتلالية، لا سيما من الكتلة الاجتماعية السورية المتحررة من قوى الأمر الواقع، وبالتحديد من المقيمين في دول اللجوء المستقر. غير أنها احتجاجات واعتراضات موسمية، أي مرتبطة بانتشار ظاهرة أو خبر مفجع وكارثي في مرحلة محددة، لتعود بعدها إلى الخفوت والاختفاء أو بالأصح لتعود الاحتجاجات نخبوية الطابع ومحدودة الانتشار والتأثير، حيث يمكن رد سبب موسمية الاحتجاجات إلى عاملين، الأول هو غياب البيئة الديمقراطية والحقوقية على امتداد سورية بما يشمل مجمل القوى المسيطرة قسريًا، والسبب الثاني هو عدم تأثير انتهاكات القوى المسيطرة في الكتلة الاجتماعية خارج سورية وتحديدًا المقيمين في دول اللجوء المستقر، ذات المناخ الديمقراطي الكامل، ما يجعل تحركهم موسميًا ومرتبطًا بالأحداث الكبرى والمفجعة بشكل مباشر فقط، ما يفقدها بعدها الاجتماعي، والاحتجاجي ببعديه المطلبي والسياسي.
إذ بناء على ظروف الكتلة الاجتماعية داخل سورية، وعدم ارتباط الكتلة الاجتماعية خارج سورية بهموم الحياة اليومية فيها، خفت الصوت الاحتجاجي المطلبي والمعارض كثيرًا، لدرجة بات من الصعب ملاحظته، وإن كانت مظاهر الرضى والتأييد والثقة الشعبية مختفية بشكل كامل على امتداد مجمل الجغرافية السورية، وهو ما يمكن ربطه بمظاهر الاحتجاجي الشعبي الموسمية، لتغدو السمة الشعبية الأكثر بروزًا داخل سورية، تعبر عن حجم الغضب والاحتقان وعدم الرضا الشعبي من مجمل القوى المسيطرة والمهيمنة المحلية منها والخارجية، حتى لو حالت الظروف الحياتية دون تأطيرها في شكل احتجاجي واعتراضي واضح، كما يصح تعميم ذلك على مجمل السوريين بمن فيهم المقيمين خارج سورية.
الوعي الشعبي ومشروعات تطييف المجتمع:
تعكس قوى الأمر الواقع المحلية المسيطرة على الجغرافيا السورية توجهات داعميها ورعاتها الدوليين ومخططاتهم، لذا يصح عدّها جزءًا من أدوات القوى الاحتلالية، والعكس صحيح، أي يمكن عد حجم معارضة الكتلة الاجتماعية أو غضبها من قوى الأمر الواقع مؤشرًا ملموسًا على حجم معارضة قوى الاحتلال، وبهذه الحالة يمكن تلمس حجم الغضب الشعبي على امتداد الجغرافية السورية من مجمل قوى الاحتلال والأمر الواقع، في المناطق المحسوبة على النظام ونظيرتها الخارجة عن سيطرته. وعليه نجد أن الواقع السوري اليوم مقسم جغرافيًا وديموغرافيًا من دون أن يمتد الانقسام كي يطال البنية الاجتماعية، على الرغم من استحالة تواصل الكتلة الاجتماعية السورية في ما بينها، وهو ما يفرغ مشروعات التطييف والفدرلة من حاملها الشعبي، الأمر الذي يصعب على قوى الاحتلال فرضه بوصفه أمرًا واقعًا ثابتًا وراسخًا في مستقبل سورية. حيث تعود أسباب النفور الشعبي من مخططات قوى الاحتلال التقسيمية إلى جملة من العوامل الذاتية والموضوعية مثل:
– تجربة الثورة الليبية: (أنا ما متت بس شفت غيري مات) مثل شعبي رائج جدًا في سورية للتعبير عن التعلم من تجارب الآخرين من دون الحاجة إلى إعادة التجربة ذاتيًا، حيث نلحظ ترابطًا زمنيًا ومنهجيًا بين التجربتين الثوريتين السورية والليبية، نتيجة تزامن الثورتين أولًا، وتشابه مستويات قمع النظامين المسيطرين ثانيًا، وبحكم إصرار المعارضة الرسمية السورية على محاكات التجربة الليبية ثالثًا. إذ نجحت المعارضة الرسمية السورية -ولا سيما- الإخوان المسلمين منهم، في إيهام الشارع السوري بحاجة الثورة السورية إلى دعم عسكري خارجي وبالتحديد أميركي، وعدّت الثورة الليبية نموذجًا يؤكد صحة تحليلها، وعليه كان لا بد من الاقتداء بالتجربة الليبية عبر عسكرة الثورة وطوي صفحة السلمية، بوصفها شرطًا ضروريًا من شروط التدخل الخارجي الحاسم؛ وفقًا لهم. وللأسف تم لهم ما أرادوا ونجحوا في عسكرة الثورة ومحاصرة ناشطيها ومنظماتها وهياكلها الشعبية رويدًا رويدًا، على الرغم من مقاومة الشارع الثوري الواضحة لذلك. لكن ثبت لاحقًا حجم خطأ المعارضة التقليدية، وخصوصًا في ما يخص عدم حدوث تدخل خارجي حاسم في الحالة السورية كما في الحالة الليبية أولًا، ونتائج التدخل الخارجي الكارثية في ليبيا ثانيًا، ما أفضى إلى مزيد من النفور الشعبي ولا سيما ضمن حاضنة الثورة من هذه الدعوات والتوجهات ومتبنيها.
– التجربة العراقية: تتوافق توجهات النظام السوري من الحركة الثورية السورية مع مجمل توجهات القوى الفاعلة في سورية وعلى رأسها الدول المحتلة للأرض السورية اليوم، إذ عمل الجميع على تطييف الحالة السورية بغرض تحويل الصراع من صراع شعب- نظام، إلى صراع سني- علوي، سني- شيعي، وغيرهما. حيث حققت بعض النجاحات على هذا الصعيد ولا سيما في مستوى القوى السياسية والعسكرية الفاعلة على الأرض بشقيها المعارض والمؤيد للنظام. في حين يصعب تلمس النجاح ذاته في المستوى الشعبي، وهو ما يعزى إلى عوامل عدة منها استفادة الشارع السوري من تجربة تطييف البنية السياسية والاجتماعية العراقية التي ساهمت في تشظي المجتمع العراقي، الأمر الذي مكن قوى الاحتلال الخارجي من السيطرة على الدولة والمجتمع بشكل مباشر أو عبر أدواتهم المحلية من القوى الطائفية الفاعلة، ولا سيما القوى ذات الانتماء الشيعي. لذا شهدنا عددًا من المظاهر الاجتماعية -لا سيما في المناطق الثائرة- المناهضة لسيطرة قوى عسكرية ذات طبيعة طائفية واضحة، من ريف دمشق الشرقي والغربي وصولًا إلى محافظة إدلب، بل ما زلنا نشهد بعض مظاهر الاحتجاج على سلوك المجموعات الطائفية السنية والشيعية والدرزية…الخ حتى الآن ميدانيًا وافتراضيًا بصورة متقطعة غالبًا.
– الوعي الشعبي التقليدي: شهدت الحركة السياسية السورية تاريخيًا صراعًا محتدمًا بين أربعة تيارت رئيسية إسلامية، قومية عربية، يسارية، وقومية سورية، كان لكل منها قاعدة شعبية واسعة وعريضة على امتداد الجغرافية السورية، ما نظم بشكل أو بآخر طبيعة الوعي الشعبي الرائج منذ مرحلة الاحتلال العثماني وصولًا إلى اليوم، إذ ساهمت هذه التيارات في تكوين وعي اجتماعي جامع في المستوى الثقافي بالحد الأدنى، أي حتى إن لم ينجح كليًا في تجاوز البنى العشائرية والتقليدية والدينية المسيطرة محليًا، لكنه نجح في تحييد دورها وحصرها في إطار ضيق ومحدود، كما نجح في تعميم ثقافة شعبية وطنية عابرة للطوائف والبنى ما قبل الوطنية.
– الهوية السورية: يعد سؤال الهوية أحد أهم الأسئلة المطروحة في المرحلة التي عقبت الثورة، نتيجة عوامل عدة؛ بعضها ذات ارتباط بأهداف الثورة وطبيعتها، وبعضها نتاج العنف والإجرام الأسدي الممارس في مواجهة الثورة والكتل الاجتماعية المشاركة فيه أو التي تقود آلة القتل، وأخرى ذات رواسب تاريخية ثقافية واجتماعية طويلة الأمد. ما فرض على الكتلة الاجتماعية السورية البحث عن الجواب الحاسم لهذا السؤال لأول مرة منذ زمن بعيد ومن تلقاء ذاتها، وبالتحديد منذ سيطرة الأسد على الحكم في سورية. الأمر الذي حاولت القوى الفاعلة في سورية استغلاله بتزكية الهويات ما قبل الوطنية وترويجها، على حساب الخطاب والهوية السورية الجامعة بمختلف تنوعاتها واختلافاتها العروبية والأممية والسورية. وعليه باتت الهويات ما قبل الوطنية مرتبطة بشكل مباشر بقوى الاحتلال الداخلية والخارجية، ما أضعف تأثيرها في الوسط الشعبي وحد من قدرتها على إثارة النعرات والصراعات الاجتماعية، وإن كان هناك أخطار أو مخاوف من تبدل الأحوال مستقبلًا بحكم صعوبة حسم موضوع الهوية اليوم في ظل الواقع المأساوي الحاصل في سورية.
– البعد الاقتصادي: يمثل الاقتصاد أحد أهم المرتكزات لنجاح أي مشروع بما فيها المشروعات الطائفية، وعليه لا بد من أجل نجاح تطييف مجتمع؛ من خلق هياكل اقتصادية طائفية تستقطب الكتلة الاجتماعية المستهدفة. وعليه ووفق التجربة السورية في المرحلة التي سبقت اندلاع الثورة نلحظ محدودية تأثير الهياكل الاقتصادية الطائفية، إذ لم تخلُ سورية الأسد من نماذج اقتصادية طائفية على الصعيدين الفردي والجماعي منذ المرحلة التي سبقت الثورة، لكنها في أغلبها هياكل ضعيفة وهامشية لا تقوى على حمل الكتلة الاجتماعية المستهدفة مهما قل حجمها. ونلحظ في المرحلة التي عقبت الثورة تنامي قوة بعض الهياكل الاقتصادية والخدمية الطائفية لا سيما بعد تحييد الحركة الثورية الشعبية (تقريبًا بعد 2012)، وبالتحديد ذات الخطاب السني والشيعي، من دون أن يتمكن أي من هذين الهيكلين من تثبيت أقدامه كمركز ينظم حركة الكتلة الاجتماعية التي يدعي تمثيلها، وذلك مرده إلى عوامل عدة منها تشتت البنية الاجتماعية السورية وتبعثرها، وتعدد القوى الخارجية الفاعلة واختلاف برامجها وتنوع ارتباطاتها الداخلية، ضعف القدرات المالية الذاتية ولا سيما الطائفية، إنهاك القوى الخارجية الفاعلة في سورية وتراجع قدراتها الاقتصادية، ما انعكس سلبًا على قدرتها في خلق هياكل اقتصادية وخدمية طائفية قوية تابعة لها ودعمها، لذا يبدو من متابعة الوضع السوري الميداني الراهن ضعف الهياكل الاقتصادية والاجتماعية الطائفية حتى اللحظة.
وعليه نجد من خلال التدقيق في النقاط السابقة صعوبة مسار تطييف المجتمع السوري، من دون ضمان فشل هذه المشروعات مستقبلًا، إن نجحت قوى الاحتلال في خلق هياكل اقتصادية طائفية متينة وقوية أولًا، وإن فشل الشارع السوري في صناعة هوية وطنية متحررة من العصبويات الضيقة ثانيًا، وإن استسلمت قوى الثورة الشعبية لهيمنة قوى الاحتلال الداخلي والخارجي ثالثًا.
العسكرة ومشروعات التطييف:
همشت مجمل أشكال النضال الشعبي الثوري منذ منتصف 2013، لصالح هيمنة الشكل العسكري وبالتحديد نموذج تحرير المدن والحرب من داخلها، طبعًا لا خلاف حول مسؤولية النظام السوري الكبرى في ذلك، غير أن حصر المسؤولية بالنظام فقط خطيئة تهمل دور المجتمع الدولي والدول الفاعلة ومصلحتهما في الساحة السورية في ذلك. لكن بغض النظر عن أسباب ذلك الآن، علينا أن نعي جيدًا تأثير العسكرة عمومًا، ونهج تحرير المدن عسكريًا في نجاح مشروعات التطييف الدولية أو فشلها، فكما أوضحت التجربة السورية على امتداد السنوات العشر الماضية، تتطلب الحرب داخل المدن امدادات عسكرية وطبية ولوجستية كبيرة جدًا، الأمر الذي يحتاج إلى دعم خارجي قوي ودائم، من دون ذلك لا يمكن خوض هذا الشكل من الحرب في مواجهة جيش نظامي مدة طويلة من الزمن، ولنا كثير من الأمثلة في التجربة السورية ذاتها، وعليه فإن اتباع أسلوب حرب تحرير المدن سوف يخضع القوى المقاتلة إلى تحكم القوى الخارجية الداعمة، وهو ما نلاحظه في مستوى النظام والقوى العسكرية المعارضة أيضًا، أي مع مرور الوقت يصبح من السهل على القوى الداعمة فرض خطابها ورؤيتها على الأطراف المتعاملة معها، شرطًا أساسيًا لاستمرار الدعم، وهو ما ينطبق على موضوع التطييف. وعليه فإن الاستمرار بهذا الشكل من الصراع بالتحديد سوف يساعد على إنجاح المخططات الدولية بما فيها التطييف. مع العلم أن هناك أشكالًا نضالية أخرى أكثر فاعلية وأقل حاجة إلى الدعم الخارجي، طبعًا أهمها العودة إلى جميع أشكال المقاومة الشعبية، وفي حالة الحاجة إلى شكل نضالي عنيف يمكن استخدام أسلوب حرب الشوارع ذي المتطلبات الأقل والتكلفة المادية والبشرية المحدودة والأكثر فاعلية في مواجهة الجيوش النظامية.
تهيئة العامل الذاتي أجل مناهضة المخططات الدولية:
من كل ما سبق نجد أن هناك بعض العوامل الكامنة التي يمكن البناء عليها من أجل تعزيز قدرات الكتلة الاجتماعية السورية وتمكينها أولًا من إفشال المخططات الدولية وعلى رأسها مشروع التطييف، وتمكينها ثانيًا من تحرير كامل الأرض السورية، وتحقيق أهدافها الوطنية التي ثارت من أجلها ثالثًا. وأهمها:
– مشروعات اقتصادية وطنية: تمر الكتلة الاجتماعية داخل سورية بظروف صعبة جدًا، خصوصًا بما يتعلق بتأمين متطلبات الحياة اليومية من مأكل ومشرب ومسكن وطبابة وتعليم، وهو ما يفرض عليها البحث عن أي مصدر للمساعدة بغض النظر عن أهداف الجهة المساعدة الحقيقة، ما يشكل بيئة مناسبة لفرض هياكل اقتصادية واجتماعية طائفية في حال امتلاك الوفرة المالية والقدرة على ذلك. حيث أعتقد أن طبيعة الصراع في سورية وعليها، وطبيعة المرحلة الدولية غير المستقرة اقتصاديًا وسياسيًا تحد من قدرة القوى الفاعلة في سورية على بناء هذه الهياكل ودعمها في المرحلة الحالية وفي المستقبل القريب. الأمر الذي يمنح الكتلة الاجتماعية السورية الواعية والقادرة على مجابهة هذه المشروعات فرصة زمنية جيدة، لكنه يتطلب وعيًا وتخطيطًا واضحًا ومحددًا بطابع جماعي وفق نهج التمكين بدلًا من النهج الإغاثي، بمعنى ألا ينطلق الجهد من العمل على جمع الأموال الكافية لتأمين احتياجات الكتلة الاجتماعية داخل سورية، بقدر ما يستهدف إيجاد حلول إنتاجية تمكن الكتلة الاجتماعية من تأمين احتياجاتها، بما يشمل مشروعات بنيوية بسيطة وقادرة على حل مشكلات السكن ولو بحدها الأدنى، فالعمل الإغاثي البحت يتطلب جهدًا متواصلًا ومتعاظمًا مع مرور الوقت، نتيجة ازدياد حاجات الناس اليومية في ظل الانهيار الحاصل في سورية، بينما العمل على تنمية القدرات السورية الإنتاجية البسيطة يساهم في تقليص الحاجة إلى الجهود الإغاثية أولًا، ويتميز بصفاته التراكمية ثانيًا، إذ يساعد هذا النوع من الدعم في زيادة حجم الكتلة الاجتماعية القادرة على الصمود من دون أي مساعدة خارجية أو بمساعدة محدودة، ما يحررها من هيمنة الجهات المشبوهة ونفوذها.
– إشكالية الهوية وطبيعة الأهداف الوطنية: لا بد من توضيح الارتباط بين سؤال الهوية وماهية أهداف الكتلة الاجتماعية السورية وآمالها، إذ يساعد تسليط الضوء على الأهداف والغايات الشعبية في إبراز حجم المعاناة المشتركة بين طيف واسع من السوريين، طيف يتجاوز الهويات ما قبل الوطنية، ويؤسس لاستعادة تماسك المظلومين والمقهورين والمستغلين السوريين بغض النظر عن انتماءاتهم ما قبل الوطنية، ما يشكل خطوة في مسار صوغ هوية وطنية جامعة عابرة للطوائف والعشائر والملل، من دون أن يعني ذلك نفي تبايناتها الفردية والجماعية والثقافية. فكما كانت شعارات الموجة الثورية الأولى ذات قدرات توحيدية ربطت المناطق الشرقية بالجنوبية والشمالية والغربية والوسطى، سوف يساعد تحديد الأهداف والتطلعات وأوجه الاستغلال في حماية الكتلة الاجتماعية من خطاب ومشروع التطييف والتقسيم.
– دمج النضال المناطقي والوطني: تختلف القضايا اليومية من منطقة سورية إلى أخرى تبعًا لهوية القوى المهيمنة فيها، ووفق إمكانات المنطقة الجغرافية واللوجستية، الأمر الذي ينعكس على طبيعة النضال المناطقي الاحتجاجي والمطلبي، ما يجعل هناك اختلافات نسبية في أولويات النضال المطلبي من منطقة إلى أخرى، وهو ما قد يخلق تباعدًا سياسيًا بين المناطق المختلفة. انطلاقًا من ذلك ومن تشابه قوى الأمر الواقع المسيطرة على كامل الجغرافية السورية، اعتقد هناك حاجة إلى انطلاق النضال المناطقي من أفق وطني بمعنى أن يأخذ بالحسبان رفع الشعارات الوطنية وتحويلها إلى مطالب حين تحين الظروف المناسبة، ففي هذه الحالة تُؤَكَّدُ وحدة تطلعات الكتلة الاجتماعية بالتوازي مع منح النضال المطلبي الأولوية التي يستحقها.
الخلاصة:
لقد شكلت الكتلة الاجتماعية السورية عامل كبح لمسار تطبيق المخططات الدولية في سورية، إلى جانب تعارض مصالح القوى الدولية الفاعلة في سورية أيضًا، غير أن طول أمد الصراع وتواصل انحدار الوضع المعيشي داخل سورية، قد يساهم في تفكيك الكتلة الاجتماعية على المدى الطويل وفق ما ترمي إليه المخططات الدولية. لذا لا يصح الاستكانة والتعويل على ماضي أو حتى حاضر الكتلة الاجتماعية السورية، فقد علمتنا التجارب الإنسانية أن الحياة مليئة بالمتغيرات وأن ظروف الحياة اليومية -لا سيما الاقتصادية والأمنية- ذات تأثيرات كبيرة سلبية أو إيجابية تبعًا للظروف والأوضاع، وهي قادرة على فرض تغيرات جذرية في المديين المتوسط والبعيد. من ثم لا نستطيع التيقن من قدرة الكتلة الاجتماعية السورية على هزيمة المشروعات والمخططات الدولية عفويًا، ومن دون العمل على استنهاض العامل الذاتي، خصوصًا بعد التجربة القاسية التي خاضها الشعب السوري في السنوات الماضية، وأثبتت الحاجة إلى النضال المنظم والواعي شرطًا أساسيًا من أجل تحقيق الأهداف المروجة. الأمر الذي يفرض على المعنين بمواجهة جميع قوى الاحتلال الداخلي والخارجي العمل منذ الآن على تمكين الكتلة الاجتماعية ومدها بعوامل الصمود والتماسك بوصفها حامل مشروعي التحرير أولًا، والثورة ثانيًا، وما دون ذلك فنحن أمام احتمالات متعددة من حيث الشكل ومتشابها من حيث قسوتها وصعوبتها.
وسوف يؤثر التوافق أو التصادم الدولي داخل سورية في ظروف الكتلة الشعبية السورية، إذ يؤدي حسم الخلافات الدولية وإنهاء تقسيم الجغرافيا السورية إلى مناطق نفوذ متعددة ومختلفة، لصالح هيمنة قوى احتلال واحدة في استعادة وحدة الكتلة الاجتماعية السورية جغرافيًا أولًا، وسياسيًا ثانيًا، ومن حيث ظروف الحياة اليومية ثالثًا، الأمر الذي قد يسهل من مهمة توحيد برنامج النضال الشعبي من ناحية ويوحد ساحات النضال من ناحية ثانية. في حين قد يساهم تصاعد الصراع الدولي في سورية وعليها إلى احتمال من اثنين، الأول قد يسفر عن انجرار جزء مهم من الكتلة الاجتماعية السورية نحو خوض هذا الصراع بدلًا من القوى الدولية، وهو ما سوف يؤدي إلى مزيد من الانقسامات الجغرافية والاجتماعية، وهو ما يخدم المصالح الدولية لاحقًا بغض النظر عن هوية الطرف أو الأطراف المهيمنة في نهاية المطاف. أما الاحتمال الثاني، وهو الأقرب، فهو نقيض الأول من حيث عدم انجرار الكتلة الاجتماعية السورية أو أغلبيتها العظمى إلى خوض الصراع الدولي بدلًا من قوى الاحتلال المتصارعة، وهو ما قد يتيح لها استغلال التصارع الدولي وانتقاص اللحظة المناسبة من أجل تصعيد النضال الوطني التحرري والثوري في مواجهة مجمل قوى الاحتلال. حيث يرتبط قوة النضال الشعبي بمدى نجاحها في توحيد الرؤى والأهداف والبرنامج الوطنية الجامعة التي أشرنا إليها قبل قليل. بكل الأحوال هناك احتمالات عدة بعضها إيجابي وبعضها سلبي، وهو ما يتوقف على توجهات الشارع السوري ونخبه الوطنية في الحقبة الزمنية القادمة أكثر مما يتوقف على توجهات المجتمع الدولي وقوى الاحتلال الداخلي والخارجي، فمقومات استنهاض الكتلة الاجتماعية الشعبية المظلومة والمستغلة بآفاق وطنية وثورية واضحة كبيرة وعالية، ومن ثم فنحن من يملك زمام الأمور هنا بعكس مسار الحل الدولي الذي استحوذت قوى الاحتلال على جميع أوراقه ومفاصله، فهل نحسن استثمار ذلك مستقبلا؟
مركز حرمون
————————–
مستقبل سورية ودور المجتمع الدولي/ حيان جابر
نشرت جريدة العربي الجديد ثلاثة مقالات عن موضوع الفدرلة في سورية والموقف الدولي منها، اثنان منها للصديقة رانيا مصطفى، والثالث لكاتب هذه المقالة، يوحي مقالا رانيا -من وجهة نظري- ببعض الإرباك والتشويش في التمييز بين أهداف المجتمع الدولي من ناحية، وسبل الوصول إليها من ناحية ثانية. فضلًا عن إرباك يخص مفهومات الطائفية والانفصال والانقسام والفدرلة. لذا كانت هذه المقالة الموسعة من أجل تحليل الواقع السوري الحالي، وتحديد مستقبل سورية وفق الرؤى والأهداف والمصالح الدولية، على أن نختمها بتناول طموحات الشارع السوري وإمكانات نجاحه في تحقيقها والنواقص التي تعوق سبيله.
أولًا أهداف المجتمع الدولي في سورية واستراتيجياته:
* الصراع في سورية وعليها:
تشهد الأرض السورية في الوقت الراهن نوعين منفصلين أو شبه منفصلين من الصراع الدولي، صراع السيطرة على الأرض السورية أولًا، وصراعًا داخل الأرض السورية على قضايا ومسائل دولية متنازع عليها. لذا لا بد من التمييز بين هذين الشكلين من الصراع فالأول يعنى بمصالح الدول في سورية ذاتها، بينما الثاني لا يكترث بتاتًا لمصير سورية الأرض والشعب والثروات. بل تتعقد الأمور أكثر حين نلحظ تداخلًا بين الصراعين كليهما، وتداخل اللاعبين أيضًا. فإذا ما استثنيا قوى الاحتلال الصهيوني والأميركي، نلحظ تنافسًا وتنسيقًا واضحًا بين جميع القوى الفاعلة في سورية، وذلك مرده أولًا إلى إقرار الفاعلين الدوليين بمناطق النفوذ ومصالح كل من أميركا والدولة الصهيونية، وثانيًا بسبب عدم رغبة الاحتلالين الصهيوني والأميركي في توسع مساحة سيطرتهم داخل سورية في الوضع الراهن، ما يضع الآخرين أمام تنافس على ما تبقى من ناحية، ويفرض عليهم حدًا أدنى من التنسيق في مواجهة الاستراتيجية الأميركية المهددة لمصالحهم من ناحية ثانية.
في حين نلحظ منذ قرابة ثلاثة أعوام، أي بعد توقيع درعا على اتفاق المصالحة وخضوع إدلب لاتفاق الثلاثي الضامن، تراجع حدة الصراع على سورية مقارنة بالمرحلة التي سبقتها، في مقابل تصاعد حدة الصراع في سورية، أي الصراع داخل سورية على مكتسبات سياسية أو اقتصادية خارج سورية، كما في الصراع الروسي- التركي حول ليبيا، أذربيجان، اليونان، أو الصراع التركي- الإيراني حول التمدد عربيًا، أذربيجان، وصولًا إلى الخلافات الأميركية- الروسية حول العلاقة مع الصين ومع الدول الأوروبية، مع بروز خلافات أميركية- تركية أحيانًا وإن لم تخرج عن إطار التصادم السياسي والإعلامي. حيث يعود تصاعد الصراع الدولي في سورية في الآونة الأخيرة إلى قناعة اللاعبين الدوليين باستعصاء الحل في سورية راهنًا، طبعًا الحل من وجهة نظر المصالح الدولية البعيدة كل البعد عن مصالح الشعب السوري، حيث يعود هذا الاستعصاء بشكل أساسي إلى ضخامة حجم التنافس الدولي (روسيا، تركيا، إيران) على سورية أولًا، وإلى استراتيجية الصبر الأميركية في سورية ثانيًا، إذ تصر أميركا على تأجيل حل المسألة السورية وفق اتفاق دولي واضح ومحدد.
في حين تظهر بين الفينة والأخرى ملامح الصراع الدولي على سورية بين القوى الثلاث الأكثر انخراطًا (روسيا، إيران، تركيا) كما في الخلافات الروسية- الإيرانية في منطقة سهل حوران وجبله، والخلاف الروسي- التركي في محيط منطقة إدلب، وأحيانًا صراع إيراني- تركي في المنطقة ذاتها، وتشهد منطقة شرق الفرات ملامح صراع ثلاثي يتربص الانسحاب الأميركي المحتمل، على الرغم من استبعادي حصوله في المدى المنظور. حيث ينطلق الصراع الدولي ثلاثي الأطراف على سورية من رغبة كل منهم في السيطرة على كامل الجغرافيا السورية استنادًا إلى مصالحهم الاقتصادية والجيوسياسية في سورية، في حين تلجم الأطراف الثلاثة من حدة صراعها على سورية ووتيرته نتيجة عجزها منفردة عن إحكام قبضتها على كامل الجغرافيا السورية، لا سيما في ظل إصرار الإدارات الأميركية المتتابعة على انتهاج استراتيجية الصبر في سورية، وإن كان هناك ميل أميركي واضح تجاه سيطرة روسية أكبر من السيطرة التركية والإيرانية. وعليه فنحن أمام هدوء حذر قد يتبعه تفجر الصراع الدولي على سورية، أو اصطفاف أميركي واضح مع أحد أطراف النزاع، في كل الأحوال تبدو الصورة مشوشة بهذا الخصوص حتى الآن، وإن كنت أميل إلى احتمال استمرار حالة التوازن الحذر السائدة اليوم مدة طويلة من الزمن (من خمس إلى عشر سنوات).
* آليات السيطرة الدولية على سورية:
تعمد جميع الدول الفاعلة والمحتلة للأراضي السورية إلى إحكام قبضتها الميدانية عبر مليشيات عسكرية محلية مرتبطة بها مباشرة، يتم إسنادها في وقت الحاجة بدعم عسكري مباشر من قوى الاحتلال، باستثناء قوى الاحتلال الصهيوني التي تحكم قبضتها وتفرض مصالحها بقواها العسكرية المباشرة. فمن ناحية تعتمد القوات الأميركية على قوات الحماية الكردية أو قوات سورية الديمقراطية التي تقوم بدعمها عسكريًا وسياسيا، مع الرفض الإقليمي لها ولسيطرتها. في حين تعتمد إيران على مليشيات طائفية شيعية لبنانية (حزب الله) وعراقية وأفغانية وأحيانًا سورية أيضًا. أما تركيا فتعتمد على كتائب ومليشيات سورية سنية غالبًا، تخضع لإدارتها وتحكمها المباشر. أما روسيا فقد اعتمدت على أشكال عسكرية ميدانية متعددة، بدأت بالاعتماد على المليشيات الإيرانية بالتزامن مع استقدامها مليشيات فاغنر غير الرسمية، ثم عملت على تشكيل الفيلق الخامس كبديل من الجيش السوري النظامي. إذ تنطلق منهجية روسية في تشكيل الفيلق الخامس، من تشكيله من ألوية متعددة وشبه منفصلة ذات طابع طائفي ومناطقي، يتركز كل لواء في منطقة جغرافية محددة بوصفه مكونًا من أبنائها كما في اللواء الثامن الموجود في درعا، مع العلم لم تنجح روسيا حتى اللحظة في تكوين فيلق قوي وقادر على بسط نفوذه على أغلب الجغرافية السورية. فمثلًا شُكل اللواء الثامن في محافظة درعا، بتركيبة مناطقية وطائفية محددة، وسعت روسيا -وما زالت- إلى تشكيل لواء خاص بمحافظة السويداء من أبناء المحافظة، وكذلك الأمر في ما يخص محاولاتها لتشكيل جسم عسكري عشائري في محافظتي الحسكة ودير الزور. ومن ثم فالفيلق الخامس من ناحية اسمية هو جسم عسكري في مستوى سورية، في حين إن مضمونه مختلف عن عنوانه، فهو تشكيلات عسكرية متعددة لكل منها تركيبتها الطائفية أو المناطقية أو القومية أو مزيج منهم، وذات صلاحيات نافذة في منطقة جغرافية محددة لا أكثر، وهو ما يتناقض مع مفهوم الجيش الوطني ذي التركيبة المتنوعة داخل مجمل تشكيلاته، ويناط به وبكل تشكيلاته حماية كامل الوطن بعيدًا من الاعتبارات المناطقية أو الطائفية أو العرقية التي توليها روسيا الأولوية دائمًا.
إذًا ومن كل ذلك نلحظ تشابهًا -وربما تطابقًا- في الآليات العسكرية الروسية والأميركية والإيرانية والتركية تجاه سورية وفيها، فكل منها تتعامل مع أرض سورية وشعبها وفق رؤية تقسيمية، وكأنها قطع متناثرة اجتماعيًا وجغرافيًا، مستفيدين من بعض الهياكل العسكرية والسياسية المتعصبة قوميًا أو طائفيًا أو إثنيًا أو مناطقيًا، إذ نجحت قوى الاحتلال -حتى اللحظة- في دعم هذه القوى وتحويلها إلى قوى أمر واقع بفعل الدعم المالي واللوجستي والعسكري الضخم، مع العلم أنها مجتمعة كانت قوى هامشية في تركيبة سورية الثقافية والسياسية قبل الثورة وحتى خلال العام الأول من الحركة الثورية التي كانت تعكس رؤية شعبية تشاركية، لا تميز بين المناطق والانتماءات الدينية أو القومية أو الفكرية، مع تمييزها الوحيد المستند إلى الموقف السياسي بين مؤيدي الثورة ومؤيدي النظام. طبعًا لا تتناقض ممارسات قوى الاحتلال الميدانية تجاه النسيج الاجتماعي السوري مع رغبة كل من هذه القوى في سيطرتها على كامل الجغرافية السورية، وذلك انطلاقًا من ثلاثة عوامل رئيسية هي:
– تفكيك البنية الاجتماعية السورية، ما يسهل على المحتل التحكم في الشارع السوري.
– تصعيد الصراع السوري- السوري على أسس طائفية أو قومية أو مناطقية، ما يهمش من الصراع مع المحتل.
– بناء مليشيات تابعة وخاضعة بشكل مطلق للمحتل استنادًا إلى تعزيز الانتماءات ما قبل الوطنية والمصلحية، ما يجعلها على تناقض كامل مع سائر القوى الوطنية السورية.
استنادا إلى ما سبق من عرض لطبيعة الأهداف والصراع الدولي في سورية أولًا، وإلى آليات السيطرة الدولية على سورية ثانيًا، يصبح من الضروري التساؤل حول الرؤية الدولية لمستقبل سورية الذي يسمى إعلاميًا بالحل في حالتي توافق المجتمع الدولي أو عدم توافقه، وهو ما سوف نحاول مقاربته في القسم الثاني.
ثانيًا: تبعات السياسات الدولية على سورية الأرض والشعب:
نسلط الضوء في هذا القسم على أبرز ملامح سورية القادمة وفق الرؤى الدولية، سواء حدث ذلك عبر توافق المجتمع الدولي على مسار الانتقال، أم جرى الانتقال من دون توافق دولي، على الرغم من صعوبة البت في ذلك منذ الآن، لكني أعتقد بإمكانية تحديد ملامحها العامة استنادًا إلى فهم أهداف المجتمع الدولي وآليات سيطرته التي تناولناها في القسم الأول. وسوف نوضح ذلك من خلال استعراض بعض الاحتمالات المتداولة ونحاول التمييز بينها وتحديد احتماليتها وحدودها وهي:
* الطائفية:
في البداية لا يتطلب تطييف أي مجتمع كان، فصلًا جغرافيًا كاملًا بين مكوناته الدينية سواء الطائفية منها أم الإثنية، وإن كان ذلك نتيجة محتملة لتصاعد الصراع الطائفي لاحقًا. وهو ما ينطبق اليوم على الحالة السورية التي تصاعد فيها الخطاب الطائفي بفعل ممارسات النظام أولًا، وقوى المعارضة التقليدية ثانيًا؛ لا سيما الإسلاميين منهم، والمجتمع الدولي وتحديدًا الإقليمي ثالثًا. لنصبح أمام تصاعد واضح في النهج الطائفي، كما يتجلى سياسيًا في هياكل المعارضة وبعض اجتماعاتها ذات التوصيف الطائفي، مؤتمر العلويين، المسيحيين السنة، الشيعة، وتجلى ميدانيًا في مليشيات عسكرية طائفية متعددة شيعية وسنية، وأحيانًا مسيحية ودرزية، الأولى محسوبة على النظام، والثانية على المعارضة، وهما الأبرز والأقوى والأكثر انتشارًا في الوقت الراهن.
طبعًا لا يعني تصاعد الحالة الطائفية ميدانيًا؛ انقسامًا سياسيًا على أساس طائفي بالضرورة ، بمعنى تحول سورية إلى ثلاث أو أربع دول طائفية. كما لا يعني فصلًا ديموغرافيًا بين الطوائف، كأن تتحول محافظة ما إلى لون طائفي محدد (سني، شيعي)، يمنع على المختلف طائفيًا دخولها بغرض العمل أو الإقامة أو ربما السياحة أيضًا. ولا يمكن إنكار وجود بعض التجمعات ذات الصبغة الدينية أو الطائفية في سورية حاليًا، كما لا يمكن تجاهل سيطرة المليشيات الطائفية على بعض المدن والبلدات السورية، ومحاولة فرضها نمطًا اجتماعيًا طائفيًا (وقانونيًا إن أمكن)، وهي بالضبط آلية تطييف المجتمع والنظام السياسي كما خبرناها في دول الجوار. هذه الحالة الطائفية القسرية مدعومة دوليًا من إيران وتركيا بالحد الأدنى، ومدعومة كذلك من أميركا وروسيا لكن لا داعي للجدال حول ذلك الآن، لذلك فهي تفتح الباب أمام تصاعد الصراع الطائفي مستقبلًا وأمام ارتفاع مستوى الاستقطاب الطائفي لدرجات مقلقة ومخيفة قد تصل في أحد مراحلها إلى ممارسة جرائم طائفية ممنهجة واسعة النطاق بحق الآخر الطائفي (شهدنا ذلك بشكل محدود في السنوات الأخيرة)، ما سوف يساهم في نزوح طائفي وتجمعات طائفية داخل مناطق خاضعة لسيطرة مليشيات عسكرية من اللون الطائفي ذاته.
في كل الأحوال لم أتطرق إلى هذا الاحتمال في أي من مقالاتي السابقة، ولا أرغب في التطرق إليه راهنًا انطلاقًا من إدراكي لوعي الكتلة الاجتماعية السورية هذا الخطر ورفضها له وقدرتها على مجابهته، لكن لا يلغي ذلك وجود هذه الحالة اليوم وتنامي قاعدتها الاجتماعية أيضًا. ومن ثم فخطر الانقسام الطائفي (انقسامًا وليس انفصالًا أو فدرلة)، قائم استنادًا إلى الحسابات الدولية، لكنه بعيد المدى وفق الحسابات الشعبية السورية، أما الواقع الديمةغرافي فهو قابل للتغيير مع مضي الزمن، ولنا في تجارب شعوب أخرى مثالًا على ذلك، وخصوصًا العراق قبل الاحتلال الأميركي والإيراني وبعده.
* الانفصال:
الانفصال هو انشطار دولة قائمة إلى دولتين أو أكثر، وهو أمر يبدو مستبعدًا في الحالة السورية نتيجة اعتبارات عدة، من دون أن نستبعد حصوله في حالة تصاعد الصدام الدولي على سورية. حيث تتعارض مجمل مصالح الدول الفاعلة (المحتلة) في سورية -باستثناء أميركا والدولة الصهيونية- مع خيار انفصال جزء من الأرض السورية عنها، حتى في ما يخص مناطق الحكم الذاتي الكردي لذا فجميعهم يعارضونه. وهو ما تجلى سابقًا عند محاولة انفصال إقليم كردستان العراق بدعم أميركي قبل بضعة سنين وبالتحديد في 2017. في حين تتوافق مصالح أميركا والدولة الصهيونية مع سيناريو الانفصال وتشظي الدول، من العراق وسورية إلى ليبيا والمغرب والبقية، إذ تنطلق المصلحة الأميركية من حماية قاعدتها العسكرية (الدولة الصهيونية) والحفاظ على تماسكها، وعليه فسورية لم -ولن- تشكل قاعدة عسكرية أميركية متقدمة في المنطقة، بما يشمل قوات سوريا الديمقراطية أيضًا. في حين تنطلق دول الاحتلال الأخرى كلها من كون سورية قاعدة رئيسية في مشروع هيمنتهم أو تمددهم في المنطقة، فسورية مركز النفوذ الإيراني تجاه المنطقة العربية، ولا سيما في حماية سيطرتها على كل من لبنان والعراق، وكذلك سورية هي خط التماس الوحيد لتركيا مع المنطقة العربية، فضلًا عن أهميتها للأمن القومي التركي، وروسيا هي موقع قاعدتها العسكرية الوحيدة في المنطقة حتى الآن.
وعليه فإن الرؤية الأميركية والصهيونية تتناقض مع الرؤية الروسية والتركية والإيرانية، في ما يخص الموقف من الانفصال، لكن على الرغم من الميل الأميركي والصهيوني نحو تقسيم الدولة السورية، من أجل ضمان تفوق الدولة الصهيونية على مجمل دول المنطقة، فإن تحقيق هذه الرغبة تصطدم بمعارضة إقليمية واضحة، دفعت؛ وتدفع دول الإقليم إلى التقارب على الرغم من الاختلاف من أجل مجابهة الرغبة الأميركية، تمامًا كما حصل بعد استفتاء إقليم كردستان العراق، وأيضًا بعد الإصرار الأميركي على دعم سيطرة قوات سوريا الديمقراطية على جانبي نهر الفرات، المتجاهلة انعكاساتها على الأمن القومي التركي، ما دفع الأتراك والإيرانيين والروس إلى التقارب والتعاون من أجل كبح المخطط الأميركي في حينه. في كل الأحوال ونتيجة كل ما سبق أجد أن احتمالات الانفصال قليلة جدًا، إلا إن تصاعدات الخلافات الروسية والتركية والإيرانية على سورية قد تبلغ حد المواجهة المباشرة في مرحلة من المراحل، وهو احتمال مستبعد في المستقبل القريب وربما المتوسط أيضًا، لكنه يبقى قائمًا في ظل التنافس بينهم.
* الفدرلة:
توضح الفقرة السابقة صعوبة -إن لم نقل استحالة- انفصال مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية عن الدولة السورية الراهنة، استنادًا إلى العامل الخارجي وتحديدًا الإقليمي، ويتضاءل احتمال الانفصال أكثر إن تعمقنا في العاملين الجغرافي والبشري، إذ يصعب تكوين دولة كردية على جزء من الجغرافية السورية الحالية (أي في ظل غياب امتدادها التاريخي كاملًا) بحكم تداخل البنية الاجتماعية العربية- الكردية، ونتيجة غياب مقومات الدولة المستقلة الأساسية كالمعابر والإمكانات البشرية واللوجستية. لكن مع استبعاد احتمال الانفصال إلا أن احتمال الفدرلة وتشكيل حكم ذاتي سياسي أمر محتمل، بل مرجح أيضًا، إذ ما نظرنا إلى الموضوع من ناحية المصالح الدولية في سورية. وهو ما يحدث الآن بشبه توافق دولي، روسي إيراني أميركي وتركي، وإن كانت الموافقة التركية مشروطة.
إذ تربط تركيا موافقتها على إقامة حكم ذاتي كردي في سورية بشرطين رئيسيين، الأول فرضته تركيا ميدانيًا بتوافق دولي وصمت أميركي، من خلال سيطرة الجيش التركي والقوى المسلحة السورية المحسوبة عليها على الشريط الحدودي بين تركيا وسورية، وبعمق جغرافي يلبي المخاوف الأمنية التركية بحدها الأدنى وربما الأعلى. أما الشرط الثاني فيتمثل في استبعاد أي مشاركة سياسية أو عسكرية لـ BKK، أو أي تشكيل يماثله ويتحالف معه، وهو الشرط الذي حاولت الإدارة الأميركية السابقة (ترامب) مقاربته من خلال جلسات الحوار الكردي- الكردي الذي رعته في عامها الأخير، بغرض تلبية المطالبة التركية أو إيجاد حل يلبي مخاوفها بالحد الأدنى، ومن ثم يضمن موافقتها. طبعًا لم يصل الحوار إلى خواتيمه ولم يحقق حتى اللحظة الغرض الأساسي منه ويبدو أن الإدارة الأميركية الحالية غير معنية، أو لا تملك الوقت الكافي لمعالجة هذه الإشكالية.
* الانقسام والتقسيم:
للانقسام أشكال عدة ومتعددة نجد أغلب تجلياتها، في الحالة السورية اليوم، وخصوصًا اجتماعيًا، كالانقسام السياسي بين مؤيدي النظام ومناهضيه، والانقسام الطائفي الذي يزكيه المجتمع الدولي والمليشيات الطائفية المسيطرة ميدانيًا كما وضحنا سابقًا، إلى الانقسام القومي الذي يغذيه المجتمع الدولي أيضًا والقوى القومية المتعصبة. بل تشهد بعض مناطق سورية تجليات لانقسامات في مستوى البنية الفوقية، أي مؤسسات الدولة وهياكلها، من خلال سيطرة قوى الأمر الواقع وفرض حالة أشبه ما تكون بدولة داخل دولة كما في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية والمناطق المحسوبة على تركيا. فحتى اللحظة تتحكم قوى الاحتلال في هذه الانقسامات، وتسيرها وفق مصالحها الراهنة والمستقبلية، وتحرص على عدم تحولها إلى نموذج انفصالي مستقل بذاته ولو مؤقتًا. وهنا لا بد من استذكار بعض الحوادث البغيضة الناتجة نن هذا الانقسام، كحالات طرد السوريين وترحيلهم وفق انتمائهم الديني أو الطائفي أو العرقي أو القومي، فمن المؤسف حدوث ذلك في أكثر من منطقة ومن عدد لا يستهان به من قوى الأمر الواقع المختلفة من المحسوبة على النظام إلى المحسوبة على المعارضة.
* سورية في ظل توافق قوى الاحتلال:
عملت قوى الاحتلال على تقسيم سورية اجتماعيًا وبالتحديد طائفيًا وعرقيًا بغرض تسهيل تحكمها في المجتمع السوري عبر إثارة النعرات الصدامية في ما بينه، كما عملت على تقسيم سورية جغرافيًا (من دون انفصال) بشكل يعكس الحد الأدنى من مصالحهم أولًا، ويكبح -ولو مؤقتًا- احتمالات الصدام في ما بينهم ثانيًا. طبعًا لا يعني الانقسام المجتمعي فدرلة الدولة تلقائيًا بناء على طبيعة الانقسامات الاجتماعية وهويتها، بل يؤدي غالبا إلى تطييف النظام السياسي، في حين تتطلب الفدرلة مزيجًا متطابقًا بين التقسيم المجتمعي والجغرافي، وهو ما يتوفر نسبيًا في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية. لذا يبدو أن الدولة السورية المحتمل التوافق عليها دوليًا، ذات نظام سياسي طائفي أولًا، وفدرالي ثانيًا.
* سورية في ظل تصادم قوى الاحتلال:
لا يمكن تجاهل احتمال تصادم قوى الاحتلال الخارجية بشكل مباشر على أرض سورية مستقبلًا، نظرًا إلى مدى تعارض مصالحها وطموحاتها في سورية وحولها، لذا قد نشهد صدامًا عسكريًا محتدمًا في ما بينهم، إن نجحت الولايات المتحدة الأميركية في التقليل من مخاوفهم من مخططاتها تجاههم، وكذلك إن نجحت في إثارة حماسهم وتنافسهم على سد الفراغ الذي تتركه، ولو نسبيًا. طبعًا لن نتطرق الآن إلى دور الشارع السوري في استثمار هذه المرحلة، بقدر ما نود تسليط الضوء على تأثير ذلك في شكل سورية وطبيعتها ونظامها المستقبلي، بعد حسم الصراع لصالح محتل وحيد، مع عدم تناسي احتمال تشظي سورية إلى دولتين أو ثلاث يحتل كل منها دولة من الدول المتصارعة على سورية. إذ أعتقد أن تطيف النظام السياسي السوري القادم أمر محسوم في حسابات القوى الخارجية، وكذلك بما يخص الفدرلة وبالتحديد في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، وإن كانت بعض قوى الاحتلال ترى بالحكم الذاتي الثقافي حلًا وسطيًا مقبولًا لها وللنظام الإقليمي والدولي. وسوف يؤدي تصادم قوى الاحتلال وصراعها إلى التقليل من تبعات الانقسام الجغرافي على بنية المجتمع السوري (إلا لو قسمت سورية نتيجة الصراع الدولي عليها)، كما قد يساهم في إنهاك قدرات القوى المسيطرة واستنزافها، ما سوف ينعكس إيجابيًا على قدرات المقاومة الشعبية لاحقًا.