سورية الممكنة في ظل فيدرالية محتملة/ سميرة المسالمة
يضع النظام السوري أمام المجتمع الدولي طريقًا واحدًا للتعاطي مع ملفّ تسوية الصراع في سورية، وهو وأد أيّ تطلّع للتغيير السياسي، وممانعة تحويل سورية إلى دولة مواطنين ودولة مؤسسات وقانون، ويأتي ضمن ذلك رفض أي اعتراف بالمعارضة، من أي مستوى، ومن أي نوع، واستمرار الحل الأمني، ورفع الحماية كاملة عن أي فصيل معارض، سواء كان سياسيًا أم عسكريًا، وإعادة الاعتراف بسيطرته على كامل مساحة البلاد، سواء عبر الاستسلام له طوعًا، أو ضمن سياق عملياته العسكرية التي يعطي مثالًا عليها في درعا ، لتكون حربه القادمة في إدلب وبقية المناطق الخارجة عن سيطرته، من درع الفرات إلى غصن الزيتون، وصولًا إلى “الإدارة الذاتية” التي يحكمها الكرد تحت الحماية الأميركية المشكوك في استمرارها لاحقًا.
هكذا، فإن سورية الممكنة (أو المفترضة)، في نظر النظام، ليست سورية التي يبحث عنها السوريون، ويتوقون لها، كوطن يتسع لهم جميعًا، في دولةٍ ينظّم وضعها دستور يتساوى فيه المواطنون، أفرادًا ومجموعات، وإنما هي سورية “المتجانسة”، أي التي يخضع فيها الجميع لشعار: “سوريا الأسد إلى الأبد”، الذي هو صنو مقولة: “سوريا الأسد أو نحرق البلد”، وهو الشعار الذي حكم سورية منذ اندلاع الثورة السورية، مطلع العام 2011.
وهذا يعني أن الأسد، في هذا الخيار، وفقًا لقراءته للمشهد الدولي وواقع الانكفاء الأميركي في المنطقة والانفتاح العربي عليه، يتصرّف على أنه انتصر في الصراع العسكري، بالقوة المفرطة وبالتعاون مع روسيا وإيران، على المقاومة الشعبية، لذا فلا حاجة إلى الإبقاء على التسويات التي تمّت، سواء أكانت تحت سقف اتفاقات آستانا أم ضمن التفاهمات الدولية الثنائية، ومثالها درعا.
ويُضفي هذا الانتصار في اعتباراته “شرعية” على تمسّكه بذاك الشعار: “سوريا الأسد إلى الأبد”، الذي نجم عنه الهول السوري، مع ملايين المشردين وأكثر من مليون من الضحايا، وكلّ هذا الخراب في العمران. إذًا، نحن أمام ما يطرحه النظام بخياره الوحيد، خيار سورية ما قبل 2011، التي تحكمها أجهزته الأمنية وقواته الخاصة، والتي يمتلك ثرواتها وخياراتها في الحرب والسلام، ويكسب من استثماره في موقعها الجغرافي، إقليميًا ودوليًا.
هذه هي سورية الممكنة بهيئتها ما قبل 2011 التي يقدّمها النظام لمجتمع دولي بات غارقًا في مشكلاته، من الصحية حتى الاقتصادية، أمام مجتمعاته من مفاعيل الحركات الإرهابية المتصاعدة، التي يقابلها نموّ اليمين المتطرّف فيها الذي يهدّد مصير حكوماته الديمقراطية، وهو يطرح عليها “سورية الممكنة” القادرة على إعادة لملمة ما فتحته من ملفات خارجية، أغرق فيها دول الجوار والمنطقة بالفوضى، ويراهن على قبولها الغربيّ قبل المحلي السوري، لأنه فاز في الصراع على الصورة التي صدّرها منذ البداية “عصابات الإرهاب ضد الدولة”، وأسهمت المعارضة، عن سوء تقدير، في توسيع كادر تلك الصورة، عندما قبلت الشراكة إلى حين مع جبهة “النصرة” وفصائل راديكالية مسلحة مستنسخة عنها، انطلاقًا من مقولة “عدو عدوك صديقك”، وهي ما أثبت الزمن عدم صحتها وكوارث عاقبتها.
الخسارة الكبرى التي مُني بها السوريون هي تمزيق مطالب ثورتهم وتوزيعها على أجندات المسلحين، والنيل من وحدتهم كشعب، ما شجع النظام على إحلال مفهوم “التجانس”، بديلًا لمفهوم التشارك بين المواطنين المتساويين الأحرار، ولم يكن حظ السوريين أوفر في المناطق التي سُمّيت “محررة”، إذ ساد فيها ما يشبه مفهوم المجتمع المتجانس، بفرض اللباس شبه الموحد على النساء، ونزع الحقوق الفردية والجمعية عنهم، ما قلّص فرص الخيارات أكثر أمام المجتمع الدولي (المتهرّب من مسؤولياته أساسًا) في استمرار دعمه للتحرر من النظام السوري، وهذا ما يفسّر صمته على المجازر في درعا وإدلب، وكلّ ما سيسعى النظام على استعادته.
هذه سورية التي يُنازع النظام معارضته عليها، ولا يريد تبديلها بخيار سورية أخرى، سواء كانت تخدم استمراريته أو تُنهيها، فخيار سورية الفيدرالية المقترحة من بعض الجماعات السورية، من مثقفين ومختبري الحياة الأوروبية في دول الفيدرالية المتقدمة، قد لا تُنهي وجوده السياسي، لكنها تنهي استمرار قدرته على التعاطي مع إمكانات سورية، كإرث شخصي له ولعائلته، لا يحقّ لعموم السوريين الاستفادة منه، وهو يدرك أن الحديث عن الفيدرالية لا يعني التقسيم، إنما يعني التقاسم العادل في التنمية والتطوير المجتمعي والاقتصادي والتساوي في الحقوق السياسية بين الأقليّة والأكثرية، وهذا ما يكفّ يد الفساد ويلجم الفاسدين.
ومن اللافت أن النظام السوري لم يبذل جهدًا في محاربة فكرة الفيدرالية، لأنه وجد خصومه من المعارضة قد صنعت منها “بعبعًا” يخشاه السوريون ويحاربونه، ليس بسبب مفهومها، بل لأن من طرحها هم الكرد الذين أضافتهم المعارضة، من دون سبب، إلى قائمة أعدائها، ليطبّقوا الحصار على أنفسهم، وعليهم في الطرف المقابل، وكلّ ذلك صبّ في طاحونة النظام، وأضعف إجماعات السوريين، وأهدر طموحاتهم في قيامة سورية الممكنة لعيشهم وحفظ كرامتهم.
نحن إذًا أمام خيارات سورية الممكنة، أو المفترضة، اليوم بالنسبة إلى النظام، وهي سورية المتهتكة اجتماعيًا بوحدتها الصورية، أو المتمحورة حول النظام، بالرغم من تمزقها الداخلي، أو سورية الفيدرالية، التي يمكن علاج جراحها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بإعلاء مكانة الدولة، دولة المؤسسات والقانون والمواطنين، وعلى أساس من فصل السلطات، في كيان فيدرالي على أسس جغرافية (لا طائفية ولا اثنية).
قد يكون هذا الطرح اليوم رفاهية لبعضنا، وقد يكون بدافع وطني حقيقي، لكن الخشية أن تصيب هذه الحرب المجنونة التي يخوضها النظام سوريةَ كلّها بمقتل، فيصبح خيار الفيدرالية الاثنية واقعًا تفرضه الحمايات الدولية والفصائل المتناحرة.
مركز حرمون