كبارُ السنّ في سوريا لا يتقاعدون: تحدياتُ الحرب والانهيار/ مناهل السهوي
الحاجة الأساسية اليوم لكبار السن في سوريا هي الحفاظ على أمنهم الغذائي والصحي، وإيجاد قوانين تجعل من حياتهم أكثر سهولة، ومنحهم فرص جديد للعمل لو أرادو ذلك، وعدم تجاهل وجود هذه الفئة الكبيرة لمجرد الاعتقاد أنهم غير قادرون على الإنتاج.
يقود العم “أبو نادر” 68 عام سيارة الأجرة الخاصة به في شوارع دمشق، ورغم الإجهاد الكبير ووقوفه لساعات لتعبئة الوقود إلّا أنّه يستمر في عمله المتعب خلف المقود. هاجر أبناؤه إلى أوروبا خلال الحرب السوريّة وبقي هو وزوجته وحيدين، يتحمل وحده عناء الانتظار على طوابير الخبز والوقود والأرز والسكر، يرسل له ابنه المال في كلّ شهر، لكن العم أبو نادر لا يودّ أن يثقل على أبنائه وبات أيّ مبلغ لا يكفي في سوريا وتحتاج العائلات على الدوام عملاً إضافياً لتغطية كافة احتياجاتها بخاصة إلى أنه بحاجة هو وزوجته للكثير من الأدوية باهظة الثمن.
تكمن خطورة هكذا أعمال بإمكانية التعرض لعدوى كوفيد 19، بخاصة أن كبار السنّ هم الفئة الأضعف في حلقة كوفيد.
لم يعتد الجميع الوضع الاقتصادي المنهار في سوريا، فبينما كان المرتب يكفي العائلة قبل عشر سنوات، في وقتٍ كان يوضع الموظف الحكومي في أعلى الهرم المعيشي، بات اليوم المتقاعدون يعانون اقتصادياً حيث يساوي متوسط رواتبهم حوالي 60 ألف ليرة سورية أي ما يقارب 18 دولاراً، وهذا ما كان تحدياً للأستاذ رفعت الذي عمل كموجه تربوي في إحدى المدارس وبعد التقاعد لم يعد يغطي مرتبه احتياجات عائلته مما اضطره للعمل كمحاسب في محل للحلويات بمرتب زهيد، ورغم عمل جميع أفراد عائلته إلّا أنّ المدخول الماديّ مازال أقل من احتياجاتهم. وهذا ما وضع كبار السن في حالة من الصدمة حيث عجزوا على مجاراة الانهيار الاقتصادي على عكسهم تمكن الشباب من استيعاب غلاء المعيشة إلى حد ما.
يعاني كبارُ السنّ في سوريا العديد من التحديات كما ازدادت هذه الصعوبات أكثر خلال السنوات الماضية، بخاصة في ظل غياب قوانين فاعلة.
متى يتقاعد السوريّ عن العمل؟
التقاعد حقٌّ لكلّ إنسان، يحصل بعده على مرتّب تقاعدي وحياة كريمة، وفي بلاد أخرى كأوروبا هو بداية جديدة يقوم خلالها كبار السن بالسفر والاسترخاء، يختلف الأمر في سوريا كما الكثير من البلاد العربية. حسب القانون السوريّ يتقاعد الموظف حين يصل الستين من العمر أو عندما يُتمُّ عدد سنوات معينة من الخدمة في عمله، يستمر العديد من كبار السن في العمل حتى بعد خروجهم إلى التقاعد، ليس رغبة في العمل لكن الراتب التقاعدي لا يكفي دون عملٍ إضافيّ، تتوجه هذه الشريحة في الغالب إلى الأعمال الحرّة كقيادة سيارة أجرة أو المحاسبة في أحد المطاعم أو البيع على بسطة خضار.
المعاناة النفسية لكبار السن
لا يؤخذ الجانب النفسي لكبار السن بعين الاعتبار، وسط تحديات حقيقية، فالكثير منهم وجد نفسه متروكاً ووحيداً بعد رحيل أبنائه، أمام أزماتٍ نفسيّة جديّة، تتعلق بمفهوم العائلة التي تعد الركيزة الأساسية للحياة الاجتماعية السوريّة والحلقة الأولى التي يعمل عليها الأفراد طيلة حياتهم، وفقدان معظم الأبناء إمّا في الحرب أو من خلال الهجرة ما ترك شرخاً في حياة عائلاتهم وآبائهم وتساؤلات كبرى عن معنى الحياة، حتى أنهم حرموا من الأحفاد أو وجودهم بقربهم.
وعدم إظهار الحزن والإجهاد النفسي لا يعني غيابه، بطبيعة الحال لا يوجد أي طريقة لملء فراغ غياب الأبناء، وإن كانت التكنولوجيا حلاً لا يشفي شوق الأمهات، فاستخدام الهواتف والاتصال عبر الفيديو يعطي هؤلاء بعض الأمل للقاءٍ قادم عبر شاشة الهاتف.
واحدةٌ من أقسى الخسارات هي فقدان الأبناء في الحرب، تستدلُّ على بيت أبو طوني في إحدى الحارات الشعبية في دمشق من صورة كبيرة عُلّقّت على مدخل الحارة لابنهم الذي استُشهد على إحدى الجبهات، تنتشر صوره في المنزل كذلك وبينما تُحضّر أم طوني النرجيلة تتحدث عن ابنها الثاني الذي قاموا بإخراجه من البلاد خوفاً من فقدانه كأخيه، لم يرسلوا لهم جثة ابنها وهذا ما يجعل فقدانه أكثر صعوبة، يقول الجيران أن أم طوني كبُرت بسرعة وبان عليها التعب منذ لحظة فقدان ابنها وأنها تمثّل القوة اليوم، لكنها لم تعد موجودة منذ رحيله.
تزداد هذه المعاناة في مخيمات اللجوء، حيث وجد كبار السن أنفسهم بلا مأوى بعد أن هُدِمت منازلهم وضاع تعب عمرهم في القصف والمعارك، ولم يبقَ لهم سوى خيمة، وسط تحديات تتعلق بصعوبة تنقلهم وحصولهم على الأدوية والرعاية الطبية الجيدة، هكذا غدوا ضحية السياسة التي هدمت حياتهم وأعادت تشكيل هويتها بطريقة غير مألوفة.
كما أن الجانب الاقتصادي ترك آثاره النفسية على هذه الفئة، فباتوا يشعرون بعدم جدوى الأشياء أو المال أو حتى الأعمال التي قضوا سنوات فيها، فكيف يمكن أن يقتنع رجل في الثمانين من العمر كان يعيش على 500 ليرة سورية قبل 10 سنوات أن هذه 500 لا تكاد تشتري شيئاً اليوم وكيف تقنع امرأة كان مرتبها سابقاً يكفي لشراء كل ما تشتهيه عائلتها أما اليوم هي غير قادرة على الحصول على كيلو من اللحمة!
كبار السن بحاجة إلى قوانين فاعلة
حسب المحامي السوريّ رامي هاني الخير فالقوانين التي تخصّ كبار السن ليست بكثيرة في القانون السوريّ، بالإضافة إلى عدم فاعليتها. يتقاعد الموظف في القطاع العام بعمر الستين عام وكذلك في القطاع الخاص والمشترك، بالإضافة إلى الحقّ في الراتب التقاعدي يحصل على تأمين صحيّ لا يتجاوز 10000 ليرة سورية أي حوالي 4 دولارات، وأكثر ما يحتاجه كبار السن بطبيعة الحال هو الرعاية الصحية المستمرة وهذه الحاجة لم يتم تغطيتها بشكل فعلي، وحسب “الخير” ربما يعود ذلك إلى أن المشرّع في سوريا عوّل على المستشفيات العامة الحكومية، ولا وجود لقوانين أخرى تذكر على هذا الصعيد حسب “الخير”.
بالنظر إلى الحقوق المرعية للحفاظ على حياة كبار السن وحقوقهم، يرى “الخير” أن هذه القوانين بحاجة إلى إعادة نظر، فهي كانت مناسبة فقط للحقبة الماضية أي حين كان عدد سكان الجمهورية العربية السورية قليل وعندما كانت قيمة الليرة السورية تتناسب والمعيشة اليومية، خاصة أن الحرب عكست الوضع السوري، فباتت نسبة كبار السن أكبر من الشباب بسبب النزوح والموت.
يختم الأستاذ هاني بالإشارة إلى دور وزارة الشؤون الاجتماعية، والمعنية بكل الحالات الإنسانية ولاسيما حالات كبار السن، أما بالنسبة إلى دور رعاية المسنين فكانت تغطي قبل 2011 كافة المحافظات السورية، أمّا اليوم عددها قليل جداً.
وبالنظر إلى القوانين أعلاه ندرك مدى حاجة كبار السن إلى قوانين فاعلة، تهتم بكافة جوانب حياتهم، بداية من وضع خطط متكاملة لتهيئة السوريين للتقاعد ومنحهم خيارات أخرى لما بعد التقاعد سواء لتنمية مهاراتهم التي حرمهم العمل في الشباب من ممارستها أو الترفيه، وهذا ما قد يخفف من الآثار النفسية لترك العمل.
من جهة أخرى تشكل هذه الفئة ثروة من الخبرة والمعرفة، ولابدَّ من الاستفادة منها، لا يخسر السوريين تلك الخبرات وحسب بل يخسرون ناقلين للتراث اللامادي والتقاليد والعادات مع نزوح العديد من كبار السن، خاصة من مناطقٍ ذات خصوصية تاريخية كما حدث في الشمال السوري مع هجرة الآشوريين والأكراد والسريان.
الحاجة الأساسية اليوم لكبار السن في سوريا هي الحفاظ على أمنهم الغذائي والصحي، وإيجاد قوانين تجعل من حياتهم أكثر سهولة، ومنحهم فرص جديد للعمل لو أرادو ذلك، وعدم تجاهل وجود هذه الفئة الكبيرة لمجرد الاعتقاد أنهم غير قادرون على الإنتاج.
درج