السياسة تزجيةً للوقت/ وائل السواح
ثمّة مقولة شائعة يحبّ السوريون ترديدها، أن الرئيس شكري القوتلي قال للرئيس جمال عبد الناصر في أثناء نقل السلطة للأخير، عند الوحدة مع مصر في العام 1958، إنه يسلّمه أمّة فيها خمسة ملايين سياسي… لا أعرف مدى صحّة هذه المقولة، وأميل إلى الاعتقاد أنها من خيال محمد حسنين هيكل، خصوصا أنها لم تتأكد في أي مصدر آخر. وقد نفاها مدير مكتب القوتلي وكاتم أسراره، عبد الله الخاني. لكن الأهم، بغضّ النظر عن صحّتها، أنها لا تعبّر، في الحقيقة، عن حال السوريين لا سابقا ولا لاحقا.
ثمّة فرق بين السياسة عملا يوميا دؤوبا يهدف إلى تحقيق رؤية سياسة، من خلال تطبيق برنامج سياسي عن طريق السلطة، من جهة، ومتابعة الأخبار اليومية وإبداء الرأي ومهاجمة بعض السياسيين وأعمالهم ومديح البعض الآخر وتملّقه من جهة أخرى. الطريق الأول شاقّ وغير انفعالي، يعتمد الفعل أكثر من القول، ولا يهدف إلى استثارة عواطف الناس وغرائزهم، بل يسعى إلى تحريكهم وتغيير قناعاتهم، بحيث تتلاءم مع قناعة السياسي وبرنامجه. الطريق الثاني هو مجرّد مناسبة للتعبير عن الغضب أو الفرح، السخط أو الرضى، أو قد يكون مجرّد متابعةٍ للقنوات الإخبارية لمعرفة ما يجري حولنا. أي بعبارة أخرى: تزجية للوقت.
الفرد (أو الجماعة) الذي خرج إلى الشارع ضدّ الحكم الفاسد والدموي لبشار الأسد في دمشق ليس سياسيا، ما لم يكن لديه فكرة عما يريد تحقيقه وبرنامج محدّد لتحقيق تلك الفكرة. بخلاف ذلك، يكون الفعل عاطفة صادقة أو غير صادقة وممارسة نبيلة أو غير نبيلة، لكنه ليس فعلا سياسيا.
السوريون الذين تجمّعوا إبّان فترة ربيع دمشق في منتديات سياسية وثقافية لم يقوموا أيضا بفعل سياسي. هدف السياسة السلطة، والمنتديات كانت تريد أن تكشف عورات النظام، من دون أن تطرح (في معظمها) برنامجا بديلا أو تضع خطة للوصول إلى السلطة. طبعا، يمكن القول إن النظام لم يسمح لها بالنمو والتطوّر لتتحوّل إلى فعل سياسي. هذا صحيح، ولكن الواقع أنها، في معظمها، لم تزد على أن تكون أنديةً وصالونات ثقافية لمناقشة الأفكار وحكّ الأذهان بعضها ببعض، من دون أن تنتج فعلا سياسيا أو تترك أثرا حقيقيا على الأرض.
انفرد عن الأغلبية رجل واحد عرف أن العمل في المنتديات لن ينتج فعلا سياسيا، ولن يؤدّي إلى تغيير حقيقي. إنه النائب السابق، رياض سيف، الذي أسّس “منتدى الحوار الوطني” في سبتمبر/ أيلول 2000، ثم خطا خطوةً نحو مشروع تأسيس حزب سياسي ليبرالي الاتجاه، تحت اسم حركة السلم الاجتماعي، وطرح بالفعل ورقة المبادئ الأولية لمشروع الحزب في إحدى جلسات منتدى الحوار الوطني، ولكن النتيجة كانت إغلاق المنتدى واعتقالَ سيف نفسِه. بعد خروجه من السجن، جدد سيف نشاطه لإنشاء حزب سياسي “يقوم على الديمقراطية، ويبنى على قاعدة أخلاقية.” وعلى الرغم من أن هذين المبدأين لا يؤسّسان، وحدهما، حزبا سياسيا، إلا أن هذه المحاولة كانت الأولى من نوعها، قبل أن يطلَق إعلان دمشق، الذي تبنّى، بعد مؤتمره في 2008، خطا ليبراليا واضحَ المعالم.
اليوم، يتجمّع السوريون، بسبب تشتّتهم في كلّ أصقاع الأرض، وبسبب إحساسهم بالوحشة والوحدة والخذلان، في منتدياتٍ افتراضية على فيسبوك أو في مجموعات واتس آب وكلوب هاوس. يناقشون كلّ الأفكار والقضايا كافة، ويطلقون أحكامهم بدون تروٍّ أو حذر. معظم السوريين اليوم غاضبون، وهم في ذلك محقّون. هم غاضبون من تخلّي العالم عنا وناقمون على محاولات الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، والعاهل الأردني، عبدالله الثاني، مدَّ يدِ الإنقاذ لرئيسٍ قتلَ وهجّرَ وأسرَ نصف شعبه، وهدّم البنية التحتية والفكرية، وقسّم الأمة السورية إلى شيع وطوائف وقوميات وعصبيات أخرى، يسخرون من مصر والإمارات، ويحقدون على بايدن، ويترحّمون على أيام ترامب وصدّام حسين. إنهم يسعون وراء الأخبار التي تثير غضبهم وعواطفهم وحنقهم أو سرورهم وشعورَ الشماتة لديهم. ولكنهم لا يحاولون جرّ الآخرين إلى مواقعهم بالنقاش والسجال والعمل، ولا يسعون إلى تغيير رؤاهم السياسية، بل يكتفون بتسجيل النقاط عليهم، وكأن الحكاية حكاية مباراة في الشطرنج أو كرة القدم. ولذلك، ما يحدث اليوم افتراضيا هو تكرار إلكتروني لما حدث قبل عشرين سنة: تجمّعات لمثقفين وسياسيين ومناضلين سابقين يشكّلون أندية سياسية – ثقافية منفصلة عن الواقع، لتزجية الوقت.
هنالك حقيقة قد لا يحبّها السوريون، أن لدى معظمنا نياتٌ حسنة: نصوّت أحيانا، ونوقّع عريضة أحيانا أو نحضر تجمعا، ولكننا نتعامل مع السياسة، بشكل أساسي، مستهلكين لها، لا منتجين، فكأنها ترفيه أو هواية. نتابع الأخبار بقلق شديد ونشتكي من معارضة أصدقائنا أو أزواجنا لنا. نحن نغرّد وننشر على “فيسبوك”، ونشارك المنشورات والتغريدات ومقاطع الفيديو، غير أن الساعات التي نقضيها في السياسة تستخدم بشكل أساسي للتسلية، وليس لتغيير الحال الواقع.
في كتابه الممتع “السياسة هدفها السلطة” (Politics Is for Power)، يقدّم الباحث السياسي وأستاذ العلوم السياسية في جامعة تافتس، إيتان هيرش (ُEitan Hersh) دليلا مقْنعا على أننا إذا اعتبرنا أنفسنا سياسيين، ينبغي أن نقضي العدد نفسه من الساعات في بناء المنظّمات السياسية وتنفيذ رؤية طويلة الأجل لمجتمعاتنا المحلية، والتعرّف على جيراننا الذين ستكون أصواتهم مطلوبةً من أجل حل المشكلات الصعبة، وبذلك يمكن أن نراكم القوة بحيث، نتمكّن، عندما تحين الفرصة لإحداث فرق، من فعل المناصرة بمعناها الحقيقي والتعبئة وممارسة الضغط السياسي المناسب.
يعتقد هيرش أن الطريقة التي يمارس بها الناس السياسة تشبه، إلى حد كبير، الهواية أكثر مما هي السياسة حقّا، والتي هي “الوصول إلى السلطة”، مضيفا أن هؤلاء لا يقومون بأي فعل سياسي في الواقع، ويكتفون من السياسة بمتابعة الأخبار على المحطات الإخبارية ووسائل التواصل الاجتماعي، حيث ينجذب الناس إلى قصص الفضائح أكثر من المناقشات الجادّة في السياسة أو حتى ما يحدث في أحيائنا. ولا بدّ من المسارعة في توضيح أن الوصول إلى السلطة لا يعني الانقلاب أو العنف، وإنما الإقناع والعمل اليومي الدؤوب.
باختصار، ثمّة مفارقة حول شغفنا بالسياسة: نحن نعرف الآن ما يحيط بنا أكثر من أي وقت مضى بالتأكيد، لكن الكثير منا أيضا صار أقل نشاطا بالمعنى السياسي للكلمة.
العربي الجديد