العلاقات الإيرانية – الروسية خلال الأزمة السورية/ رنا باروت
أكثر من علاقة براغماتية وأقل من تحالف استراتيجي
مقدمة
تأثرت سورية بموجة الاحتجاجات الواسعة التي عمّت أكثر من بلد عربي، وعُرفت يومئذ بـ “ثورات الربيع العربي”. واندلعت أحداث الثورة السورية في آذار/ مارس 2011 في هذا السياق، نتاجًا لعوامل معقدة ومتراكمة، كان من أبرزها الظروف الاستثنائية التي أُخضع لها الشعب السوري خلال سنين طوال تحت وطأة حالة الطوارئ التي أعلنها النظام السوري منذ انقلاب 8 آذار/ مارس 1963، واستغلّها في اختراق المجتمع على نحو غير مسبوق، وفرض عملية أمننة شاملة ورقابة داخلية مشدّدة على قطاعات الحياة الاقتصادية – الاجتماعية وأنشطتها كلها. وبدأت في آذار/ مارس 2011 حركات احتجاجية مدنية سلمية عدة، انطلقت شراراتها الأولى من المحافظات الجنوبية، وفي مدينة درعا تحديدًا، ردًّا على الممارسات التعسّفية التي مارسها جهاز الأمن السياسي تجاه مجموعة أطفال اتُّهموا بتدوين عبارات عدائية على بعض جدران المدينة تتعلق بالرئيس بشار الأسد. وسرعان ما انتشرت الاحتجاجات في أرجاء سورية، لتشمل يومًا بعد يوم معظم المحافظات، فجاء رد الأجهزة الأمنية السورية من خلال حملة اعتقالات واسعة واستخدامٍ مكثف للعنف المفرط وإطلاق الرصاص الحي ضد المتظاهرين المدنيين السلميين، وتسليط ما عرف بـ “الشبّيحة” عليهم، وصولًا إلى التصفيات الجسدية في العديد من الحالات، ما دفع بعض المحتجين إلى حمل السلاح دفاعًا عن النفس، وكان معظمه في البداية من نوع بنادق الصيد الدفاعية الفعّالة التي تُستخدم في حماية المزارع من طراز “بومبكشن” Pump Action وخلافها.
استغلت هذه التطورات أطرافٌ عدة، لا ترغب في استمرار النظام، في عملية تسليحٍ ممنهجة وشاملة، نتج منها تطور الأحداث بشكل دراماتيكي، وتحوُّل الثورة إلى صراع دموي وحرب بالوكالة لمصلحة أطراف دوليين وإقليميين، قدّموا الدعم السياسي والعسكري إلى الأطراف المتصارعة، سواء أكانت نظامًا أم فصائل معارضة، سعيًا منها لضمان حصة في “الغنيمة” الجيوسياسية السورية المرتقبة، فضلًا عن ظهور ميليشيات غير نظامية وتنظيمات إسلاموية عابرة للحدود، دخلت ميدان الصراع بقوة وصار لها وجود راسخ في سورية، ما أدّى إلى تعقيد الوضع الأمني. فقد استولت جبهة النصرة، الفرع السوري لتنظيم القاعدة، على العديد من المناطق وانتشرت من الجنوب إلى الشمال على مستوى قطري؛ فضلًا عن فصائل أخرى اقتصر انتشارها على مستوى محلي. ثم برز تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش” وفرض سيطرته، بعد سقوط الموصل في العراق، على محافظتَي الرقة ودير الزور، مع محاولة التمدد نحو حلب. فتحوّل المشهد من كونه بداية صراع بين حكومة سلطوية وحركات شعبية مناهضة لها، إلى ساحة تنافس دولية على النفوذ والمصالح في الشرق الأوسط، تُخاض فيها الحرب بالوكالة عبر قوى محلية.
أدت ديناميات الأزمة السورية إلى نشوء تعاون عسكري سياسي مميز بين روسيا وإيران، وعلى الرغم من الاختلافات والتباينات والتعارضات التاريخية والمعاصرة بينهما، فإنها لم تقف عائقًا جدّيًا أمام تحقيق أهدافهما المشتركة على الأراضي السورية، المتمثلة في إبقاء الأسد على رأس السلطة، وإنقاذ مؤسسات الدولة في ما بقي لها من أراضٍ عبر التدخل العسكري المباشر، وإحراز أعلى نفوذ في سورية.
تحوّل الدعم الإيراني للنظام بالمال ونُظم الاتصالات والمشورة العسكرية والتسهيلات التجارية، إلى تدخل عسكري مباشر في عام 2014. وراوحت التقديرات حول عدد القوات الإيرانية المقاتلة بالفعل في سورية بين 2000 و2500 مقاتل إيراني، بينما قُدّر العدد الإجمالي للقوات الإيرانية والميليشيات الشيعية الأجنبية والمحلية السورية بنحو 80 ألف رجل، ما يعني أن عدد القوات الإيرانية النظامية كان محدودًا بالنسبة إلى العدد الميليشياوي العام الذي نظّمته[1]. لكن هذا التدخل لم يكن كافيًا لمنع المعارضة المسلحة من محاصرة النظام من الجهات كلها، وتعرّضه ومؤسساته لخطر الانهيار في عام 2015 وبروز احتمال تغلغل المعارضة داخل العاصمة دمشق نفسها، ليطلب الأسد رسميًا من روسيا مساندته عسكريًا، بعد مساندته سياسيًا في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، إلى جانب الصين، باستخدام حق النقض (الفيتو) والوقوف حائلًا دون تنفيذ الولايات المتحدة ضربات عسكرية جراء استخدام النظام الأسلحة الكيماوية، خصوصًا مع قبوله إخضاع منشآته لمراقبة منظمة حظر الأسلحة الكيماوية OPCW[2]. وجاء طلب النظام هذا بعد اندلاع الأزمة الأوكرانية في عام 2014 وانبعاث شبح حرب باردة جديدة بين روسيا والغرب، وتنامي رغبة روسيا في الضغط على الغرب لرفع العقوبات الاقتصادية التي فرضها عليها نتيجة تلك الأزمة، وإرغامه على التسليم بضم شبه جزيرة القرم الاستراتيجية بالنسبة إلى الأمن القومي الروسي، وهي المنطقة التي تربط قاعدة الأسطول الروسي في سيفاستوبول في البحر الأسود بالبحر المتوسط عبر مضيقي البوسفور والدردنيل، وصولًا إلى طرطوس على الساحل السوري. وهكذا، أصبحت روسيا، من خلال تدخّلها في سورية، لاعبًا لا بد للغرب من أن يعترف بدوره ومصالحه[3]. فتمكّنت بفضل قوتها العسكرية، لا سيما السلاح الجوي، من جعل الكفة ترجح لمصلحة النظام مرة أخرى وتقليص قدرات قوات المعارضة المسلحة على تهديد النظام، بل إرغامها على التراجع في مدن ومساحات واسعة سبق أن استولت عليها.
يركز هذا البحث على دراسة آثار الأزمة السورية في العلاقات الإيرانية – الروسية. فعلى الرغم من اتفاق الطرفين (إيران وروسيا) على ضرورة الحفاظ على النظام ومؤسساته وإضعاف النفوذ الغربي، خصوصًا الأميركي، على الأراضي السورية وفي المنطقة بشكل عام، ومدى انعكاس ذلك على التدخل العسكري المباشر لكليهما، فإن التعارض بينهما في الرؤى والطموحات والاستراتيجيات بدا واضحًا، إضافة إلى كونهما ليسا في النهاية حليفين استراتيجيين، وأنهما اختلفا في مسألة تحديد مستقبل سورية؛ إذ تفضل روسيا التعامل مع حكومة علمانية، مؤسساتها موحدة ومستقرة ذات شرعية كاملة، أما إيران فترى أن خلق تشكيلات سورية عقائدية أو شبه عقائدية ميليشياوية موالية لها مباشرةً، على غرار حزب الله في لبنان وحركة أنصار الله الحوثية في اليمن، يمثّل فرصةً لتعزز نفوذها في سورية، وفي المنطقة برمّتها، وتستكمل ما يراه البعض “هلالها الشيعي”. من هنا، يسعى هذا البحث لمناقشة المشكلات التي اعترضت تحوّل العلاقات الإيرانية – الروسية إلى تحالف بينهما في أثناء مرحلة التدخل العسكري المباشر في سورية، مسترشدًا بافتراضات المقاربة الواقعية الكلاسيكية الجديدة Neoclassical Realism المعنية بتفسير السياسات الخارجية للدول في فترة زمنية محددة، والتي سنوضح عبرها: إلى أي مدى تتقارب النظرتان الإيرانية والروسية في المكانة الدولية والقوة والسياسة الخارجية بشكل عام، وفي سورية بشكل خاص؟ وأين تلتقي مصالحهما؟ وفيم تكمن اختلافاتهما؟ وما السيناريوهات الممكنة لمستقبل العلاقات بينهما؟
يعمل هذا البحث على عرض العلاقات الإيرانية – الروسية بشكل عام خلال فترات زمنية مختلفة، حيث يهتم المحور الأول بعرض العلاقات التاريخية بين إيران وروسيا الممتدة من فترة الحكم الصفوي في أوائل القرن السادس عشر إلى حين قيام الثورة الإسلامية في إيران (1979) وانعكاساتها على العلاقة بروسيا وبالغرب. في حين يركز المحور الثاني على عرض التقارب الذي نشأ بينهما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وآثاره. أما المحور الثالث فيتناول التقارب الإيراني – الروسي خلال الأزمة السورية، عبر عرض نوعية العلاقة التاريخية التي جمعت كل منهما بسورية ونظام الأسد، وبحث الاستراتيجيات والسياسات التي اتّبعتها إيران وروسيا خلال الأزمة السورية، وكيف تلاقت في بعض النقاط وتعارضت في بعضها الآخر، إضافة إلى بحث مدى إمكان نشوء نوع من التحالف بين الطرفين في المستقبل.
يذهب نادر أسكوي إلى أن عدد قوات الحرس الثوري الإيراني قارب 2000 رجل، لكن تشير التقارير الإسرائيلية المبنية على معلومات استخبارية إلى أن عدد مقاتلي الحرس الثوري الإيراني في سورية بلغ نحو 2500 مقاتل، وأنه جرى تقليص عددهم مع الوقت لتخفيف حدة الانتقادات الداخلية في إيران على التدخل المباشر في سورية، ومن ثم فإن الوجود الإيراني الحقيقي في سورية يجري عبر ميليشيات أجنبية شيعية مثل (حزب الله الذي بلغ عدد مقاتليه نحو 8000 مقاتل، أي ما يعادل 40 في المئة من مجمل القوى الناشطة لديه، ولواء أبو الفضل عباس، ولواء زينبيون، ولواء فاطميون)، وعبر ميليشيات محلية سورية مثل (قوات الجعفرية، وقوات الرضا، وقوات الغالبون، ولواء المختار الثقفي)، وأنفقت إيران سنويًا على تكلفة تمويل هذه الميليشيات نحو 100 مليون دولار سنويًا، للمزيد ينظر:
[1] Nader Uskowi, “The Evolving Iranian Strategy in Syria: A Looming Conflict with Israel,” Issue Brief, Atlantic Council (September 2018), p. 2, accessed on 19/9/2021, at: https://rb.gy/uqiu3f
“Iranian Forces Deployed in Syria,” Israel Defence Forces, accessed on 19/9/2021, at: https://rb.gy/hwmb3c
[2] Anna Borshchevskaya, “Russia in Middle East: Motives, Consequences, Prospects,” Washington Institute for Near East Studies, 26/2/2016, accessed on 19/9/2021, at: https://rb.gy/rjcymx
[3] Robin Emmott & Phil Stewart, “Syria and Ukraine: Two Fronts in Russia Was for Influence,” Reuters, 1/10/2015, accessed on 19/9/2021, at: https://rb.gy/byyfhg
باحثة سورية. برنامج الدراسات الأمنية النقدية، معهد الدوحة للدراسات العليا.
لقراءة البحث كاملا