الناس

سوريا تستورد القطن… وكل شيء!/ كمال شاهين

انهيار انتاج القطن في سوريا

لا تتحمل الحرب لوحدها وزر الأضرار التي أصابت قطاع الزراعة السوري بالتحديد. ولهذا الإقرار عشرات اﻷدلة التي تشير إلى أنّ حكومة دمشق، تمارس سياسات بعيدة عن منطق “إدارة الدولة” خلال زمن اﻷزمة المستمرة منذ عشر سنوات.

الزراعة الوفيرة

كانت سوريا حتى منتصف العقد الماضي (2015) – وبفضل سنوات طويلة من التنمية الزراعية في العقود الفائتة، شملت كل المناطق القابلة للاستثمار الزراعي، البالغة ربع مساحة البلاد (23 في المئة منها) – تنتج تقريباً كامل حاجاتها الزراعية، سواء تلك المتعلقة بالاستهلاك البشري المباشر من خضار وفواكه وزيوت، أو تلك المتعلقة بالصناعات الاستراتيجية المرتبطة بشكل مباشر بالقطاع الزراعي، أي القطن وزيت الزيتون والشمندر السكري والقمح.

مع دخول البلاد العقد اﻷول من القرن الحالي، وسط تغييرات في هيكليّة الاقتصاد السوري، نفّذتها الحكومة استجابة لطلبات البنك الدولي بدون أن تعلن ذلك بشكل رسمي، تغيّرت أولويات الخطط الاقتصادية بشكل تدريجي وضمني، من سياسة الاكتفاء الذاتي إلى سياسة تعتمد على الاستيراد. ولتنفيذ ذلك، فقد بدأت مشاكل القطاع الزراعي، من توفير البذور والأسمدة والرعاية الحكومية وغيرها تتصاعد بشكل تدريجي.

بدأ دعم الحكومة للقطاع الزراعي بالتراجع مطلع العقد الثاني من القرن الجديد، فارتفعت فجأة أسعار اﻷسمدة اللازمة للزراعة من قبيل سماد (اليوريا) واﻷسمدة المغذية للقمح والزيتون المعروفة باسم (سماد 36) إلى الضعفين، علماً أن إنتاج هذه الأسمدة كان يقوم به “معمل حمص للأسمدة”، الذي فرّطت به الحكومة السورية وسلّمته للقطاع الخاص الروسي منتصف العام 2018. وبذلك لم تعد سوريا منتجة ﻷي نوع من اﻷسمدة، وبدأت عمليات الاستيراد عبر بعض الشخصيات من التجار المعروفين بارتباطهم بالحكومة.

دفع هذا الاجراء – الذي أعلنت الحكومة أن سببه هو ارتفاع أسعار المواد اﻷولية المستوردة اللازمة لصناعة اﻷسمدة – العديد من المزارعين للاحتجاج على القرار… دون نتيجة تذكر، ليبدأ بعدها مسلسل الهجرة من الاستثمار في اﻷراضي الزراعية على مستوى المزارعين والفلاحين وصولاً إلى هجرة أقل الناس امتلاكاً للحيازات الزراعية.

لم يكن هذا التبرير مقنعاً لتفسير الهجرة الكبيرة من القطاع الزراعي الذي يشكل أكثر من 60 في المئة من واردات الميزانية العامة للبلاد. بل أضيف اليه طريقة إدارة هذا القطاع نفسه والتضييق عليه بالتدريج في سياسة التسعير واستلام المنتج، كما تسبب الحضور العسكري في العديد من هذه المناطق، في التعدي المستمر على الملكيات الزراعية، مما جعل مئات العائلات خارج إمكانية استخدام أراضيها، أو أن تكون مجبرة لو أتيح لها ذلك، على شراكات تعسفية مع جهات عسكرية تدخل ضمن منظومات فساد قسرية.

إنتاج الشمندر السكري نموذجاً

خلال سنوات الحرب العشرة، تغيّرت بشكل كبير ظروف زراعة هذا المنتج الذي صنفته الحكومة السورية محصولاً استراتيجياً على مدار أكثر من أربعة عقود. ويعود ذلك إلى وقوع جزء كبير من مناطق زراعة هذا المنتج في المناطق “الساخنة”، ومنها على سبيل المثال، مناطق سهل الغاب (بين حماة وحمص وإدلب) وهي المناطق اﻷكثر زراعة لهذا المحصول مع مناطق ريف حلب الشمالي والغربي.

ذكرت أرقام وزارة الزراعة العام 2017 أن إنتاج أراضي زراعة الشمندر السكري في سهل الغاب (حماة وحمص) تراجع من 1.4 مليون طن في العام 2011 إلى 12 ألف طن في العام 2017، في الوقت الذي صادقت فيه وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك في العام نفسه على إنشاء شركة “مينا للسكر الكريستال” لرجل اﻷعمال السوري سامر الفوز. ويحق لهذه الشركة استيراد وتصدير السكر الخام والمواد واﻵلات اللازمة لصناعته وتعبئته، بما في ذلك إنشاء معامل للسكر، في وقت توقفت عن اﻹنتاج غالبية معامل السكر الحكومية التي تستخدم الشمندر السكري، وعددها ستة، تتوزع على الرقة وحمص ومدينة الثورة وحلب.

أدّت العمليات العسكرية وتعرّض الحقول والمساحات الزراعية إلى القصف وسقوط القذائف فيها، إلى ترك هذه المساحات الشاسعة، وتبع ذلك عدم قدرة المزارعين على الوصول إلى حقولهم بسبب احتمال وجود ألغام مضادة للأفراد. وهذه سقط بسببها عشرات اﻷشخاص بين قتيل وجريح.

تزامنت العمليات العسكرية مع انتشار واسع لعمليات سرقة مضخات المياه وشبكات الري، وخروج كثير منها من الخدمة الفعلية بعد انقطاع المياه عنها، وخاصة في مناطق سرير نهر الفرات، ونهر العاصي، وكذلك في المناطق الشمالية الشرقية في الجزيرة السورية.

مع نزوح السكان عن المناطق الزراعية، نزحت بالضرورة اليد العاملة إلى مناطق آمنة، وهذا تسبب في توقف كبير لشركات إنتاج السكر، في حمص وحلب وريف دمشق، واستمر معمل سكر مدينة سلحب (محافظة حماة) بسبب وقوعه ضمن منطقة آمنة نسبياً ، ولم يمنع هذا تعرض المعمل للعديد من القذائف تسببت في تعطيله لفترات جزئية. ومؤخراً قالت الحكومة السورية إن المعمل سيعود إلى اﻹنتاج عند انتهاء حصاد محصول الشمندر في سهل الغاب بعد استعادة المنطقة جزئياً لأمانها.

حصل ذلك بالتزامن مع عدم توفر مستلزمات الإنتاج في الوقت المناسب (بذار ـ يد عاملة ـ أسمدة ـ مازوت) ﻷسباب متعددة، منها توقف الدولة عن دعم هذه العناصر الاستراتيجية، مع توافرها في السوق السوداء بأسعار مضاعفة عشرات المرات. على سبيل المثال فإن سعر كيس السماد العضوي المستورد من الصين وصل إلى أكثر من 40 ألف ل.س (15 دولار) وأما كيس السماد الكيماوي اللازم لتسميد الشندر وغيره فقد وصل إلى 120 ألف. ل.س (45 دولار) مما لا يجعلها في مقدور كثير من المزارعين، ويتم بيعها عبر الجمعيات التعاونية للفلاحين بشكل مباشر، ولكن قلة هم القادرون على شرائها.

أُضيف إلى ما سبق، ارتفاع في أسعار الكهرباء، ولحقه بشكل أهم، استبعاد دعم محصول الشمندر من التمويل بقروض عبر الدولة، ثمّ انخفاض تسعيرته في شركات السكر، حيث بلغت تسعيرة الطن الواحد في موسم 2018 (175 ألف ليرة) إذا كانت درجة الحلاوة 16 في المئة، وترتفع تسعيرة الطن بمعدل 250 ليرة لكل درجة حلاوة.

 وأخيراً تحول إنتاج الشمندر اعتباراً من موسم 2014 إلى مؤسسة الأعلاف لانخفاض الكمية الموردة للمعامل، وبالتالي قصر مدة الدورة التصنيعية وكلما قصرت مدة الدورة التصنيعية تزداد تكلفة تصنيع كيلو السكر.

في الخلاصة، فإنّ الحكومة والظروف المرافقة حولت هذا المحصول إلى عبء حقيقي على العاملين في قطاع إنتاجه. وفي ظل سعي السلطات للتخفف من أعباء الخدمة الزراعية، فقد طلبت الحكومة السابقة برئاسة المهندس عماد خميس في تموز/ يوليو 2019 من الوزارات التابعة لها والمؤسسات المرتبطة، اتخاذ قرار نهائي بشأن المحصول، فإما استبداله بمحصول آخر، وإما اﻹبقاء عليه والقيام بمراجعة كاملة لدعمه والاستمرار في تصنيعه. وهذا العام، على ما يظهر، فإنّ الحل ارتكز فقط على دعم زراعة المحصول في منطقة سهل الغاب وتوسيع المساحات المزروعة حتى حدود 45 ألف هكتار، وهو ما لا يغطي سوى جزء بسيط من احتياجات البلاد من مادة السكر، حتى بافتراض صلاحية الشمندر المنتج بالكامل للإنتاج الصناعي.

القطن، مأساة أخرى متوسعة

يمثل التعامل مع القطن والمواد الناتجة عن صناعته، مثل الخيوط، نموذجاً آخراً لكيفية التعامل الحكومي مع محصول استراتيجي آخر من محاصيل سوريا. فبعد أن كانت البلاد تعاني فعلياً من وجود فائض كبير في زراعة المادة ومنتجاتها من خيوط وأقمشة وغيرها، أعلنت الحكومة السورية في تموز / يوليو الماضي 2021، عن السماح باستيراد مادة القطن المحلوج للقطاع العام والصناعيين فقط، وفق طاقتهم الإنتاجية الفعلية لمدة ستة أشهر، مع السماح للصناعيين باستيراد مادة الخيوط القطنية بكمية /5000/ طن.

اتهم صناعيون سوريون الحكومة، بعد هذا القرار، بأنها تتعمد قتل الزراعة والصناعة السورية، وأعلن أحد الصناعيين السوريين (رياض طيفور، وهو من كبار تجار القطن والخيوط في سوريا) الحداد لمدة ثلاثة أيام، قائلاً هذا أسوأ خبر أسمعه منذ بداية اﻷزمة، كما تحدّى الحكومة قائلاً: “سلّموني ملف القطن وإن لم تعد سوريا للتصدير لن اقبل بعقاب أقل من الإعدام”.

كان المحصول السوري من القطن قد تجاوز في ذروة إنتاجه خريف العام 2012 حائط 1082 ألف طن، بفضل توليفة طويلة اﻷمد بين التيلات المحلية ونظيرتها المصرية والهندية. إلا أنّ إنتاج موسم خريف العام 2020 لم يتجاوز 14 ألف طن، أي بنزيف اقترب من نسبة 100 في المئة، للمرة اﻷولى في تاريخ البلاد التي تزرع القطن منذ اﻷلفية الثانية قبل الميلاد.

وفي حين أنه كان مطلوباً من الحكومة استعادة الفلاحين إلى أراضيهم ودفعهم عبر حوافز استثمارية معينة إلى زراعة المساحات العاطلة عن اﻹنتاج، وأغلبيتها يقع في مناطق الجزيرة السورية ـ التي دخلت سلطة “اﻹدارة الذاتية” فيها وسيطاً مع الحكومة المركزية لبيعها القطن في السنوات السابقة ـ فإنّ الحكومة فتحت سيناريو استيراد القطن والخيوط، وهو أمر سوف يؤدي خلال الستة أشهر التي وافقت فيها على استيراد القطن إلى استنزاف القطع الأجنبي بطريقة غير مسبوقة، توازي قيمتها متوسط قيمة موسم كامل من زراعة القطن. كما ستغرق الاسواق بالقطن وستنافس الفلاح وسيهجر أرضه بحثاً عن مادة زراعية أخرى وفق تعبير الصناعي السابق.

النتائج السريعة لهذا القرار لا تقتصر فقط على القطاع الزراعي، وهو لن يكون على الأرجح لمرة واحدة، ولكن سيصل التأثير إلى شركات القطاع العام والخاص النسيجي، وجزء كبير من شركات ذلك القطاع إما متوقفة عن العمل أو تعمل بشكل جزئي، سواء بسبب ارتفاع تكاليف التشغيل والمواد المنتجة من الخيوط واﻷقمشة، أو لخروج سوريا عن السعر العالمي المنافس للخيوط، وهذا يعني ببساطة انخفاض الصادرات، وبالتدريج توقف العديد من المعامل النسيجية لعدم القدرة على المنافسة.

أين مكمن العطب؟

توضح هذه السياسات الرسمية كيفية التعامل مع مشاكل استراتيجية بشكل آني بينما هي تحتاج إلى حلول ليست إسعافية فحسب. فمع استعصاء الحل السياسي، واستمرار البلاد في حالة الشلل الناجم عن انقسام الجغرافيات السورية، وتضارب مصالح اﻹدارات الممثلة لكل من هذه الجغرافيات، والغياب شبه التام للتنسيق والتعاون فيما بينها نتيجة لاختلاف المصالح اﻹقليمية بين تركيا والوﻻيات المتحدة وروسيا وإيران… مع كل هذا، فإنّ الوضع العام في سوريا، وليس فقط ذاك الزراعي، سوف يكون مصيره مزيداً من التصحر بالمعنى الفعلي للكلمة.

السياسات المتعلقة بالقمح ليست هي الأخرى بأحسن حال، فهناك تراجع كبير جداً في المساحات المزروعة في مناطق الجزيرة السورية ومناطق البلاد اﻷخرى، وهذا يعزز الاستيراد في وقت تتضاءل فيه الكميات المنتجة على الصعيد العالمي، ما يبشّر بأزمات متلاحقة، تعيش سوريا بعضاً منها في قطاع القمح اللازم لصناعة الخبز الذي تحوّل إلى إنتاج سيء مع استخدام أقماح مستوردة ذات نوعية رديئة.

الحلول الممكنة.. سياسية أم اقتصادية؟

لا تشكّل العقوبات الأميركية المفروضة على سوريا السبب الرئيس في جزء كبير من المشاكل التي تعيشها مختلف القطاعات الاقتصادية السورية، والزراعية أولها. فليس هناك على سبيل المثال عقوبات على استيراد البذار، ولا على المواد اﻷولية اللازمة لدعم اﻹنتاج الزراعي، بما فيها الأسمدة التي تخلّت الدولة تقريباً عن دعمها مالياً وحكومياً.

 وكان من الملفت هنا أنّ معمل الأسمدة الوحيد في سورية تم تأجيره أو بيعه لشركة روسية لا علاقة لها بإنتاج السماد الآزوتي، وهذا كان يعتمد على استخدام اﻹنتاج السوري من الفوسفات في مناطق تدمر وريف شرقي حمص. بمعنى آخر، كان جزءٌ من المواد اﻷولية يأتي من داخل البلاد. ولكن سياسة التنازلات للحلفاء اﻹيرانيين والروس، قادت إلى التخلي عن هذه العلامة الفارقة في الصناعة السورية بحجة أنها خاسرة.

السفير العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى