في رثاء الأمكنة/ سوسن جميل حسن
قرأت هذا الخبر في إحدى صفحات التواصل الاجتماعي: “انشقّت التوتة، وهوى نصفها ميتًا على الأرض”. كانت التعليقات تنهمر كالوابل على الصفحة متأثرة بالحدث، ومعلقة عليه. قد يبدو الأمر في منتهى السخف والخفة بالنسبة لكثيرين، فهي ليست أكثر من شجرة في الوقت الذي تلتهم فيه الحروب والكوارث الطبيعية الأرواح والأحياء والمدن وتسوّيها بالأرض، إن لم يكن تحتها، وتنهار أوطان وتقسم أخرى وتنشأ دول بديلة، لكنه أشعل في رأسي زوبعة من الأسئلة والمشاعر، فالتوتة كانت معلمًا مشهورًا في موقعها على ناصية شارع طويل اسمه شارع الجمهورية في مدينتي، اللاذقية. كنت لا أعرفها عندما انتقلت إلى بيتي في هذا الشارع في منتصف تسعينيات القرن الماضي، وأحتار عندما أستقل سيارة أجرة عندما يسألني السائق، وكل سائق أستقل سيارته: وين من التوتة؟ يربكني السؤال خاصة أمام علامات الدهشة التي تظهرها وجوههم من جهلي بها، إلى أن عرفت التوتة وتعرفت عليها، وكانت على مرمى عشرات الخطوات من بيتي الجديد فقط.
هي مجرد شجرة معمرة، تسكنها العصافير، وتفرد أغصانها الكثيفة على شكل خيمة استهوت أصحاب العربات ليقيموا مشاريعهم الاقتصادية تحتها، وفي أطراف فيئها كانت هناك دائمًا بسطة تبيع التبغ النظامي والمهرب والقهوة عالماشي. كانت هناك دائمًا عربة الفلافل، وقد زيّن صاحبها التوتة بحبال الإنارة الملونة، وعلّق على جذعها لمبات النيون الملونة أيضًا، فصارت تبدو كشجرة الميلاد التي تبهج النفوس، دائمة الوميض، لأن الكهرباء كانت متوفرة. بعد بياع الفلافل الذي راكم ثروته من تحت التوتة، وانتقل ليوسع مشروعه المختص بالفلافل، جاء بيّاع المشبّك والعوامة، الحلوى الشعبية التي يتنازل الغني ويأكلها مبررًا حبه لها بتنظير وطرافة عن التواضع، ويطلبها الفقير باعتبارها رفاهية في متناول اليد أحيانًا.
في أثناء إقامتي هناك، تسللت التوتة إلى وجداني مدفوعة بأمرين، أولهما أن ابنتي بعدما غادرت إلى ألمانيا للدراسة كانت تسألني عن بياع المشبك بكثير من الشوق والحنين، وعندما كانت تأتي في إجازة كانت تتردّد ورفيقاتها على عربته، وثانيهما أن بيّاع المشبك نفسه هجر موقعه لعدة أسابيع بعدما بدأت انتفاضة الشعب السوري، وتفشت الشائعات كالقنابل الصوتية، التي صارت تنفجر كل حين في بقعة مهملة، أو في مداخل بعض البنايات، ليدبّ الهلع في النفوس، ويلعنوا أولئك المندسّين من الإرهابيين الذين تسللوا بين المقيمين الآمنين متوعدين الطائفة الكريمة، ولقد كان بيّاع المشبك، الرجل العصامي ذو السحنة الطيبة اللافت بنظافته علمًا بأنه يحضر حلواه في عربة السوزوكي، يأتي بها كل يوم قبل المغرب بقليل، ويبدأ بتحضير أطباقه، كان من منطقة أخرى، وفعلت الشائعات ما فعلت في نفسه، فروّعه احتمال أن يتم الاعتداء عليه وهو الغريب عن الحي. لكنه عاد، وابتهجتُ يوم عودته في سرّي، وكنت أول المقبلين لشراء المشبّك والعوّامة احتفاء بعودته.
لكن، لماذا أسمع دوي انهيارها وسقوطها وأنا على هذا البعد، حيث أقيم في برلين، وهو يهز أركاني فيرتجف قلبي ويستبد بي بكاء أخرس، أتأمل وفرة الشجر في هذه المدينة من شرفتي، حيث أجلس وأشرب قهوتي العربية؟ هل هي موجةٌ عاصفةٌ من النوستالجيا، بالرغم من أن حنيني لم يعد كما الماضي، عندما ذهبت في النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضي أيضًا إلى أبو ظبي، وأقمت فيها لثلاث سنوات، كان الحنين يأكلني، بالرغم من أنني في بلد عربي، وكنت أسجل دورًا لي في مكتب البريد والاتصالات، وأنتظر لساعات إلى حين يناديني الصوت لأتوجه إلى كابين الهاتف كي يتم اتصالي بأهلي في سورية، وأهرع بلهفة إلى استلام رسائلي المسجلة من هناك، أو أرسل ردودي؟ لماذا تتوهج التوتة في بالي كما لو كانت شعلة تقاوم الانطفاء؟
المكان
أميل إلى المفهوم الاصطلاحي للمكان أكثر من مفهومه اللغوي، فيه ألاقي تفسيرًا لما أحدثه في وجداني سقوط التوتة، فالمكان بالنسبة لعلم الهندسة هو وسط غير محدود يحتوي على أشياء، وله أبعاد ثلاثة، طول وعرض وارتفاع، فهو حيز فراغي إذن، بهويته الأولى التي سوف تتغيّر أو تزداد عناصرها بالأشياء، وهذا ما ميّز الجغرافيين الذين ركزوا على المكان من خلال محتوياته، وأطلقوا مصطلح البيئة الجغرافية، لكن ما الذي يهمني اليوم من التوتة، ولماذا تحضرني وجوه السائقين وهم يستنكرون جهلي بها؟ ولماذا هذا السيل من الحزن والتفجّع على التوتة من روّاد الصفحة؟ هل لأنّ المكان هو جغرافية مسكونة بالتاريخ؟ أم لما راكموا من أفعال ومواقف وسلوكيات ومواعيد في ذلك المكان، فصار بالنسبة إليهم امتدادًا للجسد، كما يبرر علم الاجتماع؟ أم هو واقع نفسي بالنسبة للإنسان أكثر منه واقع مجرد، لأن الصفات الموضوعية للمكان ليست إلا وسيلة قياسية تسهل التعامل في ما بينه وبين الآخرين في حياتهم اليومية، كما يشرحه علماء النفس؟ ولماذا يستقطب هذا الحجم الواسع من اهتمام الأدباء؟ وكم يضمر من المشاعر والذاكرة حتى صار الوقوف على الأطلال هوس شعرائنا القدامى، يستدر دموعهم كلما شعروا في حاجة إلى البكاء، حتى سخر منهم أبو نواس: “قل لمن يبكي على رسم درس/ واقفًا ما ضر لو كان جلس”.
المكان المراوغ، اصطلاحيًا، شغل الفلاسفة منذ أفلاطون إلى الفلاسفة العرب، من ابن سينا والكندي والفارابي وإخوان الصفا إلى أبو بكر الرازي إلى ابن الهيثم إلى ابن رشد، وكانت تعريفاتهم ومفاهيمهم عن المكان تتراوح بين اتفاق واختلاف.
ما المكان من دوننا؟
يقول الشاعر شربل داغر في قصيدته “القصيدة تتذكّر أكثر مني”: “الأخيلة التي تتراءى لي في غبش النهار، والهسهسات التي تبلغني من كثيف السنديانة العتيقة، قرب شرفة بيتي، وحفيف الورق في شجر نهايات الصيف، ليست نثرًا إذاعيًا، ولا اصطفاق العناصر في هبوبها… هي بعض ما أسمعه، وأراه وأتلمّسه، مما أقيم فيه، من دون أن يكون لي، ما دام أنني أتيت بعدها إلى مطارحي، وأنها قد تتذكّرني بعد مغادرتي لها”. فهل كان لهذا المشهد الحسّي، البصري السمعي الشمّي اللمسي، أن ينوجد وأن يلعب بالمزاج ويثير التأمل والمعاني لولا أن شاعرًا يتأمل في كل هذا؟ وهذا الموجود، المكان، هل سيكون ما بعد التجربة نفسه ما كان قبلها؟ نحن نصنع هوية المكان بما نحمّله ونؤسّس فيه ليصبح لاحقًا جزءًا من هويتنا، نتعالق معه بخيوط متينة تسمى الذاكرة، كما أننا لا نمتلك المكان، نحن بمثابة مستأجر له، نؤسّسه بما نرغب ونريد، من أجسام ومشاعر وعلاقات وأفكار، لكننا لا نستطيع حمله معنا إذا ما فكرنا في الانتقال، نحن نحمل ذاكرتنا عنه، تاريخنا المتحقق فيه، مثلما هو موجود قبلنا على رأي الشاعر.
هزني سقوط التوتة، أدركت لحظتي الراهنة وعلاقتي بالزمن وبالمكان، أنا المشبوحة بين هنا وهناك، أسائل نفسي عن معنى القطيعة وجدواها، بل عن معنى أن تتأسس ذاكرتي في أمكنة كانت تمعن في تهاويها نحو البشاعة، شوارع وبيوت وساحات وأحياء وأبنية وكل شيء قبيح إذا ما قورن بما يجب أن يكون عليه، إذا ما قارناه بملامح الأمكنة الأخرى التي ارتبطت بالإنسان وارتبط بها، ومع هذا ترسخت في أعماقنا وحملناها وشمًا يلعب بأرواحنا، ذاكرة لها طعم ورائحة وألوان وحرارة، كائن حي يسكننا ويمد أصابعه الخفيفة إلى مكامن الألغاز في أعماقنا فيحركّها من دون أن نعدّ لألعابه القوة.
القطيعة الجبرية مع المكان
من البكائيات على التوتة كانت تشفُّ الكوميديا السوداء والسخرية المرة على الوضع الذي انحدر إليه السوريون، قال أحدهم: حتى الشجر عم يموت ع كتر ما في ناس بتوقف تحتها مليانة هموم وتعب، لهيك انكسرت من القهر ومو رضيانة تبقى بالبلد. وقال آخر: كانت الدافع الوحيد للبقاء في البلد. أما في ما يتعلق بالذكريات فعلّق أحدهم: الله على أيام العزوبية، كانت التوتة علامة بيني وبين رفقاتي ينتظروني عند التوتة. أما السخرية المريرة فكانت: المغتربين غيّروا رأيهم وبطلوا يرجعوا لأنه أملهم الوحيد (انكسر). فماذا بالنسبة لمن اقتلعتهم الحرب من بيوتهم، لمن قصفتهم البراميل من سماء مأمنهم، فألفوا أنفسهم هائمين طافرين في بقاع الأرض، تاركين أجزاء من أرواحهم، ممن دفنوهم أو دفنوا تحت الأنقاض، جثثًا كاملة أو بعضًا منها؟ ماذا عن الذاكرة والهوية والمستقبل عندما تقع هذه القطيعة الفاجعة؟ ماذا عن هؤلاء السوريين المشتتين في الأصقاع لو فكروا بالعودة، أو أجبروا عليها، هل يكفي الوقوف على الأطلال؟ وهل بقي أطلال ليقفوا عليها؟ أماكنهم بدّدتها الرياح بعد أن حولتها القذائف إلى ركام وأغبرة، أماكنهم الأخرى سطا عليها غرباء استباحوا ذاكرتها وطمسوا بصماتِ من غادروها، فكيف ستكون لهم بدايات مع أمكنة جديدة بعد هذه المساحة المقتطعة من أعمارهم، و”العمرُ أكثره قليل”؟
كيف سيستدلُّ عائدٌ إلى حارته على بيته إذا لم يجد لا بيتَ الجيران، ولا فرنَ الحارة، ولا سورَ مدرسة، ولا ما يُبقي على نذر من ذاكرة المكان؟ المكان لا يتحقق من دون ما نترك فوقه من أرواحنا، نحن نعطيه المعنى، من منا لم تلامس روحه وتستدرّ دموعه أغنية الأماكن لمحمد عبده؟ الأماكن كلها مشتاقة لك. من منا لم يلجأ إليها ليتذكر حبيبًا غاب، أو هجر؟ ومن لم يهرب من ذاكرتها الحارقة عندما يكتشف أنها الشاهد الوحيد على خيبته، أو ارتكابه؟
ما ينطبع على جدران اللاوعي في غرفه المظلمة من صور ومشاعر وأحاسيس تتراكم منذ الطفولة، هو نواة الوطن بلا تفلسف ولا تنظير، كما البئر في شعر محمود درويش: “عم مساء وسلّم على بئرنا، وعلى جهة التين، وامشِ الهوينى على ظلنا في حقول الشعير، وسلّم على سرونا”. وما يبنى في الطفولة يمتلك أقوى الأساسات وأرسخها، فما هو الوطن بالنسبة لأطفال سورية الذين راكمت ذاكرتهم صورًا من تغريبتهم الطويلة، وعندما استقروا في أماكنهم البعيدة بدأت تتراكم لديهم صور مغايرة، من قلب واقع مختلف وتتشكل ذاكرة أخرى، بينما يحاول الأهل، كشأن كل من سبقهم من المهجّرين من فلسطين ولبنان والعراق، رسمَ صورة متخيّلة عن وطن بعيد، عن حارة وبيت وشارع ومدرسة وساحة لعب وغيرها، مثلما لو كانت حكايا من غابر الأزمان، أو من كيس ساحر.
هنالك من غادروا وأسّسوا لحياتهم باكرًا على فكرة وطن بديل، وحلّت بالتدريج صورة البلاد الجديدة محلّ القديمة في خلدهم، تأقلموا واندمجوا وأنجبوا، تركوا لأطفالهم أن يبنوا وطنًا في خلدهم في أمكنتهم ، لكن ماذا عن أولئك الذين ما زالوا يعيشون في المؤقت، في ذلك الحيّز الرجراج بين وطن بديل لم يقطع معهم وعدًا بأنه سيفتح لهم سجلاته وقيوده، بل أقصى ما يمكن تقديمه واجب الضيافة، وآخر صار في ذمّة الماضي وصدى الحرب، تُقضم سنوات أعمارهم القصيرة، يقتربون من نهاية دروبهم بين وطن أوغل في الابتعاد، وأمكنة تترفع عن أن تصبح وطنًا، فيضيقون بذاكرتهم التي تتراكم فوق أرواحهم من دون أن تلاقي مرافئ ترسو على أرصفتها وتفضي حمولتها من قلق وجودي يضاف إلى أحزانهم ونسيس أرواحهم التي تنهشها الهجرة وتحاصرها صفة لاجئ.
سوف تموت التوتة، ولقد قرر أولو الأمر القائمون على حراسة معايير القبح قطع ما تبقى منها، وستترك اسمها فوق حجارة المكان، سيبقى اسمه موقف التوتة، لكن ماذا عن مدن سورية وأحيائها التي دمرت؟ هل سيبقى اسمها؟ بل هل ستبقى سورية هي سورية؟ إنه المكان الذي من دونه لا نكون.
ضفة ثالثة