في سوريا فقط.. مَنْ أمِنَ العقاب أساء الأدب/ عبير نصر
“بعد أن أوهمها بتهريبها إلى ألمانيا شاب يقتل فتاة في اللاذقية.. اقتحام بيت امرأة سبعينية تعيش وحدها في دمشق ثم قتلها وحرقها بعد سرقة مصاغها وأموالها.. في جريمة مروّعة سوريٌّ يعلن انتحاره وقتل بناته على فيسبوك.. مصرع شخصين وإصابة 11 آخرين بانفجار قنبلة أمام القصر العدلي في طرطوس.. طبيب يقيم في اللاذقية يكشف عن سرقة أعضاء شبان متوفين في مشافي طرطوس واللاذقية.. رجل في إحدى قرى اللاذقية قام بإطلاق النار على أخيه وأخت زوجته ثم أطلق النار على نفسه أمام جموع الأهالي ورجال الأمن…الخ “.
هذه العناوين ليست “حملة دعاية” تسوّق لأشهر “أفلام الرعب” في دور السينما، على الإطلاق، هي أخبار تتردد كلّ يوم في مناطق سيطرة النظام، لتدخل السوريين في دوامةٍ من الهلع والحذر والانكفاء، خاصة في ظلّ انتشار السلاح بأيدي ميليشيات مكوّنها الأساسي قتلة وتجار مخدرات أُفرج عنهم مبكراً بمراسيم عفو. جرائم تُرتكب كشربة ماء ولأتفه الأسباب، وما حصل في بلدة البسيط التابعة لريف اللاذقية أدلّ مثال على ذلك. وفي التفاصيل تطورت مشاجرة عادية بين شخصين ينتظران دورهما للحصول على الخبز إلى استخدام السكين التي أنهت حياة أحدهما، وطالت مواطنَين آخرين بجروح وخدوش، وثلاثتهم من عائلة واحدة. ما يؤكد أنّ تفشّي الطفرات الأخلاقية التي تُلازم الحروب تغدو حافزاً ضخماً للكثيرين للمضي قدماً في طريق الجريمة، متسلحين بعنصر المقامرة.
وليت الأمر يتوقف عند هذا الحد، الأسوأ من ذلك أنّ بيئة الحرب تغيّر من النظرة العامة إلى المعايير الأخلاقية التي فُطم المجتمع عليها، ومن مقتضى هذه المعايير إدخال طائفة من الأفكار الشاذة عن العرف الاجتماعي، كالاعتقاد بأنّ الحرب فرصة لا تُعوَّض للاغتناء والاعتلاء، لا يكون وراء تركها إلا الندم، ما يضخّم في بعض النفوس رغبة عارمة في انتهاز الفرصة، وإلباس الجريمة ثوباً من أثواب محاولات الكفاح في الحياة لا أكثر.
على المقلب الآخر يزيد التناول الساذج للمواد الصحفية المتعلقة بالجرائم من قبل وسائل الإعلام السورية الرسمية، من معدلات التوتر والقلق والخوف، خاصة مع غياب الأخبار الإيجابية والسارّة، ليعود هاجس “الأمن والأمان” ويشكل الأولوية الأولى في حياة السوريين حتّى على حساب رغيف الخبز، وسط مخاوف عميقة من تحوّل الجريمة إلى “أمر اعتيادي”، لا سيما أنّ هذه الحوادث تعيد إلى الأذهان جحيم الحرب التي تركت الباب موارباً لجهة اقتراف المزيد من الجرائم وارتفاع منسوبها، عبر إفرازاتها النفسية والاجتماعية، لتخلّف تصدّعات في بنية المجتمع السوري، وتخلّ بالمنظومة الأخلاقية فيه. هذا، مع غياب “الذراع الأمنية” التي من المفترض أن تردّ الأذى عن المواطنين الذين يعانون ضغوطات خانقة مع ارتفاع نسبة الفقر وتراجع الأوضاع المعيشية، كذلك تفشّي البطالة بفعل الحصار الاقتصادي المطبق، ما يشكّل، بطبيعة الحال، تربة خصبة لتنامي معدّل الجريمة، من شأنها أن تسهم في منحها أبعاداً أكثر خطورة من ظهورها في ظروف عادية.
والواقع على هذه الدرجة من التأزم دفع سوريين، وعبر صفحاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي، لإطلاق دعوات تطالب بـ”تعليق المشانق” في الساحات العامّة، وإنزال أقصى العقوبات بحقّ الفاعلين، كنوع من الترهيب والحفاظ على هيبة القانون وسيادته. في هذا الوقت يأتي الإعلام الرسمي “المنفصم عن الواقع” ليخفف من هول ما يحدث، رافضاً أن يكون الوضع الاقتصادي شماعة تعلّق عليها الجرائم المتصاعدة، وعزاها إلى البيئة الاجتماعية التي نشأ فيها مرتكب هذه الجريمة، والحالة النفسية المريضة التي يعيشها. متناسياً أنّ انتشار الأسلحة الفردية الخفيفة من مسدسات وقنابل وغيرها، بات أكثر توفراً من الزيت والسكر في البيوت، وغدا استخدامها دارجاً بطريقة مريبة لحلّ أبسط المشكلات.
في المقابل، لا شكّ أن علاقة وسائل الإعلام المختلفة بالظواهر الإجراميّة من خلال نشر تفاصيلها، يُسهم في قتل الاشمئزاز والاستنكار، وتعويد الناس على الممارسات المنحرفة، وهكذا تصبح الجرائم الشنيعة شيئاً اعتيادياً ومرغوباً، من خلال تصوير المجرمين على أنهم أبطال أو أذكياء كما تسوّق بعض الأفلام. ويرى باحثون في علم الاجتماع أنّ السبب الرئيسي وراء ارتفاع وتيرة الجرائم المروعة في سوريا، هو المدة الزمنية الطويلة التي قضتها البلاد في ظلّ حرب داخلية طاحنة، وما جرّته من كوارث اجتماعية واقتصادية، فبات الإنسان أرخص قيمة في البلاد.
وكعادة كلّ الحروب الأهلية المديدة فإن الانهيارات المجتمعية تفعل فعلها التدميري، وتنخر كلّ مفاصل المجتمع لتلغي حساسيته الإنسانية فيتحول إلى ما يشبه الغابة، تنعدم فيها كلّ الروادع الأخلاقية والقانونية. على هذا تتبلد ضمائر الناس وتطفو على السطح شتّى صنوف الظواهر الشاذة والسادية، وتتفشى السلبية والسوداوية. ونستطيع أن نجزم أنّ معظم الجرائم في سوريا غير نابعة من “فكر إجرامي احترافي”، وإنما هي نتيجة اضطرابات نفسية إثر صدمات أو ظروف اجتماعية واقتصادية قاهرة، لم
في سياقٍ موازٍ لا تكمن المشكلة الحقيقية في سوريا بالقانون فقط، بل في عجز القضاء عن إقامة العدل بينما تتحصن شرائح معينة من المجتمع في ظلّ السلطة الأمنية، فترى نفسها فوق القانون. وتزيد الطين بلّة مشاهد الدماء المؤلمة والمقابر الجماعية والأشلاء التي ما زالت عالقة في الذاكرة، كذلك أصوات البنادق والمدافع المستمرة التي خلفت آثاراً نفسية مدمرة لدى المواطنين، ما أدى إلى انتشار لافت لمعدل الجريمة حتى بين أبناء العائلة الواحدة. بالطبع مع ملاحظة “بشاعة” و”تطوّر” الأساليب التي لم تكن مستخدمة سابقاً. يؤكد هذا الحال المروّع تصدّر سوريا قائمة الدول العربية بارتفاع معدل الجريمة لتحتل المرتبة الأولى عربياً والتاسعة عالمياً، للعام 2021، وذلك بحسب موقع “Numbeo Crime Index” المتخصص بمؤشرات الجريمة حول العالم، بينما احتلت مدينة دمشق المرتبة الثانية بارتفاع معدل الجريمة في الدول الآسيوية بعد مدينة كابل في أفغانستان.
من الواضح أنّ الحروب تغيّر من الظروف التي تمرّ بالمجتمعات فينقلب حالها رأساً على عقب، وتُحدث انحرافاً جليّاً في كافة اتجاهاتها الذهنية ومقاييسها الاجتماعية. فيختلّ التوازن اختلالاً واضحاً بين الجرائم المحرَّمة في زمن السلم، لتغدو طبيعية ومنتشرة في الفترة التي تلي الحرب مباشرة. المؤلم أنْ لا أمل في احتواء هذه “الظاهرة المستجدّة” في ظلّ غياب مؤسسات قضائية مستقلة ونزيهة تحمي المواطنين وتحقق لهم العدالة، داخل مجتمع يتبنّى مقولة: “من أمِنَ العقاب أساء الأدب”. فالعنف الذي يُلابِس الحرب يصبغ الحياة كلها، ويأخذ شكلاً دموياً توحي به عقلية الحرب والميدان، فتُنظَّم العصابات للسرقات والقتل والابتزاز بطرق احترافية، وثمّة من يُقدم على الجريمة متسلّحاً بيقينٍ عميق أنه ليس أمام عمل مشروع أو غير مشروع، بل أمام اختيار الفقر أو الغنى، انتهاز الفرصة أو تركها، ولا شأن للأخلاق في هذا الموقف، ولا محل لرقابة الضمير. يندفع وراء هذا التصوّر مُستعيناً بكل وسائل التسويغ والتبرير لإبعاد جريمته عن دائرة الخطيئة والندم، في وقتٍ لا تترك له عجلة الحرب الهوجاء فرصة للتأمل والتدبر في أوهامه وأخطائه.
تلفزيون سوريا