مدخل إلى تفكيك الظاهرة الاستبدادية/ سيف الدين عبد الفتاح
يتوقف هذا المقال عند محطة مهمة في هوامش على الظاهرة الاستبدادية؛ متعلقة بتفكيك الاستبداد، فإذا كان له (الاستبداد) جذور وله كذلك قابليات، فإن الأمر الذي يتعلق بهذه المهمة الكبرى، والتي أشار إليها عبد الرحمن الكواكبي في كتابه العمدة في تحليل الظاهرة الاستبدادية “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”، حينما أفرد فصلا في مقاومة الاستبداد والتخلّص منه، إلا أن مهمة تفكيك الاستبداد تجعل من هذه السياسة في المقاومة، وهذه المسالك في التخلّص من تلك الحالة الاستبدادية، ربما يكون أكثر اتساعا، بما يمكن دراسة هذه العملية باعتبارها “استراتيجية كبرى” على الشعوب ومؤسسات الأمة أن تنهض بها، وكل الهيئات الاجتماعية والمدنية أن تضطلع بدور فيها؛ هذه المهمة التي يجب أنّ تكون محلّ دراسة متأنية ومستفيضة، في إطار الاستفادة من كل تلك الجهود الفكرية والمعرفية والعلمية والبحثية في تحليل هذه الظاهرة جذورا وعمليات، ووسائل وأدوات، وكل ما يتعلق بها، وذلك على مستويات متعدّدة ومتكاملة من اجتهادات فكرية وأكاديمية، وجهود عملية وتطبيقية تتعلق بجانبيها في الحركة والممارسة.
تقع الجهود الأكاديمية في حقيقة الأمر ضمن تلك الدعوة التي أكّد عليها الحكيم المستشار طارق البشري، رحمة الله عليه، في “تأسيس علم للاستبداد” يتناول هذه الظاهرة؛ شارحا ومحللا، باعتبار أنها نقيضٌ لأفكار تتعلق بتأسيس الحكم الرشيد والمجتمع الراشد، ذلك أن الأمر يتطلب التعرّف على أصول هذه الظاهرة، ودراسة مكوّناتها، والوسائل التي يستخدمها المستبد ومنظومته، كذلك التعرّف على الأشكال التي تتّخذها تلك الظاهرة، والمجالات التي تتسرّب إليها في ساحة الحياة المجتمعية والعامة، ثم التفكير بعملية التفكيك ضمن استراتيجياتٍ كبرى، وأدوات فاعلة في المجالات ذاتها التي ترسخت فيها مسالك عمليات الاستبداد. ولعل هذه الدراسات التي على نمط “كيف تعمل الديكتاتوريات؟” هي من الدراسات المهمة في هذا الميدان، لأن التعرّف على الطرائق التي تشير إلى تكوّن الظاهرة وتطورها وتحولاتها إنما يشكّل، في حقيقة الأمر، بداية أولية لهذا الحقل المعرفي. يمكن أن يشير إلى أهمية أن نبتكر استراتيجياتٍ وأدواتٍ لعمليات تفكيك الاستبداد، ضمن خطط متكاملة تجعل من ذلك العمل الذي يتعلق بهذه المهمة عملا مستداما، يحقق، في البداية، التعامل مع مفاصل الظاهرة الاستبدادية. ومع كل تلك الحقائق المشار إليها عند تناول تلك الهوامش المتعدّدة على متن تلك الظاهرة؛ بحيث يمكن التعامل معها بالحكمة الواجبة والفعالية اللازمة. ومن ثم تبدو تلك العمليات المتعلقة بصناعة الوعي من أهم المداخل الكبرى في استراتيجيات تفكيك الاستبداد؛ صناعة الوعي الجمعي الذي يشكّل إرادة المقاومة لهذا الاستبداد بكل أشكاله وألوانه، بكل استناداته ودعائمه، ومحاولة الكشف عن كل الأدوات المباشرة وغير المباشرة التي ترسّخ لتلك الظاهرة الاستبدادية، حتى يمكن التعامل مع ذلك كله في سياقات هذا الوعي الجمعي الذي يشكل، في حقيقة الأمر، الشرط الضروري والموضوعي لما يمكن تسميتها إرادة الشعوب في المقاومة. هذا الوعي لابد أن ينطلق إلى كل المساحات التي تتعلق بقابليات الاستبداد التي تشكل التربة الخصبة لتراكم هذه الظاهرة واستدامتها. وقطع الطريق على تلك القابليات بالتعامل الواجب من خلال أفكار وممارسات لهو من الأمور التي يجب التفكير فيها، لتدشين كل تلك المؤسّسات التي تتعلق بعمليات الوعي في كل أحواله؛ الوعي الآني الذي يرتبط بالتعرّف وفهم أحوال الواقع على ما هي عليه؛ فهماً رصيناً وبصيراً، وكذلك الوعي الممتد الذي يشكل عمليات دائمة ومستمرّة تتحرّك في مساحات التنشئة والتربية، والقدرة على تشكيل الإرادة الكاملة والتمسك بالقيم التأسيسية الكبرى، وفي مقدمتها الحرية والعدل.
وتأتي في هذا المقام أهمية مؤسّسات الأمة في أن تضطلع بكل أدوارها الأساسية للحفاظ على المجتمع ولحمته وتماسكه، وتكويناته الأساسية والجمعية المتمثلة في شبكة علاقاته الاجتماعية الراشدة والفاعلة. الإبقاء على هذا الرصيد الذي يتمثل في وحدة الجماعة الوطنية ليشكل الأرضية الأساسية التي يجب أن نقف عليها لتحقيق ثمرات هذا الوعي، ذلك أن الاستبداد، في منظومته، يتحرّك ضمن خططه الخبيثة في صناعة الفرقة والفوضى، فتصاب الجماعة الوطنية في مقتل، ويستطيع المستبدّ، بمنظومته، أن يتحكّم في هؤلاء جميعا، وهو أمر يتعلق بالقاعدة الذهبية التي أشار إليها طارق البشري، حينما يؤكّد على أن “الحاكم يظل فردا ما دام الناس أفراداً”؛ وأن مناخ الفرقة داخل تلك الجماعة الوطنية، وافتقاد الميزان الذي يمثله التيار الأساسي في الأمة، يشكلان، في حقيقة الأمر، أطراً مواتية للمستبدّ أن يمارس استبداده وطغيانه؛ إذ يتحرّك في مساحة الفرقة التي يستغلها، وأنظمته التي تحترف صناعتها، ذلك أن تماسك الجماعة الوطنية هو حائط الصد الأول في مواجهة تلك الحالة الاستبدادية، والتأسيس لمقاومتها، وتفكيكها، ومواجهتها.
ويبدو كذلك أن استراتيجيات التفكيك هذه لابد من أن تشكل محاضنها ومرتكزاتها الأساسية التي تتحرّك صوب مسالك التفكيك تلك بشكلٍ يجعلها فاعلة ومؤثرة، ضمن فهم واسع للحقائق التي تتعلق بالواقع الاجتماعي، والحفاظ على فاعلية الطبقة الوسطى التي تشكل ميزان المجتمعات ومعامل التفريخ للإرادة المقاومِة للظاهرة الاستبدادية في كل مكوناتها، ومواجهة تلك العوامل التي تؤدّي إلى إحكام قبضة شبكة الاستبداد واستمراريتها وديمومة طغيانها. ويشكل هذا الأمر عملاً يجب أن تضطلع به تلك النخب الفكرية والثقافية والحركية المقاومة للاستبداد، والتي يجب أن تشكّل تلك المحاضن في مواجهة شبكة مؤسسات الفساد والاستبداد التي تنخر في كيان المجتمع، وتحاول تخريبه من داخله، وكذلك تحاول تكسير كل مداخل الحصانة والتحصين التي تتعلق بها، فكما للاستبداد قابليات، فإن صناعة الحرية والتحرير للمجتمعات أيضا قابليات، ومحاضن، وخمائر يجب الحفاظ عليها وتعظيمها، وتمكين شبكة علاقاتها وقدراتها في مواجهة تلك الظواهر الاستبدادية بكل أشكالها.
ولعل من المهم كذلك أن يشار إلى الخطط التفصيلية بالقدر الواجب واللازم من خلال التعرّف على خرائط ومسالك الاستبداد؛ وأن نقدّم تلك الخطط على المستوى الإجرائي، ذلك أن التعامل مع هذا المستوى إنما يشكّل المحك في عمليات مواجهة الاستبداد ومقاومته، وتمكين تلك الأدوات التي تقوم على هذه المهمة. ومن دون هذا الفعل الإجرائي وتصميم تلك الخطط التفصيلية ضمن تفعيل كل القدرات التي تتعلق بوعي الشعوب وإرادتها، وتطوير أشكال الاحتجاج المختلفة ضمن هذه البيئة غير المواتية، والوسط الاستبدادي الخانق؛ على هؤلاء أن يقوموا بكل ما من شأنه فتح تلك الثغرات في جدار الاستبداد اللعين؛ بحيث تستطيع هذه القوى الفاعلة، والخمائر المقاومة، والحركات الواعية بكل عملٍ لازمٍ لتغيير كل تلك الاختلالات التي سببها هذا المسار الاستبدادي، وسنرى كيف أن هذه المحاولات التي تنتج في سياق التعرّف على ميدان الحياة. والواقع أن الاضطلاع بهذه المهمة وذلك الدور إنما يشكّلان عملاً ضروريا ضمن تلك المنظومات التي تتعلق بتفكيك الاستبداد، في كل ساحاته ومساحاته، أفقيا ورأسيا، أشكاله ومستوياته، مفاصله وتجلياته، فإذا كان الاستبداد هو الظلم المُؤذن بخراب العمران، فإن على عملية تفكيك الاستبداد أن توقف هذا المسار التخريبي، وتوطّن لمسار عمراني بديل. ولعل ما أكّد عليه الكواكبي في كتابه ضرورة إعداد البديل يشكل أهم حلقات تفكيك الاستبداد.
العربي الجديد