من سوريا إلى روسيا البيضاء: عالقون في المصائر المبهمة/ علي سفر
تلقف سوريون ضاقت أمام عيونهم دروب الحياة في مناطق سيطرة نظام الأسد، إشارة رئيس جمهورية بيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو عندما أعلن في أواخر أيار الماضي، أن بلاده لن تمنع المهاجرين الذين يصلون إلى أراضيها، من السفر إلى الاتحاد الأوروبي، فمضوا إلى تلك البلاد الباردة، متأملين أن يتمكنوا من الوصول، إلى حيث يمكنهم طلب اللجوء، والخلاص من جحيم وطنهم.
أزمة المهاجرين على الحدود بين هذه الجمهورية السوفييتية السابقة والدول الغربية الأخرى، باتت حارة جداً، خاصة وأن قرار فتح الحدود اتخذ كرد فعل، على قيام الاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات على هذه الدولة، صاحبة التاريخ الأسود، والواقع المؤلم، في التعاطي مع الحريات وحقوق الإنسان.
جوهر القصة بالنسبة للأوربيين في اللحظة الراهنة، يكمن في قيام دولة آثمة باستخدام ورقة المهاجرين، من أجل تغيير وقائع سياسية، أو فرض غيرها. ومن زاوية أخرى، يحاول الرئيس البيلاروسي التعاطي مع الدول الغربية من بؤرة وجعها، خاصة وأن التبعات المادية والاجتماعية لموجة الهجرة التي اندلعت في العام 2015، ما تزال شاخصة أمام جميع الدول، التي استقبلت اللاجئين، وعلى وجه الخصوص ألمانيا، التي قبضت شرطة حدودها على المئات منهم، قادمين إليها من بولونيا.
تحليل التفاصيل من خلال الفاعلين الأساسيين فيها، ومع حصول مناوشات نارية على الحدود بين الجنود البولونيين والبيلاروسيين، ينقل القصة إلى العناوين الصاخبة في نشرات الأخبار، فترد في التفاصيل الوقائع السابقة وغيرها.
لكن وسائل الإعلام محدودة بحثت عن زوايا مختلفة عن السائد في قراءة الأمر، إذ يمر رصاص الجنود فوق مجموعات بشرية عالقة على الحدود، تنتظر أن يوصلها المهربون إلى بر الأمان، بعيداً عن حروب مصالح، اشتعلت فجأة في هذه المنطقة، فخلقت هذا الشق في الجدار الحديدي، الذي تحيط القارة العجوز حدودها به.
غالبية الذين غادروا في هذه الآونة متوجهين إلى روسيا البيضاء، ليسوا ممن تعرضوا للاضطهاد السياسي والتهديد الأمني بشكل مباشر (مع اعتقادنا المطلق بأن الكل مهددين سياسياً وأمنياً بسبب النظام)، لا بل إنهم بقوا في البلد، طوال سنوات “الحرب”، لكنهم قرروا الرحيل بعد بروباغندة “انتصار الأسد على معارضيه، وهزيمته الدول المشاركة في معركة المؤامرة الكونية”.
ومع معرفتنا للتكاليف المرتفعة لعملية الهروب والوصول إلى أوروبا بالنسبة للفرد الواحد، يمكن تصور أن هؤلاء لا يواجهون ضائقة مالية كغيرهم، أو أنهم قد وصلوا إلى أعلى قمم اليأس، فباعوا كل ما يملكون من أجل محاولة النجاة.
ولعل التدقيق في أوضاعهم الاجتماعية، يجعلنا أمام واحد من ملامح الكارثة التي صنعها بشار الأسد، وهي خروج غالبية الكوادر الطبية والهندسية والتقنية منها، إذ إن من يهربون هم من هذه الفئات تحديداً، والتي لن تعوض، حتى وإن أصدر أمراً بتسريح الباقين الذين يخدمون الاحتياط في جيشه ومؤسساته، لكي يعودوا إلى حياتهم المدنية، إذ لن يمضي وقت طويل حتى يقرر هؤلاء الرحيل!
يحدثني أحد الأصدقاء من الداخل، عن أن مجموعة واحدة ممن سافروا قبل أيام، تضم عشرة أشخاص، هم من بلدة صغيرة، ما يعني بالقياس على المدن والأرياف الأخرى، أن موجة الخروج الحالية أكبر بكثير مما يمكن توقعه، خاصة وأنه قد صار واضحاً للسوريين تقهقر مسار تعاطي المنظومة الدولية مع قضيتهم، حيث تجردت من أخلاقها ووعودها بحمايتهم، طوال عقد كامل، إلى أن وصلت إلى الزاوية الأشد ظلمة، حيث تتساعد أطراف دولية وإقليمية وعربية على إعادة توضيب النظام، دون تكلف عناء حتى تغيير بعض رموزه، فضلاً عن الإبقاء على مجرميه الأساسيين، وعلى رأسهم رئيسه، ودفعهم إلى الواجهة، ليبقوا يصلون الشعب بالحديد والنار سنوات وسنوات!
حدود روسيا البيضاء بتلخيص مختصر؛ مجرد ممر لنجاة بعض السوريين، من مصير لا يستطيع آخرون النجاة منه، لكنها كناية عن بعض التعاطي الدولي والوحشي والفاجر، مع كارثة هائلة، لا يرى في آلام من أصابتهم، سوى أداة يمكنه الاستفادة منها، لغاية وغرض ما.
كُتب كثير عن الفواجع السورية، لكن جزءاً غير قليل مما تم تدوينه، كان يفصّل بكل واحدة منها، دون أن يقوم بربطها بما قبلها أو بعدها، لهذا ومع الوصول إلى هذا الأتون الجهنمي، نجد أنفسنا محكومين بالكتابة عن واقعنا كسلسلة متصلة من المآسي، بدأت قبل أن يخلق جيل الثائرين في 2011 بزمن طويل، لكن التماعة النهاية التي أومضت عبر الثورة في ذلك العام البهي، كانت تقول بشكل واضح، للسوريين أنفسهم، وقبل أن تتوجه للأطراف الإقليمية والعربية والدولية، إن كلفة التخلص من نظام العائلة الأسدية هي أقل وبما لا يقاس من كلفة بقائه!
وقد وصلنا جميعاً إلى منحنى شديد الخطورة، حينما صار مؤيدو النظام هم من أكثر الفئات المهجوسة بمغادرة جنته!
ما يعني في المحصلة أن هذه الفئة والتي استثمرها النظام في مواجهته مع الثائرين، لم تعد ترى في علاقتها معه أي فائدة، لا بل إنها تفقد أي ترابط مصالحي أو منفعي، مع تسليمه أعمال البلاد وأشغالها، لأمراء الحرب ولمؤسسات إيرانية وروسية، ما يعني أن أفق تشغيل السوريين في مؤسساتهم المحلية بات قابلاً للاضمحلال، لا سيما وأن تجربة تشغيل الروس لبعض الشركات المحلية، أدت إلى تسريح أعداد من الموظفين والعمال، بحجة إعادة الهيكلة.
ويزيد في طنبور الانحدار نغماً، عرض الحكومة وبشكل علني عشرات الشركات والمؤسسات العامة للاستثمار، توسلاً في الظاهر لبعض الجعالات، وتنفيذاً في الباطن لسياسة النظام في معاقبة السوريين عبر التخلص من ملكية الدولة، التي دفعوا أثمانها من أموالهم ومواردهم.
تلفزيون سوريا
————————-
اللاجئون وغابات أوروبا الحصينة المتجمدة/ جوي نويمير
في الغابة البدائية الشاسعة الواقعة بين بولندا وبيلاروسيا، ترى الثور الأوروبي يرعى تحت الأشجار القديمة إلى جانب اللاجئين الذين بدت عليهم أعراض وهن ظاهرة بسبب البرد والجوع.
الوافدون الجدد – من دول مثل العراق وأفغانستان وسوريا ونيجيريا والكاميرون – لديهم قصص مختلفة، لكنهم يواجهون مأزقاً مشتركاً. فقد قاموا جميعاً بشراء رحلات جوية إلى مينسك ببيلاروسيا مع وعد بأن يتم نقلهم إلى الاتحاد الأوروبي، لكن الحال انتهى بهم في الغابة.
تُرك المهاجرون للتجول في الغابة في درجات برودة متجمدة عند الحدود مع بولندا. لكن المشكلة تتجاوز بيلاروسيا، إذ إن الحكومة البولندية التي قدمت نفسها على أنها حامية الأمة من الغزو رفضت دخول المهاجرين، وفي بعض الحالات، دفعتهم دفعاً إلى العودة إلى الغابة.
بعيداً عن إثارة السخط، يحظى نهج بولندا بدعم الاتحاد الأوروبي، فهو تكرار لما كان الاتحاد يفعله على مدى السنوات الخمس الماضية. ولتجنب تكرار أزمة المهاجرين في 2015 – 2016 عندما لجأ أكثر من مليون شخص إلى أوروبا، حاول الاتحاد عزل القارة عن أي تدفق جديد للاجئين.
لكن هذه الجهود التي غالباً ما كانت قاسية ووحشية باءت بالفشل. ففي أعقاب استيلاء «طالبان» على أفغانستان، ومع استمرار الاضطرابات في جميع أنحاء العالم، سيتوجه المزيد من الناس إلى أوروبا، وها قد حدثت أزمة المهاجرين الجديدة.
فمع اختناق الطرق الجنوبية، أصبحت الحدود الشرقية للكتلة نقطة دخول رئيسية. ومنذ أغسطس (آب)، كان هناك آلاف المحاولات لعبور الحدود البولندية خارج نقاط التفتيش الرسمية. وهي مهمة محفوفة بالمخاطر: فلما يقرب من شهرين، حوصرت مجموعة من 32 شخصاً من أفغانستان بالقرب من قرية «أوسنارز» غورني الحدودية البولندية. هؤلاء الأفغان يتلقون حصصاً غذائية ضئيلة وهم محرومون من المياه العذبة، ويفقدون ما تبقى من قوتهم ويكافحون من أجل التحرك، وفقاً لعمال الإغاثة.
كانت استجابة بولندا قاسية، حيث تجاهلت الحكومة حكما أصدرته «المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان»، وهي كيان منفصل عن الاتحاد الأوروبي، لتوفير الطعام والملابس والرعاية الطبية. وبإعلان حالة الطوارئ، منعت المحكمة الصحافيين وعمال الإغاثة من الاقتراب مسافة ثلاثة كيلومترات من المنطقة الحدودية. لا تكتفي بولندا بالتعتيم الإعلامي، فهي أيضاً، شأن ليتوانيا المجاورة، التي تقيم سياجاً على طول الحدود.
وبتبنيها لهذا الموقف، فإن الحكومة البولندية تحذو حذوها. ففي عام 2015 وفي ذروة الأزمة، ادعى زعيم «حزب القانون والعدالة» اليميني المتطرف، ياروسلاف كاتشينسكي، أن اللاجئين المسلمين يحملون الطفيليات. وبعد ركوب موجة الخوف الشعبي لتحقيق النجاح الانتخابي، نفذ الحزب أجندته المناهضة للمهاجرين ورفض قبول حصص اللاجئين التي حددها الاتحاد الأوروبي. وانضمت إليها جمهورية التشيك والمجر، حيث شرع رئيس وزرائها، فيكتور أوربان، في بناء جدار على حدود المجر مع صربيا وكرواتيا.
في «أوروبا المحصنة»، يعتبر السياج هو الوضع الطبيعي الجديد. فخلال السنوات الخمس الماضية، دفع التكتل تركيا وليبيا لإبعاد المهاجرين وقام بدوريات في البحر الأبيض المتوسط، بينما أقامت دول أعضاء مثل النمسا واليونان وبلغاريا تحصينات حدودية جديدة. يعمل الاتحاد الأوروبي حالياً على إبرام صفقة مالية مع جيران أفغانستان لمنع الفارين من «طالبان» من القدوم إلى أوروبا. إن عمليات الإعادة العنيفة للحدود شائعة بشكل متزايد، وهي إجراءات غير قانونية يقول النقاد إنها مدعومة من قبل وكالة الحدود التابعة للكتلة (فرونتكس). والرسالة هنا واضحة: يجب إبعاد الوافدين الجدد بغض النظر عن التكلفة.
ويصر المسؤولون الأوروبيون على أن مثل هذه السياسات ضرورية، حيث قالت إيلفا جوهانسون، المفوضة الأوروبية للشؤون الداخلية، في أواخر سبتمبر (أيلول) إن الكتلة يجب أن «تقف معا لحماية حدودنا الخارجية». ولكن ما هو نوع السياسة التي يوفرها الاتحاد الأوروبي؟
في 27 سبتمبر، عقدت وزارة الداخلية البولندية مؤتمراً صحافياً اتهمت فيه اللاجئين بالإرهاب، والزوفيليا (سوء معاملة الحيوانات)، والاعتداء الجنسي على الأطفال. وكدليل على ذلك، قدمت عرضاً لصور يفترض أنها مأخوذة من الهواتف المحمولة للمهاجرين، والتي تضمنت صوراً لقيام منتسبي «تنظيم داعش» بجز رؤوس ضحاياه، وكشف الصحافيون أن هذه اللقطات جاءت من الإنترنت، لا من هواتف المهاجرين.
ومؤخراً انتقد لي فرنسيسيك ستيرجوسكي، عضو البرلمان البولندي من حزب التحالف المدني المعارض، الصور التي أظهرته يتخطى جنود حرس الحدود لتسليم حقيبة مليئة بالإمدادات إلى اللاجئين بمنطقة «أوسنارز غروني» والتي تصدرت عناوين الصحف في أغسطس (آب). وأثار تصرفه ردود فعل يمينية ساخرة على وسائل التواصل الاجتماعي، وكذلك تصريحات مؤيدة. استطرد قائلاً، «في الوقت الحالي، تسيطر الحكومة على القصة. لذلك يجب أن يكون لنا رد قوي».
لا وقت لنضيعه، فقد توفي بالفعل خمسة أشخاص على الأقل، وفقا لمسؤولين بولنديين. لكن بيوتر بيستريانين، رئيس مؤسسة أوكاليني، وهي جمعية خيرية بولندية للاجئين تحاول مساعدة الأشخاص العالقين على الحدود، أخبرني أن الرقم الحقيقي غير معروف وربما أعلى من ذلك، واستشهد بحالة صبي يبلغ من العمر 16 عاماً من العراق اتصلت عائلته بأوكاليني بعد إعادتهم إلى الغابة. كان الصبي يتقيأ دماً وقت الاتصال، وفي الصباح علمت الجمعية أنه مات. وقال بيستريانين إنه مع انخفاض درجات الحرارة، قد يموت عدد أكبر بكثير.
في كتابه «غرباء على بابنا» الذي كتبه خلال أزمة 2015 – 2016 قال زيجمونت بومان، عالم الاجتماع البولندي والمحارب المخضرم في الحرب العالمية الثانية، إن الحدود العسكرية ما هي إلا رد مضلل على الضيوف غير المدعوين. وكتب أن الحل الوحيد للخوف هو استبدال العداء بواسطة الضيافة، وإظهار أشكال التضامن التي تعترف بترابطنا كبشر. لكن بومان، الذي توفي في عام 2017 لم يعش ليرى آماله تتحقق.
وبدلاً من ذلك، ومع إبعاد المزيد من الأشخاص الذين نزحوا بسبب النزاعات المسلحة وتغير المناخ بسبب نشاطات الدول الأكثر ثراء في العالم، بات اللاجئون عالقين في غابات أوروبا. ويبدو مصيرهم وكأنه هاجس مظلم لمستقبل موجود هنا بالفعل.
الشرق الأوسط