نقد ومقالات

أدب السجون… كيف اخترقت آلام الكتابة أساطير السُلط القمعية؟/ أشرف الحساني

لسنواتٍ طويلةٍ ظلّت الثقافة العربيّة تحبل من حينٍ لآخر بمفرداتٍ من قبيل: أدب السجون، الاعتقال، الأسر، المنفى…، والتي يُقصد بها معرفياً الأدب الذي كُتب خلف قضبان السجن، ونُسجت قصائده تحت الكمّامات خفية من الهمس والنحيب. وكأنّ هذه الكتابات قد بلورت علاقة خاصّة بين الذات وفعل الكتابة نفسه، حيث يعثر عليها القراء بوصفها كتابةٌ تُحرّر الذات من سُلطة الخوف والقلق والقهر والحرمان النفسي وتُعوّضها بمفاهيم الحرية والعدالة وشحذ العزيمة وتقوية المخيال الرمزي لمُواجهة مختلف أشكال العنف المُرتكب قانونياً ومادياً ولفظياً تجاه الكاتب الأسير.

ولأنّ طبيعة هذه الكتابات ذات ميزةٍ نقديةٍ تفكيكيةٍ قائمة على النقد والسخرية، جعلت مؤسّسات سجنية منذ السبعينيات تُمارس رقابة قاهرة في حقّ هذه الكتابات سواءً من لدن المؤسّسة السجنية أو من لدن النظام السياسيّ القائم، ما جعل العديد من الشعراء والكُتّاب العرب يتحايلون على تسريب قصائدهم ورسائلهم ويوميّاتهم من داخل السجن.

هذا ويبقى موضوع أدب السجن إلى حد اليوم يكتنفه غموضٌ كبيرٌ على مستوى التأصيل النقدي لهذا النوع من الأدب، بدءاً من عتبات المفهوم ووصولاً إلى قدرة هذه الكتابات على تحرير مخيّلة المُبدع العربي في فترات حالكة من تاريخ الإبداع العربي.

أوّل الصعوبات التي تعترض القراء تجاه هذه الكتابات تتمثّل في ضبابية المفهوم وعدم قدرة النقاد على ضبط ميكانيزماته وملامحه والتنظير لخصائصه ومميّزاته داخل الأدب العربي، بدل الاستناد بشكلٍ مباشرٍ على الدواوين الشعريّة والمتون الروائية ومدى تأثير هذا الأدب على التأليف التاريخي العربي إبان الحقبة المعاصرة.

فقد تعامل الكثير من الباحثين مع أدب السجون بوصفه وثيقة تاريخيّة هامّة ترصد آلام النفس البشرية في علاقتها بفضاء السجن وايديولوجية السُلطة منذ منتصف ستينيات القرن العشرين. بل الأكثر من ذلك نجد أنّ العديد من المُؤرّخين وجدوا في هذا الأدب خاصية فريدة بغية التأريخ للمرحلة المعاصر والحراك الذي شهدته على الصعيدين السياسي والاجتماعي، كما تنقل لنا ذلك مؤلفات أدبيّة مغربيّة لكل من عبد اللطيف اللعبي وعبد الله زريقة وأحمد المرزوقي وصلاح الوديع وغيرهم.

عن تمثّلات أدب السجون وخصائصه ومدى تأثيره في بينة الأدب العربي المعاصر، كان لنا هذا التحقيق الخاصّ مع عدد من الكتّاب العرب من سوريا والمغرب والعراق.

مصطفى لغتيري (روائي مغربي)

لا شك أن الأدب بحكم طبيعته ووظيفته يحاول دائماً تقديم كل ما يهم الإنسان في حياته المعقدة، في حالاتها المتعددة، وخاصة تلك الحالات النوعية والمفصلية، التي غالباً ما تتميز بالعمق، وتنذر بالتحول في مسار الإنسان. وتعد في هذا الصدد تجربة الاعتقال او النفي من أهم التجارب الإنسانية العميقة التي لا شك أنها تلامس عمق كينونة الإنسان، وتغوص بالكائن الهش عميقاً في تناقضات وجودية ونفسية واجتماعية.

وقد استطاع الأدب أن يصور لنا تلك الحالات الصعبة في حياة بعض الناس، الذين مروا بهذه التجربة، سواءً عاشوها حقيقة أو أنها نتيجة لخيال مبدع، استطاع الكاتب من خلالها استلهام السجن وظروف المعتقلين الصعبة، التي تساءل بعمق العدالة الإنسانية، والمواثيق الدولية والقوانين الوطنية، التي من المفترض ان تنتصر للحرية كشرط إنساني لازب، لتحقيق الكرامة، التي لا غنى عنها لاستمرار الحياة وتوهجها، مثلها مثل أساسيات الحياة الأخرى المعروفة، وقد عرفت الرواية العربية عموماً تجارب ناجحة في هذا المجال، منها تحربة عبدالرحمان منيف خاصة في روايته الشهيرة شرق المتوسط، وشربف حتاتة في العين ذات الجفن المعدني.

كما ان التجربة المغرببة حاضرة بقوة في هذا المجال وتنقسم إلى شقين؛ شق لسجناء كتبوا عن تجربتهم بعد أن ذاقوا ويلات السجن، والتي يعتبرها بعض النقاد شهادات كرواية أفول الليل لطاهر المحغوظي ومنهم من يعتمد على التخييل في استلهام هذه التجربة الإنسانية العميقة، ولي شخصياً مساهمة متواضعة في هذا الصدد من خلال روايتي “أحلام النوارس”، ومنهم من يكتب عن تجارب أشخاص عاشوا التجربة وحكوا لهم ما عاشوه كما فعل الكاتب المغربي المقيم في فرنسا الطاهر بن جلون.

علي سفر (ناقد سوري)

كانت القصائد التي يكتبها الشاعر وهو مجبرٌ على مغادرة وطنه لحرب أو لأسر حاضرة في الأدب العربي دائماً، وهنا نتذكر قصيدة أبي فراس الحمداني التي كتبها وهو مأسور عند الروم، والتي يقول فيها:

“أقول وقد ناحت بقربي حمامة/أيا جارة لو تشعرين بحالي”، كما نتذكر قبل ذلك مرثية مالك بن الريب، التي يقول في مطلعها: “ألا ليتَ شِعري هل أبيتنَّ ليلةً/بوادي الغضَى أُزجي الِقلاصَ النواجيا”. لكن زماننا الحالي، حول مجريات آلام الشاعر أو الكتاب على العموم، من جعل ثيمة المعاناة مناسبة للحديث عن الشوق وتذكر الأهل والوطن، إلى فرض الثيمة بذاتها وبتفاصيلها التوثيقية لتكون هي المادة الأدبية.

وفي الحديث عن ثيمة السجن، أو الاعتقال، والتي صارت حاضرة وراسخة في المشرق العربي كما في مغربه، نرى كيف أن تفاصيل التجربة، أو بالأحرى معاناتها، بما تنطوي عليه، من أذى على كل المستويات، يؤدي إلى اختلال في التكوين النفسي للمعتقل، هي مادة الأديب، صاحب التجربة، أو الذي ينقل تجربة الآخرين، مع ملاحظة أن غالبية الكتاب العرب، إما عاشوا تجربة السجن في مسار حياتهم أو أنهم قابلوا سجناء من زملائهم أو في محيطهم!

تبعاً لهذا، وبتتالي التجارب المكتوبة التي يعرفها جمهور القراء، سيألف الجميع ظهور أدب الاعتقال، أو أدب السجون، وتحوله إلى مادةٍ رائجةٍ، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذا الأدب لا ينطوي على متعة في قراءته، بل هو مؤلمٌ وصادمٌ. غير أن ارتباطه بقضية الحريات عموماً، وبأزمات حارة تعيشها الشعوب، سيجعله حاضراً بوصفه سجل توثيقي للمأساة.

وفي التجربة السورية، نلاحظ أن جزءاً واسعاً من الأدب الذي ظهر خلال العقد الماضي، قام على ثيمة أدب السجون، كما اشتغلت الأقلام النقدية على متابعته، والنظر في الشعر أو السرد المنضويين فيه، وقد أفردت غير دوريةٍ ثقافيٍة سوريةٍ معارضة ملفات واسعة عن هذه التجارب، دون أن يصبح الأمر مملاً، إذ طالما أن الحدث الراهن يفرض وقوع التجربة، تصبح استجابة الأدب تلقائية، ويصبح حضور الحيز الشخصي، مبرراً لإهمال أو مراعاة غياب الالتماعات الفنية العالية، فهذا سجل لم يعد شخصياً بقدر كونه تدويناً لواقع كارثي.

شاكر الأنباري (كاتب عراقي)

يمكن اعتبار أدب السجون جزءاً من حقلٍ أوسع في التعبير الفني عما يجري في الواقع العربي، عبر إبداع موصوف بالرواية، والقصة، والشعر، والسيرة الذاتية. وقد شاع هذا النمط من الأدب، أي أدب السجون والمعتقلات، في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، وهي فترات نشط فيها اليسار العربي ومثقفوه وشهد المجتمع موجة من الوعي والانفتاح على العالم. وقد أطل القارئ العربي على تلك الزاوية المعتمة من مجتمعه عبر روايةٍ أخذت شهرةً واسعةً في حينها، هي رواية الكاتب السعودي عبد الرحمن منيف المعنونة “شرق المتوسط”. تناولت رواية منيف الزنازين، والتحقيقات، والحياة اليومية داخل السجن، والتعذيب المرافق لها. وما كان يسمعه المواطن العادي في الجلسات الخاصة والإشاعات المنتشرة في الشارع تجسّد بشكل فني في تلك الرواية، حيث نالت شهرةً واسعةً بين الفئات المثقفة.

أما على صعيد الشعر فحضر ذلك في الشعر الشعبي لدى مظفر النواب، وقد مر النواب نفسه بتجربة السجن في “نقرة السلمان” القريبة من الحدود السعودية، إذ تجاوب جمهور واسع مع تلك القصائد المليئة بالشجن، والاعترافات المأخوذة تحت التعذيب، وصوت الأم الرافضة لانهيار ابنها أمام المحقق الجلاد.

وفي فترات لاحقة قرأنا رواية “طريق جهنم” لأيمن العتوم، وتناولت سجون ليبيا في عهد معمر القذافي والفظائع المرتكبة بحق المعارضين سياسيا. وفي فترة قريبة أخرج الكاتب السوري مصطفى عبدالله روايته “القوقعة” المكرسة للحياة المرعبة في سجن “تدمر” السوري، وكان الكاتب هو نفسه عاش التجربة لأكثر من خمس عشرة سنة.

أما رواية “تلك العتمة الباهرة” للطاهر بن جلون المكتوبة بالفرنسية، فتعيد القراء إلى بداية السبعينيات في سجن “تزمامرت”، لشخصياتٍ مغربيةٍ اتهمت بالقيام بمؤامرةٍ على الملك في بداية السبعينيات.

رواية “شرف” لصنع الله ابراهيم كانت أيضاً من الروايات المميزة لهذا النمط من الأدب، وكشف فيها صنع الله واقع السجون المصرية وشكلت وثيقة إدانة للظروف غير الانسانية السائدة في الزنازين. طبعا لا بد من القول إن من الصعب على المبدع الكتابة عن السجون والمعتقلات إلا إذا عاش التجربة، ربما من هنا نجد هذا النمط هو الأقل بين حقول الأدب، بينما تمظهرت صور السجون وما يدور فيها بين السلطة والضحايا، في الرواية خاصة، كونها تحتمل تناول فترة زمنية طويلة تستغرق أحيانا عشرات السنين، وتسهب في رصد المشاعر المختلفة، والحالات الغريبة الحاصلة خلف الزنازين، عكس الشعر أو الفنون الأخرى من مسرح، وفن تشكيلي، وسينما.

كان ذلك الأدب الخاص جداً، نافذة في جدار الرقابة الشديدة للأنظمة العربية، وستارها الحديدي المفروض من قبل ديكتاتوريات عسكرية لم تكن ترضى بخروج أي من ممارساتها القمعية إلى العلن، ومن هنا لاقت رواجاً شديداً لدى القراء العرب.

رصيف 22

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى