أصولية بلا دين أو الذوات الفردية في متجر القيم/ محمد سامي الكيال
يعود تعبير «الجهل المقدس» للباحث الفرنسي أولفييه روا، المتخصص بدراسة الإسلام السياسي، في كتابه الشهير الذي يحمل الاسم نفسه. فخلال دراسته لحالات اعتناق الأديان في ظل العولمة، يلاحظ روا وجود حالة من الانفصال بين السياق الثقافي للأديان التي يتم اعتناقها، والتجربة الذاتية للمعتنقين. بمعنى أن كثيراً من معتنقي أديان، ذات تراث ثقافي واجتماعي عميق ومتعدد، مثل الإسلام، لا يدون معرفة كبيرة بتراثها، بل على الأغلب يركزون على مشاعرهم وانطباعاتهم الذاتية تجاه الدين، وعدد من رموزه المقتطعة من سياقها الاجتماعي، مثل اللحية والحجاب، وتصوراتهم عن «عقيدة صحيحة» قد تكون متعارضة مع حياة المجتمعات الإسلامية نفسها، بل لا تتورّع عن إدانتها، ووسمها بالابتداع والضلال. ما يجعل الأصولية الشكل الأكثر قدرة على الانتشار بين المعتنقين الجدد للدين.
لا يقصد روا باستخدامه مفردة «الجهل» هنا، إبداء استخفافه بالقدرات المعرفية لمعتنقي الأديان في الشرط المعولم، بل يرى أن هذا الجهل سمة بنيوية من سمات تقدم ونجاح عمليات العلمنة والتحديث على المستوى العالمي: صار الدين نظاماً مستقلاً عن بقية الأنظمة الاجتماعية، ولم يعد متداخلاً بشكل يصعب فصله عن بقية مناحي الحياة، كما أنه لم يعد ناظماً لمختلف العلاقات الاجتماعية والسياسية. وبالتالي فإن العلمنة ألغت الروابط الضرورية بين الدين والثقافة، التي كانت سائدة في ما مضى. وهذا أكسب الأديان مرونة كبيرة. إذ بات يمكن تصديرها بما يتجاوز حدود البيئة والإقليم والثقافة. ومع انحلال كثير من الروابط الاجتماعية، سواء التقليدية، مثل العائلة والعشيرة، أو الحداثية مثل النقابة والحزب السياسي؛ وتسليع الرموز والثقافات والمنتجات اللامادية في الشرط المعولم، تجد الذوات الفردية أمامها سوقاً دينياً واسعاً، مزدهراً بكثير من الخيارات، يمكّنها من الوصول للسلعة الدينية بحرية نسبية، واستهلاكها، ثم التخلي عنها إذا أرادت، أي إذا شئتَ «استهلاك» الإسلام أو المسيحية أو البوذية، فلم تعد مضطراً لمعرفة المجتمعات والثقافات التي أنتجت هذه الأديان، بل يكفي أن يقدم لك الدين «تجربة» وسلسلة من الرموز القابلة للاستهلاك.
إلا أن «الجهل المقدس» لا يبدو مقتصراً على الأديان ومعتنقيها، فمتجر الرموز والقيم العالمي يحوي سلعاً شديدة التنوّع.. لا تقوم فقط على الانفصال بين الديني والثقافي، بل أيضاً على فصل أشمل بين الذاتي والاجتماعي، فما أبعاد هذا الفصل؟ وما أهم سمات الأصولية غير الدينية؟
حقيقة الذات المضطهدة
سبق لعدد من دارسي الإسلام السياسي ملاحظة منطق أساسي وراء عمليات الأسلمة، التي رافقت حركات الإحياء الديني الحديثة: تتم إدانة المجتمعات، التي يعتبر الإسلام أحد أهم مكوناتها الثقافية، بوصفها ابتعدت عن الحقيقة الدينية. ولذلك لا بد من تصويب ثقافتها، أو حتى إلغائها، لحساب عملية يمكن تسميتها بـ»إعادة أسلمة المسلمين». ولطالما نسب المصلحون الدينيون مشاكل مجتمعاتهم إلى «المسلمين» أي البشر المتعينين في زمان ومكان معين، والإسلام الحقيقي منهم براء.
يفترض هذا المنظور أن هنالك مجموعة من الذوات «القابضة على الجمر» أي أفراداً أقرب لحقيقة الإسلام الكونية، يجدون أنفسهم غرباء عن مظالم ومفاسد مجتمعاتهم. وغالباً ما يكونون معرضين لاضطهادها، إلا أنهم مستعلون بإيمانهم بالحقيقة، التي تمنحهم شرعية لإعادة تصويب المجتمعات وفق أحكامها. هذه الأفكار تفترض فصلاً للذاتي عن الاجتماعي، وهي ذات منشأ حديث، وأقرب للمنظور الرومانسي الغربي، حتى لو كان لها ما يسندها من أحاديث وأفكار معاد تأويلها في التراث الإسلامي. ويمكن إيجاد نظير لها في معظم أشكال الأصولية المعاصرة.. الدينية واللادينية.
يبدو المجتمع، وفق هذا المنظور، موطناً للقمع والأذى، الذي يهدد حقيقة الذات، وتجاربها الفريدة، أو المتصلة بوحي مقدس، ويجب بالتالي إعادة تصويب المجتمع، لجعله أكثر مراعاة للحقيقة التي تحملها الذات. وإذا كانت الأصولية الدينية تسعى إلى إقامة «مدن الله» على الأرض، فإن أشكالاً أخرى من الذاتوية ترى أنه بالإمكان تصويب اللغة والسلوك الاجتماعي، ليس بهدف إقامة يوتوبيا أرضية، بقدر إقامة نظام، يساعد الذوات على الاحتفاظ بحقيقتها، دون أي «اعتداء» كبير أو مصغّر، من المجتمع.
يمكن رصد تطور هذا المنظور الذاتوي مع الهيمنة التي حققتها الأيديولوجيا النيوليبرالية، منذ سبعينيات القرن الماضي (وهو تاريخ متزامن مع تقدم الأسلمة) فقد اعتُبرت الروابط الاجتماعية معيقة لتطور الذات الفردية، وقدرتها على المرونة والتكيّف، وتحقيق المنافع المادية. هكذا عُدّ العامل النقابي مثلاً، نموذجاً بليداً، معتمداً على تجميد شروط العمل وحقوقه، ودعم دولة الرفاه لكيانات أبوية، مثل العائلة والنقابة ومؤسسات الرعاية الاجتماعية، فيما تم تمجيد نموذج العامل المرن، الذي يبيع قوة عمله بشكل مباشر لرب العمل، دون أي تدخل من أي جهة، وبشروط «حرة». ومع تقدم تسليع المنتجات غير المادية، مثل الرموز والهويات والعواطف، صار من الواجب حماية مرونة منتجيها، والتأكيد على حقيقتهم الفردية، التي بات بالإمكان بيعها بكل الأشكال الممكنة. هكذا ثوّرت الأيديولوجيا النيوليبرالية الذوات الفردية ضد المجتمع وروابطه، وصار متجر القيم المعولم يحوي كثيراً من السلع، التي يمكن لها زيادة تحصين الذات الفردية. فالدين، النسوية، مكافحة العنصرية والتمييز، حماية البيئة، الاضطهاد التاريخي، كلها عناصر يمكن استخدامها لإنتاج مساحات آمنة، يمكن فيها تسويق الذات بشكل أفضل، أو أكثر حرية بمنطق السوق، وكل هذه القيم محمية بنمط معقد من «الجهل المقدس» فهي قد فُصلت عن السياقات الاجتماعية والثقافية التي نشأت فيها. فصار يمكن لسيدة بورجوازية مثلاً أن تستولي على عناصر من نضال النساء العاملات التاريخي، باسم النسوية؛ أو لأستاذ ملوّن في جامعة غربية أن يسم نضالات محلية في العالم الثالث بالخضوع لـ»المركزية الغربية».
نزع السياق التواصلي
قد لا تكون الدعوة لتحرير البشر من الحتمية الثقافية لمجتمعاتهم مقتصرة على الأصوليين الدينيين، بل من أساسيات التنوير، خاصة صيغه الأكثر راديكالية، التي جذّرت الدعوة إلى الشجاعة في استخدام العقل، في مواجهة ما هو مترسّخ في التقليد الثقافي وتراتبياته القائمة، ما يجعل من الممكن الحديث عن نزعة تنويرية في الأصولية، أو عن جذر ديني واضح للفكر التنويري.
رغم هذا فإن ما قد يميّز التنوير الراديكالي عن أي نزعة دينية هو سعيه لـ»نزع السحر» عن كل حقيقة تعتبر ثابتة أو مطلقة، بما فيها حقائق التنوير نفسه، مثل العقل والحرية والتقدم، ومحاولة فهمها ضمن علاقة أو سياق غير متعالٍ عن حياة البشر أو التاريخ أو الطبيعة. يُنظر بهذا المعنى إلى الحقيقة بوصفها سياقية ومحايثة. لا تتجسد في ذات معينة، سواء كانت ذاتاً مطلقة، فوق الطبيعة؛ أو ذاتاً فردية، تمتلك تجارب خاصة لا يمكن مناقشة مصداقيتها. فتغدو الحقيقة «بين ذاتية» أي نتيجة سياق معيّن من العلاقات، وتبادل الرموز والمنتجات والحجج بين البشر. ما يبني الذوات والهويات والتصورات الفردية نفسها. وكثيرٌ من نظريات التنوير، ونقد التنوير من منظور غير رجعي، قامت على نقد جذري لمفهوم الحقيقة المتعالية، مثل الماركسية بتوضيحها لعلاقات الإنتاج، ونقدها لاغتراب المنتجين وفيتشية السلع؛ والبنيوية بتركيزها على البنى والأنساق واستبعادها للذوات؛ ونظريات التواصل بصيغها المتعددة، كما لدى يورغن هابرماس ونيكلاس لومان، التي تسعى لفهم دور اللغة وأنظمة التواصل في صياغة الهويات الفردية، وإنتاج «العقلانية» في عصر معين، ما أظهر مشروع التنوير بوصفه خطاباً مفتوحاً، لم يقل بعد كل ما عنده.
النقد الاجتماعي
لا يعني فهم أولوية المجتمع وسياقات التواصل في تكوين الذوات، اتخاذ موقف محافظ، أو مؤيد للمظالم وعلاقات الاستغلال والتمييز، التي قامت عليها المجتمعات عبر التاريخ المدوّن، لكنه يُمكّن من التمييز بين نمطين من النقد: «نقد المجتمع» و»النقد الاجتماعي».
يقوم نقد المجتمع على إدانة أخلاقية ذاتية لحياة البشر وأنماط حياتهم، بوصفها لا تتسق مع الحقيقة أو الفضيلة أو العدالة، ويعطي الأحقية لأصحابه بفرض نوع من الرقابة، أو إجراء هندسة اجتماعية على حياة البشر لتقويمها، فيما ينبني النقد الاجتماعي على إدراك العلاقات والسياقات المقعدة، التي يدخل بها البشر، في إنتاجهم وتواصلهم، وتكوينهم لثقافاتهم وقيمهم، والوظائف الاجتماعية التي تلبيها، وصولاً إلى تعيين إمكانيات التغيير من داخل تلك العلاقات والسياقات، وليس بالاستعلاء عليها. بهذا المعنى تغدو تجريدات نظرية، لطالما اعتبرت جذر الشرور، مثل الرأسمالية والمجتمع الأبوي والكولونيالية، نتيجة لعلاقة متعددة الأوجه والاتجاهات بين البشر، لا يمكن اختزالها بثنائية جلاد وضحية، أو أشرار ومظلومين، ويمكن من جهة أخرى تحديد اتجاهات القوة في المجتمع، والبناء عليها، لتحقيق تغيير لمصلحة فئات معينة، أي تفعيل القدرات الكامنة في العلاقات الاجتماعية، بدلاً من تعطيلها باسم حماية الضحايا وحساسياتهم، القائمة على كثير من «الجهل المقدس».
كاتب سوري
القدس العربي