الفن السوري بعد 2011: بين الفنّي والأخلاقي/ ور عسلية
لا يخفى على أحد من المطّلعين على المشهد الثقافيّ السوريّ بعد عام 2011 الزخم الإبداعيّ الذي أفرزَته الفنون التشكيليّة تجاوباً مع هولِ الأحداث والتغيرات الجذريّة الطارئة، وأن هذا النتاج جاءَ أحياناً ملاصقاً للوقائع ومصوّراً أو مناهضاً لها. انبثقتْ حول هذه الأعمال العديد من الكتابات وعمليات التوثيق والعروض، إلّا أنّها لم تكن دوماً مفرّقة بين الغاية الفنيّة والغاية الإنسانيّة المتعلّقة بالقضيّة وهمومها المتشعّبة إلى جزئيات شديدةِ التعقيد والوطأة. لكنّ الأعمال بدورِها لم تكن دوماً على سويّة إبداعيّة واحدة، حتى في أعمال الفنان الواحدِ، حيث ترتبط هذه الظاهرة حكماً بالبعد الإنسانيّ للفنان والتقمص التعاطفيّ، وتفضي إلى السؤال الدائم التجددِ عن علاقة الفنّ بالأخلاق.
بدايةً أجد أن لا بدّ هنا من الإشارة إلى أنّ ما أقصده بالفنونِ التشكيليّة هي أعمال النحتِ وما ينتمي إليها بناءً على تعاريف معاصرة من أعمال التركيب والتجهيز، وأعمال الرسم والحفر وما يندرج تحتها من رسم رقميّ وتصاميم غرافيكيّة. ولعلَّ رغبتي بهذا التحديد نابعة من ملاحظة حول تكرر الخلط بين تصنيفات الممارسات الفنيّة: الفنون الجميلة والفنون البصريّة والفنون التشكيليّة، فهي مختلفة حتى إن تقاطعت وتشاركت فيما بينها ببعض الفنون. إضافة إلى ذلك فإنّ تعريف كل واحد من الحقول المذكورة قد تغيير مراراً، منذ ولادة أول تنظير فلسفيّ واضح عن الفنّ في «فلسفة الجمال» لبومغارتن 1758 و«نقد ملكة الحكم» لكانط منذ عام 1790، وفي دروس «علم الجمال أو فلسفة الفنّ» لهيغل التي ابتدأها منذ عام 1818، وحتى ظهورِ أحدث الطروحات الجماليّة التي ما انفكّت تُسائل مفاهيم الفنّ وفلسفته. فعلى سبيل المثال ظلَّ فنّا الشعر والموسيقى حتى بداية القرن العشرين يعتبران من الفنون الجميلة، في حين أن بداية تسمية الفنون التشكيليّة كانت متعلّقة بالنحت والعمارة. أما عن الفنون البصريّة فتشمل في التعريف المعاصر الفنون الوليدة بعد اختراع آلات التصوير الساكن والمتحرك، أي التصوير الضوئي والسينمائي. ولهذه الإشارة غرض آخر وهو تحديد الخلفية التي يستند إليها التساؤل البارز في هذا المقال حول الفن السوري، والتي تتوخى التفكير في غاية الفنّ السوري ودوافعه من منظور فلسفي جمالي (استطيقي).
خلال العامين 2012 و2013، تدفقت صورُ أعمال الفنانين السورييّن على وسائل التواصل الاجتماعيّ بطريقة غير مسبوقة. بدأتْ بسبب رغبتهم التلقائيّة في التعبير في ظلّ العنف الذي اشتعل في كل أنحاء البلاد. بدى هذا العنف المعاد إصداره في صياغات فنيّة كرسالة صارخة في وجه عالم صامت إزاء هول الحرب والدمار والموت الجماعيّ. لكن وسائط إيصال هذا الصوت تعدّدت، بعض الفنانين أبقوا على طرائقهم الفنيّة أو قاموا بتطويرها، نرى ذلك في لوحات منيف عجاج منذ عام 2012 في سلسلة من الأعمال التي صوّرت الدكتاتور والسجانين، ورسوم ومحفورات عزّة أبو ربعيّة مثل عمل «الأخيرون» عام 2014، ولوحات عمران يونس في مجموعة «صرخة» 17-2018، و مجموعة رسوم «عالم الرجال» لمحمد عمران 2018، وأعمال ياسر الصافي من لوحات ومحفورات مثل «الجنرال يدخّن» و«الشارع الآن» والصور المركبّة لإيمان حاصباني مثل «الانفصال» عام 2017. لكنّ فنانين آخرين اتجهوا إلى وسائط جديدة، كان أبرزها الإنشاءات بالرسم أو التصميم الرقميّ وإعادة إنتاج الصورة (فوتومونتاج) أو الأفلام القصيرة أو الفيديو آرت. اتجه فنانون ممّن عبّروا دوماً عن طريق الوسائط الرقميّة إلى إنتاج أعمال مناهضة للعنف مثل دينو أحمد علي في مجموعة من الملصقات والرسوم الرقميّة «حريّة الوهم» بين عاميّ 2014 و2015، والتي احتوت على عناصر بصريّة تشير إلى العنف مثل الدماء وآثار الدبابات والأسلحة. لكنّ آخرين ممّن لم يكونوا قد اشتهروا بتوظيف هذه الوسائط في فنّهم، رغم إتقانهم لها، تحولوا إلى استخدامها بشكل متكرر مثل تمام عزّام في مجموعة «المتحف السوري» 2012 وأمجد وردة في فيديو «هدف لسوريا» 2014 و «حرب في اللوحات الشهيرة» . في المقابل تحوّل بعض الفنانين مثل علاء حمامة إلى فن اللوحة عبر مجموعة «ذاكرة حقيبة» عام 2018 بعد أن كان محترفاً للتصميم الغرافيكيّ والتصوير الضوئيّ.
أثارت هذه الأمثلة لديّ تساؤلات عديدة ومتشعّبة، مفادها التفكير في الغاية أو الغايات الجماليّة للفن السوري المعاصر. أستعرض منها هنا باقتضاب معطيات العنف الظاهر في الفن السوريّ المتعدد الطبقات، ودوافع هذه التحولات والاستخدامات الجديدة.
قبل الثورة نزع العديد من الفنانين السورييّن إلى تمثيل الجميل والإنسانيّ والمعبّر عن الذات والذاكرة، وقلّما برز العنف واضحاً كما يظهر اليوم دمويّاً متشظيّاً، كاشفاً الستار عن سنوات من الكبت والتعنيف الاجتماعيّ والمدرسيّ والسياسيّ الممنهج. ابتداءً من عام 2011 تجلّت لغة المشهد التشكيليّ السوريّ المعاصر في مفاهيم ومفردات مشتركة، لكل منها تفاسير وتأويلات فلسفية بحد ذاته، مفاهيمَ وحقائق مثل الدمّار والموت والحنين والتهجير، ومفردات مثل البورتريهات الشخصيّة والجسد البشريّ والعناصر الحيوانيّة وعناصر جامدة منها ما تكرر لدى العديد من الفنانين مثل الحقائب والمعتقل والأسلحة.
ظهر العنف في العمل الفنيّ بدايةً ليشير إلى القتل، لكنه سرعان ما أصبح أداةً للمقاومة على الصعيد الشخصيّ والصعيد العام. على المستوى الشخصيّ، كان لا بد لبعض الفنانين من إخراجِ هذه المشاهد وإعادة تصنيعها في صياغاتهم الفنيّة، منافذهم الوحيدة ووسيلتهم للتواصل مع العالم. على المستوى العام، لفتتْ هذه الصور، المجمّلة باسم الفنّ، نظرَ المواطنين في بلدان عديدة، لم يكن سكانها أو لم يعودوا على استعداد للنظر في وجه المجزرة وفيضِ الدم. لقد أبرزتْ معظم الأعمال التي احتوتْ على درجة ما من العنف الدور الثنائيّ للفنان في تمثيل الداخل من جهة، والتأكيدِ على حقيقة حضور وتأثير الفنّ في الشارع السوريّ أمام العالم من جهة أخرى، وهي حقيقةُ كانت مجهولة لدرجة بعيدة، بشهادة العديد من الفنانين السورييّن. صحيح أنّ وسائل التواصل الاجتماعيّ قد لعبت دوراً كبيراً في نشر أعمال الفنانين السوريين، إلّا أن هذه الشهرة في معظم الأحيان لم تكن غايةً، فلقد تسبب انتشار الفنانين في الشتات بفقدانهم لمنازلهم ومراسمهم وعوامل استقرارهم واستحالة توفّر أماكن للعرض خصوصاً في السنوات الأولى، واقتضت الضرورة إيجاد أدواتِ تعبير تواكب الراهنَ، أي إنتاج عمل يخاطب اللحظة التاريخيّة ويشير إليها، لكن أيضاً يواكب لغة هذه اللحظة وزخم الوسائط التكنولوجيّة.
في المقابل فإن تحوّل بعض الفنانين إلى التعبير عبر وسائط مغايرة عن التي استخدموها سابقاً قد أشار أحياناً إلى رغبة في التحرر والتغيير، وعلى نقيض ذلك في أحيان أخرى إلى عجز، إنسانيّ وليس فنياً، عن الاستمرار بالقيام بفعل مألوف سابق للأحداث. ولربما أن الحالتين على اختلافهما تشيان بتسرب الروحِ الثوريّة إلى الفعل الفنيّ ذاته. ومن هنا أعاد العديد من الفنانين السورييّن وضع مفاهيم الفنّ تحت التساؤل والتشكيك بالمنحى الفنيّ والمنحى الإنسانيّ، فاحتكاك العديد بأوساط جديدة، أتاح في معظم الحالات اطلاعاً عمليّاً على مشاهد فنيّة أخرى من العالم، وقد ساهم ذلك في تفتيح مسارات أكثر جرأة، لكن انتماء هؤلاء الفنانين الإنساني طرح أمامهم أيضاً أسئلة جذريّة جوهريّة، أدفع هنا بها موقعي كفنانة سوريّة وبحكم اطلاعي على مسارات الزملاء وظروف عيشهم المهنية والذاتية، إذ أن من هذه الأسئلة ما هو وجوديّ، فما معنى الفنّ إزاء المجزرة؟ ومنها إنسانيّ ملتزم: كيف للفنّ أن يساهم في نقل الحقائق؟ وقضايا أخرى مثل السؤال المهنيّ حول مفارقة ينطوي عليها بيع الأعمالِ الفنية المنجزة في ظلّ الحرب ومن وحيها، وضيق الأحوال الاقتصادية وصعوبة توفير أوّليات العمل في بلدان اللجوء، بالإضافة إلى مواجهة أسئلة شخصيّة مثل: هل أنفقُ مدّخراتي على فنّي أم أرسلها لتقيتَ عائلتي في الداخل؟ وتساؤلات أخرى لا سبيل لاختصارها هنا.
والحقيقة أن اللافتَ في الفترة ما بعد 2011 هو جمود الحضور الفنيّ لجيل الفنانين الأكبر سناً، وقد يرجع السبب إلى افتقار البعض للاندفاع الثوريّ أو عدم إدراكه لحقيقة الحراك ومعطياته أو إلى أفكار متعلقة بالتخوّف من سلطة النظام واستبداده، فلربما أن العديد من الفنانين قد أنتجوا أعمالاً تحاكي المرحلةَ دون أن يمتلكوا جرأة عرضِها، ومن الممكن أنّ يرجعُ هذا الجمود إلى أسباب أخرى تتعلق بثبات الأسلوب الفنيّ، واستقرار النظرةِ الجماليّة أو الشعور بالارتباك أمام هول الدمّار.
في خضمّ كلّ تلك التغيرات، وبعيداً عن التقييم النقديّ للأعمال، تبرز إشكاليّة الالتزام الأخلاقيّ، فهل من الجائز تقديم التزام الفنّ بالقضايا الأخلاقية على التزامه بالقضايا الجماليّة؟ يدور هذا التساؤل بتشعباته في نقاشات متنوّعة المحاور في أوساط السورييّن المشتغلين في الحقل الثقافيّ والفنيّ، بل تكاد تكون باباً لمحاكماتِ الانتماء والهوية.
في الواقع، إنّ أولَّ القراءاتِ المعروفةِ حول مفاهيم الجمال وجدتْ لدى أفلاطون في تنظيراته ضمن فلسفة الأخلاق، حيث كان الجميل لا ينفصل عن القيم الثلاث: الخير والحقّ والجمال. ومن الواضح في المشهد التشكيليّ السوريّ المعاصر أن هناك توجّه نحو فنّ أخلاقيّ ملتزم. إلّا أنّ الفنَّ من وجهة نظر فلسفة الجمال المعاصرة ليس محصوراً ضمن الأطر الأخلاقيّة، فهي بذاتها متغيّرة وتختلف بشدّة بين الثقافات المختلفة، إضافة إلى أنّ محاكمة الفنان تبعاً لمنطلقات أخلاقيّة ستصطدم بعامل يفترض به أن يكون متضمناً في طبيعة الفعلِ الفنيّ وهو شرط امتلاك حريّة التعبير. ولست هنا أدعو على الإطلاق إلى غضّ النظر عن مواقف تؤيد القتل أو تحض عليه، إنما هي دعوة إلى التأمل في خطورة نسف نتاج فنيّ مبدع بناءً على وجوده خارج منظومة ما، لمجرد انتمائي إليها وإيماني بها، وإلى فصل الحكم الأخلاقيّ عن الحكم الجماليّ، فإنّ من أهم معايير النقد الجماليّ أن يكون موضوعيّاً. وفي المقابل، ليس في مصلحةِ الفنّ السوريّ تمجيدَ أعمال لا تمتلك سمات إبداعيّة، خصوصاً من قبل غير المتخصّصين، فقط بسبب مناصرةِ أصحابها للقضيّة أو إيمانهم بأحقيّتها وعدالتها.
موقع الجمهورية