ثلاث صور لروسيا في ثلاثة قرون/ ياسين الحاج صالح
عرف العرب صورتين لروسيا في القرن العشرين: سوفييتية سياسية، وقبلها قيصرية أدبية. ونعرف منذ ست سنوات ونيف صورة ثالثة، قومية عسكرية.
انتشرت الصورة السوفييتية بعد الحرب العالمية الثانية وبالتزامن مع حركة نزع الاستعمار. وقتها كان الاتحاد السوفييتي قطباً دولياً، داعماً للحركات التحررية المناهضة للمستعمرين الغربيين، وجزءاً من «قوى ثورية عالمية» تضم إلى جانبه وبلدان «المعسكر الاشتراكي» المنضوية تحت لوائه كلا من الحركات العمالية في الغرب الرأسمالي الصناعي وحركات التحرر الوطني في البلدان المستقلة حديثاً، بحسب ما كان شائعاً قوله وقتها. مزج الاتحاد السوفييتي بين كونه قوة دولية مُهابة وبين الشيوعية كدعوة للعدالة ووعد بالخلاص، يشمل البشرية كلها. كان وجود الاتحاد السوفييتي، يعطي فكرة واضحة، بل ملموسة، عن اتجاه التاريخ وعن المستقبل: الثورة بقيادة الحزب الشيوعي فالاشتراكية فالشيوعية. السير في الاتجاه المعاكس لم يكن متصوراً، وحين وقع انقلاب بينوشيت في التشيلي وقتل الرئيس المنتخب سلفادور أللندي بدا هذا فضيحة تاريخية، انتهاكاً غير معقول للتاريخ ذاته، ربما سهل من أمره تهاون من طرف أللندي مع تعددية سياسية وانتخابات حرة كان وصل إلى السلطة بفضلها في المقام الأول. وقتها كتب شاعر شيوعي سوري قصيدة يلوم فيه لويس كورفلان، الأمين العام للحزب الشيوعي التشيلي (حتى وفاته 2010) يقول فيها: يا رفيقي كورفلان، كيف تبنى دولة العمال في ظل البرلمان! كان الاقتناع بتفوق الاشتراكية التي يمتزج فيها حكم الحزب الشيوعي عبر الثورة مع ملكية الدولة لوسائل الإنتاج راسخاً، ولا يشبه شيئاً مما نعرف في أيامنا غير يقين المتدينين بصواب عقيدتهم وتفوقها على غيرها. كانت العلاقة مع الاتحاد السوفييتي تنتمي إلى مجال الحب والمشاعر الحميمة وليس إلى مجال المصلحة والعلاقات التحالفية المحتملة بين الدول.
دعم القضايا العربية كان مصداقاً لخيرية الاتحاد السوفييتي، وموقفاً «مبدئياً ثابتاً» بلغة تلك الأيام من قبل «المنظومة الاشتراكية وعلى رأسها الاتحاد السوفييتي الصديق» إلى جانب كفاح الشعوب، وليس تقاطعاً تاريخياً عارضاً أو حساباً سياسياً عقلانياً. ورغم أنه لم يكن مقبولاً رد الاتحاد السوفييتي إلى روسيا على ما كان يثابر على فعله إعلام يميني عربي محاكياً الإعلام الغربي السائد، إلا أن مركزية روسيا في الاتحاد السوفييتي كانت أمراً مفهوماً، خلافاً لأي نزعات استقلالية محتملة ضمن المجال السوفييتي.
ساعدت روسيا، عبر الإطار السوفييتي، نحو جيلين من شيوعيين ويساريين عرب على نقد الغرب الامبريالي الاستعماري على أرضية التقدم، وليس على أرضية ماضوية وهويتية. كان الغرب الرأسمالي رجعياً حتى سبعينيات، بل ثمانينيات، القرن العشرين، وسنداً للرجعية في مجالنا لأنه هو ذاته رجعي. قلما ننتبه إلى النقلة الكبيرة التي تمثلت في أنه لم تبق صورة للتقدم بعد سقوط الاتحاد السوفييتي ومعسكره غير صورة الديمقراطية الليبرالية والرأسمالية في الغرب. انتقل الغرب على نحو خاطف من كونه رجعياً إلى كونه الصورة «الطبيعية» للتقدم. الخبر السيئ الذي زاد الأمور تشوشاً أن فكرة التقدم كانت سلفاً في أزمة، إن بفعل النظر في التاريخ السياسي للغرب، وبخاصة الحربين العالميتين ونهاية الثانية منهما بقصف أمريكي ذري لمدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين، أو بفعل استنزاف «النمو» للموارد الطبيعية وظهور المسألة البيئية.
هناك روسيا أخرى عرفناها هي الأخرى في القرن العشرين، هي روسيا الأدبية في القرن التاسع عشر: بوشكين وغوغول ودستويفسكي وتولستوي وتورغنيف وتشيخوف وغيرهم. روسيا المتخلفة اقتصادياً وصناعياً، الواقعة تحت حكم أوتوقراطي مطلق، والتي عرفت القنانة حتى عام 1861، عاشت معاصرتها لأوروبا الغربية روائياً، دون أن تكون معاصرة لها على أي صعيد آخر. (كان ماركس يقول عن ألمانيا في أيامه بأنها معاصرة فلسفياً لأوروبا الرأسمالية الصناعية، بريطانيا وفرنسا تحديداً، دون أن تكون معاصرة لهما اقتصادياً وسياسياً). الترجمات العربية للأدب الروسي عرفت على نطاق واسع نسبياً في النصف الثاني من خمسينيات القرن العشرين ما بعد، ولعله حظي من الاهتمام والتقدير بما لم تحظ به أي آداب أخرى مترجمة إلى العربية في ذلك الوقت.
بنظرة راجعة قد نتبين استمرارية بين «روسيا الأبدية» التي تعي نفسها كمركز عالمي، وتنسب لنفسها رسالة مقدسة، تتصل بالمسيحية الأرثوذكسية (مثلما تتصل رسالة «الأمة العربية» بالإسلام) وبين روسيا السوفييتية، «وطن الاشتراكية الأول» وقائدة العالم نحو المستقبل لنحو ثلاثة أرباع القرن. كلا الروسيتين امبراطوريتان وتوسعيتان. وبصورة ما أنقذ الاتحاد السوفييتي الامبراطورية الروسية من التفكك بأن أعاد إقامتها على أسس فكرية وأخلاقية جديدة. سقوط الامبراطورية الروسية تأجل بالتالي ثلاثة أرباع القرن.
على أن هناك روسيا ثالثة أخذنا نعرفها، نحن السوريين بخاصة، في القرن الحادي والعشرين، روسيا البوتينية، التي تفاخرت مراراً بأنها جربت أصنافاً من الأسلحة في سوريا وصل عددها إلى 300 بحسب أحدث تفاخر لوزير الدفاع الروسي. ليست هذه روسيا سياسية، تصدر عن عقيدة عالمية مهيمنة أو منازعة على الهيمنة عالمياً، وتحدد بصورة ما سياساتها، ولا هي روسيا أدبية نغتني بالتعرف على آدابها ونتعلم منها، وإنما هي روسيا عسكرية بالغة القسوة، تدعم نظام طغيان إجرامي وعظيم الفساد، وتقصف مشافي وأسواقا ومرافق مدنية، وتعمل على تعظيم وزنها العالمي بهذه الأساليب المتوحشة، وهذا بعد نحو ربع قرن من التراجع. ويحكمها في الداخل قيصر جديد، أبدي، بالغ الثراء، وقومي متشدد. وتظهر وجهاً دينياً متعصباً يجمع بين الكلام على حماية المسيحيين وبين رفض قيام حكم سني في سوريا. الصفاقة الروسية شيء مميز، نظائره قليلة حتى في زمن العتو الامبريالي الأوروبي بين الثلث الأخير من القرن التاسع عشر والحرب العالمية الثانية.
كانت روسيا قلعة للرجعية في أوروبا في القرن التاسع عشر، ووصفها ماركس بأنها سجن الشعوب. روسيا اليوم من جديد سجانة للعديد من الشعوب، في جورجيا وأوكرانيا وسوريا، وضمن روسيا نفسها. وهي أظهرت عداء مبكراً للربيع العربي ومنزعاً نخبوياً دولانياً، يذكر بقوة بروسيا القيصرية المعادية للثورات في أوروبا.
لروسيا البوتينية السجانة إسهام إيديولوجي معزز لهذا الاتجاه العام، يتمثل في الدوغينينة، نسبة إلى ألكسندر دوغين، فيلسوف البوتينية وإيديولوجيها. دوغين هذا مفكر روسي قومي متطرف، يخضع الحقيقة للهوية القومية التي ترى ثابتة، فيكون لدينا حقائق بعدد التقاليد الثقافية، ولا تكون الليبرالية والديمقراطية وحقوق الإنسان غير شكل الحقيقة الذي تعمل على فرضه الامبرياليات الغربية. هذه الصيغة الروسية من ما بعد الحقيقة تُذكِّر بنظرية العِلْمين، العلم البرجوازي والعلم البروليتاري، التي طلع بها البيولوجي السوفييتي تروفيم ليسنكو في الحقبة الستالينية. في العلم البروليتاري تورِّث الأحياء صفاتها المكتسبة، خلافاً لما يقر العلم البرجوازي. ازدهرت في الحقبة الستالينية نفسها الجدانوفية التي تقسم الثقافة والأدب والفن إلى اثنين، اشتراكي وبرجوازي.
تبدو الدوغينية استمرارأ للجدانوفية دون الجذور العالمية لهذه الأخيرة في الماركسية، وبالتالي التنوير. المشترك هو إخضاع الحقيقة للسلطة أو إنكار استقلال الحقيقة بما يضعفها أمام السلطة. روسيا نشطة جداً على جبهة المعلومات اليوم على نحو يشكك بثبات في موضوعية الحقيقة. تبدو الجدانوفية والدوغينينة معاً استجابة لشعور روسي مستمر بالمركزية والرسالة، يعرض استعداداً للذهاب بعيداً، إلى مواقع يمتزج فيها الدين بالسحر، والعبقرية بالجنون، والعظمة بالتوحش، والرسالة بالاحتيال، مزيج من راسكولنيكوف وراسبوتين.
هذه ثلاث روسيات في ثلاثة قرون. هناك انقطاعات كبيرة وهناك استمراريات، ومن المؤسف أننا لا نكاد نتوفر على دراسات مكتوبة بالعربية تحاول تبين منطق ما في تاريخ روسيا الحديث. تمس الحاجة اليوم إلى مركز عربي، أو سوري على الأقل، للدراسات الروسية، يفكر في بلد كبير ومهم كروسيا في إطار تاريخي وعالمي.
كاتب سوري
القدس العربي