في ميكانيزمات الانتقال الديمقراطي .. عن كتاب عزمي بشارة/ حسين عبد العزيز
أهمية كتب المفكر العربي، عزمي بشارة، في عقلانية طرحها المسائل ضمن مستواها النظري والإمبريقي، فثمّة جدلية بين الفكر والواقع، تظهر بشكل واضح في سياق كتاباته. يدخلك بشارة في جوهر المفكَّر فيه، فيدفعك إلى البحث عن الكلي في خلفيات الوقائع العيانية، فتصبح وأنت تقرأ سطوره مفكّرا تبحث معه عن مكامن الإشكالية المراد بحثها، فتتمثل الفكرة في كينونتها والتاريخ النظري في تجلياته، فلا ينساق وراء السجال الأكاديمي المحض، ولا ينساق وراء متطلبات الواقع الفوري، بل تأتي قراءته مزيجا من هذا وذاك، فتتسم بالتاريخية والعقلانية والموضوعية، لتشكل في مجملها تأطيرا نظريا وتاريخيا لفهم المرحلة.
يأتي كتاب عزمي بشارة “الانتقال الديمقراطي وإشكالياته: دراسة نظرية وتطبيقية مقارنة” (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2020) ضمن سيرورة فكرية بدأت نهاية التسعينيات من القرن الماضي، مع كتابه “المجتمع المدني: دراسة نقدية” الذي وضعه لتصويب النقاش بشأن مفهوم المجتمع المدني، بعدما تحول هذا المصطلح إلى مفهوم أيديولوجي لدى نخبٍ عربية كثيرة وجدت في تطبيقه على أرض الواقع مدخلا لولوج الحداثة السياسية في العالم العربي، ثم استمرّت هذه الصيرورة مع كتابه “في المسألة العربية” المخصّص لبحث معوقات تحقيق الديمقراطية عربيا، مع التركيز على مسألتين مهمتين: أن سبب إعاقة الديمقراطية يكمن في المستوى العربي لا في المستوى الإسلامي. وأن نشوء الديمقراطية يتطلب وجود نخبٍ لا تؤمن بالديمقراطية فحسب، بل قادرة على ممارستها بشكل فردي. وهنا، نحن أمام مثقفٍ باحثٍ أدرك مبكرا على المستوى العربي (قبيل اندلاع الربيع العربي) أهمية الثقافة الديمقراطية للنخب السياسية الفاعلة في تمكين الانتقال نحو الديمقراطية وتعزيزها في مرحلة التحول من النظام الاستبدادي إلى النظام الديمقراطي.
مع سلسلة “الدين والعلمانية في سياق تاريخي” انتقل بشارة إلى مناقشة مسألة العلمانية والعلمنة ضمن قراءة أنثروبولوجية أوضحت السياق النظري لنشوء مصطلح العلمانية وتحوله إلى مفهوم، ثم توضيح العلمنة كصيرورة تاريخية. وتميزت هذه السلسلة عن غيرها من الكتب العربية عن العلمانية في أنها لم تكن قراءة أيديولوجية ذات نمط دوغمائي، إما مؤيدا تماما للعلمانية، كما هي منجزة في مرحلة ما بعد الحداثة السياسية في الغرب، أو رافضا لها تماما على اعتبار أنها تمثل الإلحاد، وتهدّد منظومة الدين. وأهمية ما قدّمه بشارة على مستوى العلمانية يكمن في توضيحه السياق النظري والتاريخي للفرق بين الدين والتدين، وبين العلمنة والدنيوة، وبين اللاأدرية والإلحاد، ثم الفروق الهائلة للعلمانية كما هي متجسّدة في الغرب الديمقراطي ـ الليبرالي.
في سياق مشروعه الفكري الكبير والمتنوع، قدّم عزمي بشارة كتبا عن الثورة والطائفية والحرية، والتجارب الثورية في تونس ومصر وسورية، كاشفا فيها عن العلاقة التي تربط الجيش بالسياسة وخصوصية الاختلاف بين التجارب العربية.
مقدّمات ضرورية
على الرغم من مئات الكتب والأبحاث التي تناولت الديمقراطية والليبرالية والمجتمع المدني في عالمنا العربي خلال العقود الخمسة الماضية، بقيت المكتبة العربية خاليةً من الدراسات العميقة حول اللحظة التاريخية في عملية الانتقال الديمقراطي، وإنْ كانت المكتبة العربية مليئة بالدراسات التي تناولت المرحلة الانتقالية بين الرأسمالية والشيوعية من المنظار الماركسي، وهي مسألة أخرى تختلف تماما عن عمليات الانتقال من النظام الاستبدادي إلى النظام الديمقراطي.
بسبب غياب الديمقراطية تاريخيا في العالم العربي أولا، والبنية الاستبدادية القائمة ثانيا، والتنوع القومي والإثني ثالثا، ومنظومات القرابة والزبونية والدينية رابعا، والعاملين، الإقليمي والدولي، خامسا، لجأ بشارة إلى مناهج وتخصصات مختلفة: علم السياسة، علم الاجتماع، الأنثروبولوجيا، التاريخ، إذ لا يمكن فصل دراسات الانتقال الديمقراطي عن قضايا أخرى، مثل، الأمة والقومية، والمجتمع المدني، والطائفية، وقضايا الهوية، ومسألة بناء الأمة، وطبيعة الأنظمة السلطوية، ودور الجيش في السياسة.
لم تأخذ دراسات الانتقال الديمقراطي الأولى البعد الخارجي في عمليات التحوّل في أثناء دراستها جنوب أوروبا وأميركا اللاتينية، كما لم تتعرّض لقضايا مركّبة كتلك القائمة في البلقان وأوروبا الشرقية وجمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، حيث تبرز شروخٌ تاريخيةٌ وقضايا إثنية معقدة تعرقل الديمقرطية. وعليه، لا يجب التعامل مع مناهج العلوم الاجتماعية ومصطلحاتها التاريخية بمجملها كما هي، لأنها وليدة بيئةٍ معينة، وهنا يكمن التحدي عند بشارة الذي حرص كثيرا على تقديم إسهام نظري في التعامل مع هذه المفاهيم نقديا، من خلال إخضاعها للفحص النظري وامتحانها على حالاتٍ معينة، خصوصا في الواقع العربي.
ومع أن الكتاب قائم على دراسات الانتقال الديمقراطي، إلا أن الكاتب لا يغفل نظريات التحديث التقليدية التي تعرّضت لنقد شديد خلال العقود الخمسة الماضية، لإغفالها دور الخيارات السياسية للفاعلين وتركيزها على العوامل البنيوية والوظيفية، فهي ما تزال تحتوي على ما هو ثمين في عمليات التفسير.
لا يقع بشارة، وقد عوّد قراءه على هذا دائما، في الأوهام التي وقع فيها بعض المفكرين الكبار، فراهنية الديمقراطية في عالمنا العربي، من وجهة نظره، لا تُختزل في العملية الانتخابية، باعتبارها هدفا بحد ذاته، كما هي عند الفاعلين السياسيين، ذلك أن راهنية الديمقراطية في بلداننا العربية تكمن في أنها تتضمّن جوابا مباشرا عن مسألة حماية المواطنين من تعسّف السلطة، وهو الهدف المباشر للأفراد والجماعة الاجتماعية.
وفي هذه الفقرة، يظهر الفرق الجلي بين المثقف الذي يتعاطى مع الديمقراطية، بوصفها منجزا نظريا جاهزا للتطبيق عمليا في أية لحظة وسهولة الوصول إليها، والمثقف الذي ينظر إلى الديمقراطية من المنظار التاريخي، وتاريخية الديمقراطية هنا هي الديمقراطية السلبية التي تنهي التعسّف السياسي، كمقدمة للانتقال إلى الديمقراطية الإيجابية (تداول السلطة، فصل السلطات، المواطنة، الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية).
وسيقود اختزال الديمقراطية في العملية الانتخابية فقط إلى نشوء نظام ديمقراطي تكون فيه الليبرالية ضعيفة، في حين أن راهنية الديمقراطية تكمن في وقف تعسف السلطة. إنها الديمقراطية السلبية الضرورية من أجل تطوير الليبرالية إلى جانب الديمقراطية. وثمّة فرق بين المجتمعات التي انتقلت إلى الديمقراطية بعد مرحلة طويلة من الليبرالية وتلك التي انتقلت إلى الديمقراطية بعد مرحلة طويلة من الاستبداد.
في الحالة الأولى، تكون عملية تحقق الديمقراطية عملية سلسة، لأن الحريات المدنية متوفرة مسبقا، في حين يكون الانتقال إلى الديمقراطية في الحالة الثانية معقدا، بسبب التاريخ الطويل للاستبداد وغياب الحريات المدنية. الإمكانية متاحة لاستدامة الديمقرطية، في حين لا يكون الأمر كذلك في الحالة الثانية، لذا يتفق بشارة مع نظريات التحديث التي نشأت منذ منتصف القرن العشرين، ونظريات الانتقال الديمقراطي في الإجماع على الدولة، وفي أن شروط نظرية التحديث تتعلق باستدامة الديمقراطية لا بنشوئها، غير أن بشارة لا يكتفي بهذين الشرطين في بعض الحالات، مثل الحالة العربية. ولذلك وضع ستة شروط أخرى لجعل العملية الانتقالية نحو الديمقراطية تصبح ممكنة: إمكانية انشقاق النخبة الحاكمة بسبب الثورات لا بسبب إصلاحات من أعلى. ضرورة توافر حد أدنى من الثقافة الديمقراطية لدى نخب المعارضة والسلطة. عدم معارضة الجيش عملية الانتقال نحو الديمقراطية. كلما قلت أهمية الدولة جيوستراتيجيا قل وزن الدور السالب للعوامل الخارجية. لا يمكن حكم الدولة بأكثرية ضئيلة في مرحلة الانتقال الديمقراطي. ضرورة الاهتمام بالتنمية الاقتصادية والتعليم في مرحلة ترسيخ الديمقراطية.
وبما أنه من المستحيل إعادة التعاقب التاريخي لنشوء الديمقراطية كما حدث في القارة الأوروبية إبان القرنين الـ 18 والـ 19، ركز بشارة على تطبيق دروس هذا التعاقب، عبر ترتيب الأولويات بعد الثورة أو خلال عملية الإصلاح، وذلك بضمان تطبيق الإصلاحات في مجال الحقوق والحرّيات قبل إجراء الانتخابات التنافسية.
الانتقال الديمقراطي ونظريات التحديث
يقدّم بشارة لمحة سريعة حول نظريات التحديث ونظريات الانتقال الديمقراطي، لكنها لمحة كافية لجهة الوقوف على الناظم الجوهري فيها أولا، ولجهة نقد عموميتها ثانيا، ولجهة امتحانها في الواقع العربي ثالثا.
يرفض البعد النسقي في نظريات التحديث، لأن التحديث ليس عملية ذات تتابع تراكمي بالضرورة، فقد ينتهي إلى نتائج مناقضة للحداثة، وبالتالي ليس كل تحديثٍ ينتهي إلى الديمقراطية. وفي رأي بشارة، أخطر أثر للتحديث المتأخر والسريع وغير المتكافئ والمفروض من أعلى هو تحوّل الجماعات المنكفئة على نفسها، والتي تشكل أخلاقياتها أساسا للأخلاق المتموضعة في العرف الاجتماعي، إلى مجرد أطر عصبية، وقد تصبح لاحقا أطرا للتعبئة والتحشيد السياسيين، ومن ضمن ذلك الطائفية والقبلية والجهوية وغيرها. وباستعراضه نظريات التحديث ونظريات الانتقال الديمقراطي، هدف إلى إبراز الفرق بينهما: الأولى أكثر عمومية بينما الثانية أكثر محلية، الأولى تشدّد على المؤسسات والبنى الاقتصادية، في حين تشدّد الثانية على الفاعلين السياسيين.
خلال السنوات الأخيرة، وبسبب معاينته التجارب العالمية نحو الديمقراطية، بما فيها التجارب العربية، بدأ بشارة يميل إلى إعطاء أهمية كبرى للفاعلين السياسيين/ النخب في عملية التحوّل الديمقراطي ولدور الثقافة السياسية. كتب في الصفحة 79 من كتابه “الانتقال الديمقراطي ..”: “مشروع دراسات الانتقال الديمقراطي الناقد لمقاربة التحديث يرفض أن تنتظر هذه الدول تحقيق شروط نظرية التحديث كي تتحقّق الديمقراطية، وينطلق من حقيقة أن الديمقراطية ليست عملية موضوعية ناجمة عن النمو الاقتصادي، بل تعتمد على إرادة الفاعلين السياسيين، ومن الخطأ البحث عن شروط مسبقة للديمقراطية، وإنما يجب النظر إلى الديمقراطية من ناحية القدرة على إنشاء توافقات بين النخب السياسية”.
لا معنى للشروط الضرورية (البنى الاجتماعية الاقتصادية) للديمقراطية من دون إرادة الفاعلين السياسيين، غير أنه لا يكتفي، في المقابل، بالتأكيد على دور الفاعلين السياسيين فقط، فهذا الدور ليس كافيا وحده أيضا، خصوصا حين يتعلق الأمر ببناء الديمقراطية واستدامتها.
وفي سبره أغوار عملية الانتقال نحو الديمقراطية، يؤكّد مسألة الشرعية التي يجب أن تتوفر بعد تحقيق النظام الديمقراطي، والمقصود بالشرعية ترسيخ نوع من الولاء الوطني للدستور في الوعي النخبوي والوعي الجمعي، لأن المرحلة التي تقام فيها الديمقراطية بعد الثورة مضطربة اقتصاديا واجتماعيا. وفي هذه المرحلة، يصبح ولاء الناس بالدستور وبقدرة النظام السياسي ركنا أساسيا في عملية الوحدة ومنع التذرر.
ويجب أن يترافق الولاء الوطني للدستور مع قدرة النظام السياسي الجديد على حل الشروخ الكبرى في المجتمع، وهي شروخٌ سرعان ما قد تتحوّل إلى شروخ أيديولوجية وهوياتية تدمّر المجتمع الذي ما تزال العلاقات فيه ما قبل مدنية، حيث يتداخل ما هو سياسي مع ما هو اقتصادي وطائفي وقبلي وديني. ولهذا، يؤكّد بشارة، في هذه المرحلة، ضرورة عدم مقاربة الديمقراطية بوصفها مسألة انتخاباتٍ ومشاركة سياسية، ولا الحرية بوصفها شرطا لتوفير انتخابات نزيهة، بل باعتبار الحريات المدنية مساويةً للحقوق السياسية في متن تعريف الديمقراطية، إذ لم يعد بالإمكان إجراء فصل نظري وعملي بين الحقوق المدنية والحقوق السياسية كما جرى في السياق التاريخي الأوروبي، حين نشأت الحقوق المدنية في القرن الـ 18، والحقوق السياسية في القرن الـ 19. وفي المقابل، يؤكّد ضرورة إجراء فصل تاريخي بين ما ينطبق على تاريخ نشوء الديمقراطيات الأولى ونشوئها في المرحلة الحالية، فلا يمكن تكرار نشوء الديمقراطية التاريخية في الغرب، مثل تحديد الأرستقراطية سلطات النظام الملكي، وتراجع دور الفلاحين، ورسملة علاقات في الريف، ونشوء برجوازية رأسمالية، وتجانس ديني إثني.
وفي قراءته تجارب انتقال ديمقراطية حديثة، يؤكّد مع غيره من المفكرين أن ما أكدته نظرية التحديث (التدرج، الانفتاح السياسي، إطلاق الحريات قبل تعميم حق الاقتراع، تصنيع مبكر) هي معطيات وحقائق مهمة لها دور رئيسي في نشوء الديمقراطية واستقرارها لاحقا، غير أن هذه الحقائق لا تتحوّل إلى حتميات تاريخية، فكثير من الدول انتقلت من نظام سلطوي إلى الديمقراطية مباشرة، لذلك ينبّه بشارة إلى ضرورة الحديث عن تبنّي الديمقراطية، وليس عن نشوئها.
في مقطع مميز يكتب في الصفحة 111: “بما أنه ما عاد ممكنا في عصرنا أن تبدأ عملية الدمقرطة بحصر المشاركة السياسية في مجموعة صغيرة تتوسع باستمرار، وبما أنه صار من غير الممكن أيضا قبول التعاقب التاريخي الآمن في الطريق إلى نظام ديمقراطي، فإن تطبيق دروس هذا التعاقب يكون بترتيب الأولويات بعد ثورة أو خلال عملية إصلاح، وذلك بضمان تطبيق الإصلاحات في مجالات الحقوق والحريات قبل إجراء الانتخابات التنافسية، التي ما عاد ممكنا أن يتسع نطاقها بالتدريج لناحية القطاعات السكانية المتاح لها ذلك، بل يجب أن تشمل جميع المواطنين”.
هنا، يوجّه بشارة نقدا لبعض كبار المفكرين العالميين، مثل جوزيني دي بالما، الذي وجد تناقضا بين الثورة والديمقراطية، حيث لم يحدُث في التاريخ الحديث باستثناء كوستاريكا، أن انتهت ثورة إلى إقامة نظام ديمقراطي. وبالنسبة لبشارة، من الخطأ استقراء تناقض بين الثورة والديمقراطية، بل الأصح هو استنتاج أن الثورة لا تؤدّي إلى الديمقراطية، إلا إذا تلتها إصلاحات تدريجية، وتبدو هذه الفكرة في غاية الأهمية بالنسبة للعالم العربي بشكل عام، وتونس بشكل خاص. وفي توضيحه الشروط الضرورية المساعدة لتحقيق الديمقراطية، يتناول بشارة إشكالية العلاقة بين الدين والديمقراطية وبين الرأسمالية والديمقراطية، فيقول “في حالة الدين والديمقراطية، إن الدين في ذاته لا يشكل عاملا محبطا أو مقويا للديمقراطية، وإنما نمط التدين ونمط العلمنة التي يمر به المجتمع الدولة”. وفي هذا، يرفض، وهو من القلائل، مقولة ماكس فيبر الأصلية القائمة على الربط بين الرأسمالية وأخلاقية العمل البروتستانتية.
بالنسبة له، لا تحدّد النصوص الدينية سلوكيات البشر، بل أنماط ممارسة الدين التي تساهم في بلورتها عوامل عدة، منها البنية الاجتماعية والأعراف الموروثة، وطبيعة نظام الحكم السائد. وبالنسبة للعلاقة بين الرأسمالية والديمقراطية، يبين أن الرأسمالية في ذاتها قد تكون وعاء للديمقراطية والاستبداد معا، فلا يتعلق الأمر بطبيعة الرأسمالية في ذاتها، وإنما بطبيعة العلاقة بين الرأسمالية والديمقراطية، فثمّة دول رأسمالية لا تتمتع بنظام ديمقراطي ـ ليبرالي، لكن لا توجد دول ديمقراطية ـ ليبرالية لا تعتمد اقتصاد السوق.
ما يريد قوله بشارة وتنبيهنا إليه، هو رفض الحتميات البنيوية من حيث أنه ليس ثمّة علاقة مباشرة بين الوضعيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية، وإنما نمط العلاقة بين هذه الوضعيات هو الذي يحدّد اختلاف التجارب والسياقات التاريخية.
دراسات
ينبّه بشارة، بداية، إلى وجود سببين حفّزا على دراسة الانتقال الديمقراطي: قناعة علماء الاجتماع والسياسة أن تمتلك فرصة للانتقال نحو الديمقراطية. والثاني، نجاح بلدان في أميركا اللاتينية وأوروبا في تحقيق الانتقال الديمقراطي. كما ينبهنا إلى أن دراسات الانتقال ليست نظريات ثابتة، بقدر ما هي أبحاثٌ في تجارب حصلت، ساهمت في الإضاءة على جوانب مهمة من عمليات التحوّل من النظام السلطوي إلى النظام الديمقراطي، والتمييز بين شروط الانتقال وظروفه وشروط ترسيخ الديمقراطية، لكنها ليست نظرية عامة، ولم تنتج قانونا، بل مجموعة قواعد ناجمة عن تنميط تجارب متعددة، ومن هذا المنطلق، يقول إنه لا توجد استثناءات عربية لأنه لا توجد قاعدة.
مع رفضها الشروط البنيوية المسبقة التي وضعتها نظريات التحديث، تركز دراسات الانتقال على شرطين مسبقين: الكيان السياسي المجمع عليه، أي الدولة، وقبول النخب السياسية الرئيسية قواعد اللعبة الديمقراطية. ويضيف بشارة إلى هذين الشرطين شرطا ثالثا استنبطه من تجارب الربيع العربي، وهو موقف الجيش من الاحتجاجات.
وفي رفضه المستمر الحتميات النظرية، يرفض بشارة مقولة إن اللبرلة من أعلى تؤدّي إلى انشقاق النخب الحاكمة، والحالة العربية واضحة في ذلك، حيث لم يحدُث مثل هذا الانشقاق، وهنا يستنتج أن الإصلاح ليس الطريق الوحيد لانشقاق النخبة الحاكمة، ولا الانشقاق هو الطريق الوحيد إلى الديمقراطية.
العامل الخارجي
يعطي بشارة أولوية كبيرة للعامل الخارجي في عملية التحوّل نحو الديمقراطية وفي ترسيخ الديمقراطية، وهو ما تجاهلته دراسات الانتقال ذاتها قبل عام 2011. وتهدف دراسة الانتقال الديمقراطي لمعالجة صيرورة من شقين: نهاية الحكم السلطوي سواء بإصلاح من أعلى أو ثورة من أدنى، ونشوء نظام سياسي تعددي بتوافق النخب السياسية.
ويصعب قياس تأثير العامل الخارجي من دون حضور الشق الثاني، خذ مثلا حالة الثورة السورية، حيث لم تشهد لحظة توافق على برنامج ديمقراطي لدى الفصائل المسلحة، وخلافا لحالتي اليمن وليبيا، لم تصل الثورة السورية إلى أي مرحلة من مراحل ممارسة الديمقراطية. ولهذا يصعب اعتبار سياسات القوى الإقليمية والدولية في سورية مواقف من التحوّل الديمقراطي عموما، بل هي مواقف من مسألة سقوط النظام القائم.
وفي تبيانه أهمية العامل الخارجي في التحوّل والترسيخ الديمقراطي، يستعرض بشارة تجارب عالمية كثيرة، خصوصا في أميركا اللاتينية وأوروبا، ففي حين لعب العامل الخارجي (الولايات المتحدة) دورا سلبيا في عملية الانتقال نحو الديمقراطية في أميركا الجنوبية، كان له أثر إيجابي في دول أوروبا الشرقية والجنوبية، حيث كانت هذه الدول تتطلّع للشراكة مع الاتحاد الأوروبي، ما شكل حافزا لها للتسريع في العملية الديمقراطية. لكن بشارة سرعان ما يحذّرنا من التعميمات والحتميات، فالعامل الخارجي وحده غير منعزل عن العامل الداخلي، فشروط التحوّل الديمقراطي في جنوب أوروبا مثلا (اليونان، إسبانيا، البرتغال) كانت داخلية أساسا، مع مساندة البيئة الأوروبية لها.
يمكن القول إن البيئة الإقليمية هي من عناصر تعقيد صيرورة الديمقراطية عربيا، ويشهد هذا التأثير المواطن العربي في تدخلات بعض الدول في إعاقة عملية التحول الديمقراطي. ويضيف بشارة أن العامل الدولي عنصر بالغ الأهمية في خريطة العالم العربي، فكلما ابتعد بلد عربي عن المناطق الغنية بالنفط وعن جبهة الصراع مع إسرائيل، قل احتمال تدخل العوامل الدولية السلبي في عملية الانتقال الديمقراطي خشية على الاستقرار، والمثالان البارزان المتعاكسان هما: تونس وسورية، حيث ساهمت هامشية تونس الجيواستراتيجية والاقتصادية في تحييد العوامل الخارجية السلبية، فيما ساهم موقع سورية الحيوي في تفعيل العوامل الخارجية السلبية.
العربي الجديد