نصوص

مدنٌ غير مرئية/ إيتالو كالفينو

الجزء الأول

الرغباتُ الآن ذكريات (1)

مفتتح

لا يصدّق قبلاي خان بالضرورة كلّ شيء يقوله ماركو بولو حين يصف المدنَ التي زارها في جولاته الاستكشافية، إلا أن إمبراطور التتار يواصل الإصغاءَ إلى الفينيسي الشاب بانتباهٍ وفضولٍ أعظم مما يُظهر لأي رسولٍ آخر من رسلهِ أو مستكشفيه.

في حياة الأباطرة، هنالك لحظة تتبع الزهوَ بالاتساع اللامحدود للأراضي التي غزوناها. وبعد راحةِ وكآبة معرفةِ أننا سرعان ما سنتخلى عن أي تفكير بمعرفتها وفهمها. هنالك إحساس بالفراغ يتِ خرائط الكرة الأرضية السمراء الضاربة إلى الصفرة حيث ترسم مصوّرة، وتُجمع. واحدة بعد أخرى تتوالى الرسائلُ معلنة لنا انهيارَ آخر قوّات العدو. من اندحار الى اندحار. ويُقشّر شمع أختام رسائل ملوكٍ مغمورين يلتمسون حماية جيوشنا، مقدمين في المقابل أتاواتٍ سنوية من معادن ثمينة وجلود مدبوغة وأصداف سلاحف. إنها لحظة القنوط حين نكتشف أن هذه الإمبراطورية، التي بدت لنا خلاصة كل الأعاجيب، ما هي إلا خرابٌ لا شكلَ له ولا حد، أن غنغرينا الفساد تنتشر إلى مدى يفوق قدرة صولجاننا على علاجها، أن الانتصار على الملوك الأعداء جعلنا ورثة خرابهم الطويل.

في تقارير ماركو بولو وحدها كان قبلاي خان يستطيع أن يميّز، خلال القلاع والأسوار التي قدّر لها أن تتفتت، زخرفةً شجرية لمخططٍ بلغ من الرهافة حداً قد يمكّنهُ من النجاةِ من قضم النمل الأبيض.

مدن وذاكرة (1)

حين تغادر، وتواصل السيرَ طيلة ثلاثة أيام نحو الشرق، تصل إلى ديوميرا، مدينة بستّين قبّة فضّية، بتماثيلَ برونزية لكلّ الآلهة، بشوارعَ مرصوفة بالرصاص، بمسرحٍ بلّوري، بديكٍ ذهبيّ يصيح كلّ صباح فوق برج.

كلّ هذه المفاتن ستكون مألوفةً سلفاً للزائر الذي شاهدها أيضاً في مدن أخرى. ولكن الخاصّية المميّزة لهذه المدينة بالنسبة إلى المرءِ الذي يصل إليها ذات أمسية من أماسي أيلول/ سبتمبر، حينما تتقاصر النهاراتُ، وتُضاء المصابيحُ المتعدّدة الألوان كلّها دفعةً واحدة عند أبواب جواسق الطعام، ويصرخ صوتُ امرأة من سطح بيت: “أووه…”، هو شعوره بالحسد تجاه الذين يعتقدون الآن أنهم عاشوا مرّة ــ من قبلُ ــ أمسيةً تُماثل هذه، والذين يعتقدون أنهم كانوا سعداء آنذاك.

مدن وذاكرة (2)

 حين يرتحل إنسانٌ زمناً طويلاً راكباً عبر مناطق برّية، يشعر بالرغبة بمدينة. وفي نهاية المطاف يصل إلى إيسيدورا، مدينة حيث للمباني سلالمُ لولبية ملبّسة بقشرةٍ من أصدافٍ بحرية لولبية، حيث تُصنع المناظيرُ المقرِّبة والكماناتُ المتقنة، حيث يواجه الأجنبيُّ المتحيّرُ بين امرأتين ثالثةً دائماً، حيث ينحدر عِراكُ الديكة إلى مشاجراتٍ دموية بين المتراهنين.

كان يفكّرُ بكلّ هذه الأشياء عندما رغبَ بمدينة. لهذا فان إيسيدورا هي مدينة أحلامه: مع فارق واحد. المدينة المحلوم بها احتوته شابّاً؛ وهاهو يصل إلى إيسيدورا في شيخوخته. في الساحة هنالك الجدار حيث يجلس العجائز ويراقبون الشبّان يمرون؛ وهاهو جالسٌ معهم في صفٍّ واحد. الرغباتُ الآن ذكريات.

مدن ورغبة (1)

هنالك طريقتان لوصف مدينة دوروثا: يمكنكَ القول إن أربعة أبراج من الألمنيوم ترتفع من أسوارها مطوّقةً سبعةَ أبوابٍ ذات قناطر متحرّكة تعمل بنوابضَ تمتدّ فوق الخندق الذي تغذّي ماءه أربعُ قنوات خضراء تخترق المدينة، مقسّمةً إيّاها إلى تسعة أحياء، في كلّ واحد منها ثلاثمائة بيت وسبعمائة مدخنة. ومحتفظاً في ذهنكَ أن الفتيات الصالحاتِ للزواج في كلّ حيّ يتزوجن شبّانَ الأحياء الأخرى وتتبادل عائلاتهنّ السلعَ التي تحتكرها كلّ عائلة ـ ليمونٌ لصناعة العطور، بطارخُ سمك كافيار، إسطرلابات، أحجارُ الجمشت الكريمة ـ عندئذ يمكنكَ العمل انطلاقاً من هذه الوقائع، إلى أن تعرف كل شيء ترغب فيه عن المدينة في الماضي والحاضر والمستقبل.

أو يمكنكَ خلاف ذلك القول، مثلما قال الجمّالُ الذي أخذني الى هناك: “وصلتُ هنا في مطلع شبابي ذات صباح، حيث كان العديدُ من الناس يهرعون إلى السوقِ قادمين من كل الشوارع، وامتلكتِ النساءُ أسناناً جميلة ونظرن في عينيكَ مباشرة، ونفخ ثلاثة جنود على منصّةٍ بالأبواق، وفي كلّ جهةٍ دارت عجلاتٌ ورفرفت راياتٌ ملوّنة في الريح. قبل ذلك لم أعرف إلّا الصحراءَ وطرقَ القوافل. في السنوات التالية، عادت عيناي الى تأمّل آمادِ الصحراءِ وطرقِ القوافل؛ ولكنّني أعرف الآن أن هذا الطريقَ ليس إلا واحداً من الطرق العديدة التي انفتحت أمامي في ذلك الصباح في دوروثا…”.

مدن وذاكرة (3)

سأحاول، عبثاً، يا قُبلاي، يا ذا القلب الكبير، وصف زهرة، مدينة الحصون العالية. يمكنني أن أخبركَ كم من الدرجاتِ تجعل الشوارعَ ترتفع مثل السلالم، ودرجةَ انحناء الممرّاتِ المقنطرة، وأي نوعٍ من صفائح الزنك يغطّي السطوح؛ ولكنّني أعرف مقدّماً أن هذا سيكون كما لو أنّني لا أُخبركَ بشيء. المدينةُ لا تتكوّن من هذا، بل من العلاقاتِ بين قياساتِ فضائها وأحداثِ ماضيها: ارتفاعُ عمودِ نورٍ والمسافة بين الأرض وقدمين متأرجحتين لمغتصبِ عرشٍ مشنوق؛ الحبلُ المشدود من عمود النور إلى حاجز الشرفة المقابل وحبالِ الزينة التي تزيّن مسارَ موكب زفاف الملكة؛ ارتفاعُ ذلك الحاجز وقفزة الزاني الذي تسوَّرَهُ  فجراً؛ انحدارُ مزراب وسَيْرُ قطٍّ على طولهِ وهو ينزلق داخلاً عبر النافذة نفسها؛ مدى مرمى نيرانِ زورقٍ مسلّحٍ ظهرَ فجأةً من وراء الرأس البحري والقذيفة التي دمّرت المزراب؛ والفتوقُ في شِباك صيد الأسماك والعجائز الثلاثة الجالسين على رصيف المرسى يُصلحون الشِباكَ ويقصّ أحدهم على الآخر للمرّة المئة حكاية زورقِ مغتصبِ العرش المسلّح الذي يقول البعض إنه كان ابن الملكة غير الشرعي وقد هُجر هنالك على المرسى بقِماطه.

وفيما تتدفّق هذه الموجة من الذكريات إلى الداخل، تمتصّها المدينةُ مثل إسفنجةٍ وتتّسع. إن أي وصف لزهرة كما هي عليه اليوم، يجب أن يحتوي كلّ ماضي زهرة، إلّا أن المدينة لا تقصّ حكاياتِ ماضيها، ولكن تحتويها مثل خطوطِ راحة يدٍ، مكتوبة في زوايا الشوارع، شعريات الشبابيك الحديدية، حواجز الدرجات، هوائيات مانعات الصواعق، صواري الأعلام، ومن جانبها تحمل كلّ قطعة علائمَ خدوشٍ، فجواتٍ عميقة، لفائف.

مدن ورغبة (2)

بعد انقضاء ثلاثة أيام على مسيركَ نحو الجنوب، تصلُ مصادفةً إلى آناستاسيا؛ مدينة ترويها قنواتٌ ذات مركز واحد، وتحلّق فوقها طائراتٌ ورقية. عليّ الآن تعداد البضائع التي يمكن أن يكون شراؤها مُربِحاً هنا: يَشَبٌ وجَزْعٌ وأحجارٌ كريمة فاتحة الخضرة وتنويعاتٌ أخرى من العقيقِ الأبيض؛ وعليّ امتداح لحمِ التدرج الذهبي المطبوخِ هنا على نيرانِ خشبِ كرزٍ موسميّ والمرشوش بسمسقٍ بالغ الحلاوة، والتحدّث عن النساء اللواتي رأيتهنّ يقمن بالاستحمامِ في بركةِ بستان، واللواتي يدعين الغريب أحياناً، كما يُقال، ليتعرّى معهنّ ويطاردهن في الماء. ولكن مع كل هذا، لا أكون قد حدّثتكَ عن جوهر المدينة الحقيقي؛ لأن وصف آناستاسيا، إذا كان يوقظ واحدةً من الرغبات في كلّ مرّة لا لشيء إلّا لإجباركَ على إخمادها، فإنّ كلّ رغباتكَ تستيقظ دفعة واحدة وتحيط بكَ حين تكون ذاتَ صباحٍ في قلبِ آناستاسيا. حيث تبدو لك المدينةُ كلّاً كاملاً، وحيث لا تضيع رغبة، وحيث أنتَ جزءٌ من الكلِّ، وبما أنها تستمتعُ بكلِّ شيءٍ لا تستمتع أنتَ به، فبإمكانك ألّا تفعل شيئاً سوى أن تقيم في هذه الرغبة وأن تكون مكتفياً.

تلك هي السلطة، أحياناً تُدعى مؤذيةً وأحياناً حميدة، السلطةُ التي تمتلكها آنستاسيا، المدينة الغادرة؛ لو اشتغلتَ طيلة ثماني ساعات يومياً كقاطعِ يشبٍ، وجَزْعٍ، عقيقٍ أبيض، فإنّ عملكَ الذي يمنح الرغبةَ شكلاً، يأخذ من الرغبة شكلها، وتعتقد أنّكَ تتمتّع بآناستاسيا استمتاعاً كاملاً بينما أنتَ لست إلاّ عبدها.

———————————-

الجزء الثاني

ليست الأشجارُ إلّا ما هي عليه (2)

مدن وعلامات (1)

تسير أياماً بين أشجارٍ وأحجارٍ. ونادراً ما تلتمع العينُ برؤية شيء، وحتى عندئذ أنتَ لا تتعرّف على ذلك الشيء إلّا كعلامةٍ على شيءٍ آخر؛ طبعةٌ في الرمل تشير الى مسارِ النمر؛ أرضٌ سبخةٌ تُنبئ بوجودِ عِرْقِ ماء؛ زهرةُ خبّازة تعني نهاية الشتاء. كلُّ ما تبقّى صامتٌ ويمكن أن يحلَّ بعضه محلَّ بعض؛ الأشجارُ والأحجارُ ليست إلّا ما هي عليه.

وأخيراً تقود الرحلةُ الى مدينة تامارا. وتتغلغل فيها على امتدادِ شوارعٍ مكتظّة بلافتاتٍ ناتئة من الجدران. العينُ لا ترى أشياءً، بل صورَ أشياءٍ تعني أشياءً أخرى: تُشير كمّاشاتٌ الى بيتِ خالع الأضراس؛ إبريقٌ يشير إلى الحانة؛ أسلحةٌ من رماح وفؤوسٍ تشير الى الثّكَنات؛ قشورُ السمكِ تشير الى حانوتِ أسماك. تماثيلُ ودروعٌ تصوّر أسوداً ودلافينَ وأبراجاً ونجوماً: علامةٌ على شيءٍ ما ـ من يعرف ما هو ؟ ـ يمتلكها بوصفها علامته على أسدٍ أو دولفينَ أو برجٍ أو نجمة.

هناك إشاراتٌ أخرى تحذّر ممّا هو محظورٌ في مكانٍ معين (أن تدخلَ الزقاق بعرباتٍ، أن تتبولَ وراء الجوسق، أن تصيدَ السمك بقصبتكَ من فوق الجسر) وتشير الى ما هو مسموحٌ به (سقي الحُمرِ الوحشية، لعبُ البولنغ، إحراقُ جثث الأقارب). ومن أبوابِ المعابد تُشاهد تماثيلَ الآلهة، كلُّ واحد منها مصوّر مع صفاته ـ قرنُ الخصب، الساعةُ الرملية، الميدوزا ـ كي يستطيع كلُّ متعبّدٍ التعرّف عليها، وتوجيه صلاته الى الإلهِ المقصودِ بدقّة.

إذا كان المبنى لا يمتلك لافتةً أو ما يشخّصهُ، فإن شكلَه ذاته والموقعَ الذي يحتله في نظام المدينة يكفيان لتعيين وظيفته: القصرُ، السجنُ، دارُ سكّ النقود، المدرسة الفيثاغورية، المبغى.

البضائعُ التي يعرضها الباعةُ في حجيراتهم ليست ثمينة بذاتها أيضاً، بل بوصفها علاماتٍ على أشياء أخرى: عصائبُ الرأس المطرّزة تمثّل الأناقة؛ المحفاتُ الذهبية تمثل السلطة؛ كتبُ ابن رشد تمثل المعرفة؛ دملوجُ الكاحل يمثّل الشهوانية. تتصفّح عيناكَ الشوارع كما لو أنها صفحات كتاب مكتوبة: تقول المدينةُ كلَّ شيء يجب أن تفكّر فيه أنتَ، تجعلكَ تكرّرُ خطابها. وبينما أنتَ مؤمنٌ خلال هذا أنكَ تزور تامارا، أنتَ في الحقيقة لا تفعل إلّا تسجيلَ الأسماء التي تعرّف بها نفسها وتعرّف بها أجزاءها كلها.

مهما كان من أمرِ ما قد تكون عليه المدينة حقّاً، تحت هذا الحجاب الكثيف من العلاماتِ، وأيّاً كان ما قد تحتويهِ أو تخفيه، فأنتَ تغادر تامارا من دون أن تكون قد اكتشفتها. في الخارج تمتدّ الأرضُ خاليةً حتى الأفق؛ السماءُ مفتوحة مع غيوم مسرعة. في الشكلِ الذي تمنحه الصدفةُ والريحُ للغيوم تكون قد عزمتَ مسبقاً على تمييز أشكالٍ: سفينة مبحرة، يد، فيل…

مدن وذاكرة (4)

في ما وراء ستة أنهارٍ وسلاسلَ جبلية ثلاث تبرز زورا، مدينةٌ لا يستطيع أحدٌ نسيانها ما أن يراها، ليس لأنها تترك صورةً غير عادية في ذكرياتكَ المستعادة مثل مدن أخرى قابلة للتذكّر. زورا تمتلك خاصّية البقاءِ في ذاكرتكَ نقطةً نقطة، بتتابعِ شوارعها وبيوتها على امتداد الشوارع، والأبوابِ والنوافذِ في البيوت، مع أنّ لا شيءَ من هذا يمتلك جمالاً مميّزاً أو سمة نادرة. سِرُّ زورا يكمن في الطريقة التي تمرُّ بها نظرتكَ المحدّقة على أشكالٍ يتلو أحدها الآخر كما في مقطوعةٍ موسيقية لا يمكن تغيير نغمة فيها أو استبدالها بغيرها.

الإنسانُ الذي يحفظ غيباً كيف أقيمت زورا، إن لم يستطع النوم ليلاً، يمكنه تخيُّلُ أنه يمشي على امتداد الشوارع ويتذكّر النظامَ الذي تأتي فيه الساعةُ النحاسية بعد ظُلّةِ الحلّاق المقلّمة، ثم النافورة ذات التسع نفّاثات، فبرجُ الفلكيّ الزجاجي، فجوسقُ بائع البطيخ، فتمثالُ الناسكِ والأسد، فالحمّامُ التركي، فالمقهى عند الزاوية، فالزقاقُ الذي يقود إلى الميناء. هذه المدينة التي لا يُستطاع محوها من الذهن تشبه حافظةً، قرصَ عسلٍ يستطيع كل واحد منا وضع الأشياءَ التي يريد تذكّرها في خلاياه: أسماءَ رجال مشهورين، فضائلَ، أرقاماً، أصنافَ خضار وأصنافاً معدنية، تواريخ معارك، كوكباتٍ نجمية، أقسامَ كلام.

بين كلّ نقطةٍ وفكرةٍ من نقطِ وأفكارِ خطّ الرحلةِ يمكن أن يُقام نسبٌ أو تباينٌ، يفيد كمساعدٍ فوريّ للذاكرة. لهذا فإن أكثرَ رجالِ العالم معرفةً هم أولئك الذين يستذكرون زورا. ولكنّني عبثاً انطلقتُ لزيارة المدينة: فهي بالبقاءِ ساكنةٌ كرهاً، وبالبقاءِ هي نفسها دائماً، لكي يكون تذكُّرُها أكثر سهولة، وهنَتْ زورا، تفكّكتْ، اختفتْ. نسيَتْها الأرضُ.

مدن ورغبة (3)

   يمكن الوصولُ الى دسبنا بوسيلتَيْن: بسفينةٍ أو جَمل. المدينةُ تعرض وجهًا للمسافرِ الذي يصلها برّاً، وآخرَ مختلفاً لذلك الذي يصلها بحراً.

حين يشاهد الجمّالُ، في أفق النجدِ، قممَ ناطحات السحاب تلوح للنظر، هوائياتِ الرادار، مؤشّراتِ اتّجاه الريح البيضاء والحمراء ترفرف، المداخن تطلق الدخانَ، يفكّر بسفينة؛ إنّه يعرف أنها مدينة، ولكنّه يفكّر بها كمركبةٍ ستأخذه بعيداً عن الصحراء، كسفينةٍ شراعية كبيرة على وشكِ الإبحار، مع نسيمٍ بدأ سلفاً ينفخ الأشرعة التي لم تنشرها بعد، أو كزورقٍ بخاريٍّ مع مِرجلهِ المرتجِّ في قاعهِ الحديدي؛ ثم يفكّر بكلِّ الموانئ، بالبضائعِ الأجنبية التي تنزلها الرافعاتُ على أرصفةِ تحميلِ السفن، بالحاناتِ حيث يكسر بحّارةُ أعلامٍ مختلفة زجاجاتٍ على رؤوس بعضهم بعضاً، بنوافذِ الطوابق الأرضية المضاءة، وفي كلِّ واحدة منها امرأةٌ تمشّط شعرَها.

ويتبين البحّارُ في سديمِ الخطّ الساحليّ كاهلَ جملٍ، سرجاً مطرّزاً بأهدابٍ ملتمعة بين سنامين منقطين، يتقدمُ ويتمايلُ. إنه يعرف أنها مدينة، ولكنه يفكّر بها كجَملٍ تتدلّى من على ظهرهِ زقاقُ خمرٍ وأكياسُ فاكهةٍ ملبّسةٍ بالسكر، خمرُ بلح، أوراقُ تبغٍ، ثم يرى نفسه مسبقاً على رأسِ قافلة طويلة تأخذه بعيداً عن صحراءِ البحر، نحو واحاتِ ماءٍ عذبٍ في الظلِّ المثلّم لأشجار نخيلِ، نحو قصورٍ سميكةِ الجدران مبيضّة بالكلسِ، قاعاتٍ مبلّطةٍ بالقرميدِ حيث ترقص فتياتٌ عارياتُ الأقدام، يحرّكنَ أيديهن، وتُخفي خمرهنّ نصفاً وتكشف نصفاً.

كلُّ مدينةٍ تتلقّى شكلها من الصحراءِ التي تواجه؛ ولهذا يرى الجمّالُ والبحّارُ دسبنا مدينةً حدودية بين صحرائين.

مدن وعلامات (2)

يعود المسافرون من مدينة زرما بذكرياتٍ مميزة: رجلٌ أسود مكفوف البصر يصرخ في الزّحام، مخبولٌ يتأرجحُ فوق إفريزِ ناطحةِ سحابٍ، فتاةٌ تسير مع كوجرٍ مربوط بسلسلة. الحقيقةُ هي أنّ عدداً كبيراً من الرجال المكفوفين الذين يطرقون بعصيّهم أرضية شوارع زرما المرصوفةِ بالحصى هم من السود؛ في كلِّ ناطحةِ سحابٍ يوجد شخصٌ ما مصابٌ بالجنون؛ كلُّ المخبولين يمضون ساعاتٍ فوق الأفاريز؛ لا يوجد كوجرٌ لا تربّيه فتاة ما، كنزوة. المدينةُ وافرة: إنها تكرّرُ نفسها بحيث أن شيئاً ما سيعلق في الذهن.

أنا أيضاً عائدٌ من زرما: ذاكرتي تتضمّن مناطيدَ تطير في كلّ الاتجاهاتِ، عند مستوى النافذة؛ شوارعَ حوانيت تُرسم فيها الأوشامُ على جلود البحّارة؛ قطاراتِ أنفاق محتشدة بنساءٍ بدينات يعانين من الرطوبة. رفاقُ سفري، من ناحيةٍ أخرى، يُقسمون أنهم لم يشاهدوا إلّا منطاداً واحداً يحوم بين قِمَمِ المدينة. فنانُ وشمٍ واحد لا غير يرتّب إبراً وأحباراً ويثبّت أشكالاً على دكّتهِ، امرأةٌ بدينة واحدة لا غير تروّح عن نفسها بالمروحة على رصيف محطة قطار.

الذاكرةُ وافرة: إنها تكّرر العلاماتِ حتى تستطيع المدينة أن تبدأ بالوجود.

—————————————

الجزء الثالث

رحلاتٌ لاسترداد المستقبل (3)

مدنٌ خِفاف (1)

آسوريا، مدينةُ الألف بئر، يُقال إنها تقوم فوق بحيرة عميقة، تحت ـ أرضية. في كلّ الجهاتِ، وبمقدار ما تمتدُّ المدينة، لا أبعدَ من ذلك، أينما حفر السكّانُ ثقوباً عمودية طويلة في الأرض، نجحوا في انتشالِ الماء. إنّ حدَّ كفافها الأخضر يكرّرُ خطّ كفافِ البحيرةِ المطمورةِ المعتم؛ مشهدٌ طبيعي غير مرئي يتحكّم بالمشهدِ المرئيّ؛ كلُّ شيء يتحرّك تحت ضوءِ الشمسِ، تدفع به الموجةُ المتلاطمةُ الحبيسةُ تحت سماءِ الصخور الكلسيّة.

تِبعاً لذلك ظهر شكلان من الدّين في آسوريا. آلهةُ المدينة، وفقاً لبعض الناس، تعيش في الأعماقِ، في البحيرةِ السوداء التي تغذّي الجداولَ التحت ـ أرضية. وفقاً لآخرين، تعيش الآلهة في الدِّلاءِ التي ترتفع مُدلّاةً بحبلٍ، وهي تلوح فوق حوافّ الآبار، في البكَراتِ الدوّارة، في رافعاتِ النواعير، في مقابضِ المضخّات، في أشرعةِ الطواحين التي تنتشل الماءَ من الثقوبِ العمودية المحفورة، في الحواملِ التي تسند المسابرَ اللولبية، في الخزّاناتِ الجاثمة على ركائزَ فوق السطوح، في الأقواسِ النحيلة لقنواتِ سحب المياه، في كلِّ أعمدةِ المياه، الأنابيبِ العمودية، المكابس، المصارف، على طول الطريق صعوداً إلى دوّاراتِ الريح التي تعلو سقالاتِ آسوريا الشاهقة، تلك التي هي مدينةٌ تتحرُّك كلياً صاعدةً نحو الأعلى.

بعد إرسالهم لتفتيش المقاطعات النائية، عاد مبعوثو وجامعو ضرائب الخان الأكبر كما ينبغي إلى كاي ـ بنج ـ فو وإلى حدائق الماغنوليا التي يتمشّى قبلاي في ظلالها، مصغياً إلى تقاريرهم الطويلة. كان السفراءُ فُرساً وأرمنَ وسرياناً وأقباطاً وتركماناً؛ الإمبراطورُ هو مَن كان أجنبياً بالنسبة لكلّ فردٍ من رعاياه. ولا يمكن أن تجلو الإمبراطورية وجودها لقبلاي إلّا بوساطة العيون والآذان الأجنبية. أدلى المبعوثون بلغاتٍ غير مفهومة بالنسبة للخان، بمعلومات سمعوها بلغاتٍ غير مفهومةٍ بالنسبة لهم: من هذا الصريرِ المبهم الكثيفِ بزغت المداخيلُ التي تسلّمتها الخزانة الإمبراطورية، أوّل وآخر أسماء الموظّفين المقطوعة رؤوسهم والمطرودين، أبعاد القنواتِ التي تغذّيها الأنهارُ الضحلة في أوقات الجفاف.

ولكن عندما قدّم الشابُّ الفينيسي تقريره، نشأ تواصلٌ مختلف بينه وبين الإمبراطور. فلأنّ ماركو بولو وصل حديثاً، هو الجاهل جهلاً مطبقاً باللغات الشرقية، لم يستطع التعبيرَ عن نفسه إلّا بالإشاراتِ، بالقفزاتِ، بصرخاتِ الدهشة والفزع، بنباح الكلاب أو هريرها، أو بأشياءَ يُخرجها من حقائبَ يحملها على ظهره ـ ريش نعام، بندق بنادق، قطع كوارتز ـ يرتّبها أمامه مثل بيادق الشطرنج.

لقد ارتجلَ الأجنبيُّ البارعُ، وهو يعود من المهمّاتِ التي أرسله قبلاي من أجلها، إيماءاتٍ من التي على العاهل تأويلها: إحدى المدن صُوّرت بقفزةِ سمكةٍ تُفلت من منقارِ غاقٍ لتسقط في شبكةِ صيد؛ وصُوّرت مدينة أخرى برجلٍ عارٍ يعدو خلال النار غير شائط؛ والثالثةُ بجمجمةٍ، أسنانها خضراء متعفّنة، تُطبق على لؤلؤةٍ مستديرة بيضاء.

حلّ الخانُ الأكبر لغزَ العلاماتِ، ولكنّ الصلة بينها وبين الأماكن التي تمّت زيارتها ظلّت غير يقينية؛ هو لم يعرف أبداً ما إذا أراد ماركو تمثيلَ مغامرة وقعت له في رحلته، مأثرةً لمؤسّس مدينة، نبوءةَ فلكي، كنايةً أو تمثيل لغزٍ لتحديد اسم. ولكنّ كلَّ شيء عرضه ماركو، مهما كان من غموضه أو وضوحه، امتلكَ قوّة الرموز التي ما أنْ تُشاهد، لا يمكن أن تُنسى أو تختلط بغيرها.

كانت الإمبراطوريةُ تنعكس في ذهنِ الخان كصحراءَ من معطياتٍ قابلة للتغيّر تتبادل إحداها الحلولَ محلّ الأخرى، مثل حبّاتِ رملٍ ظهرت منها، لكلّ مدينة ومقاطعة، الأشكالُ التي تستحضرها صور الفينيسي الإشاريّة.

ومع مرورِ الفصولِ وتواصل مهمّاته، تمكّن ماركو من لغةِ التتار والعباراتِ الاصطلاحية القومية واللهجات القبائلية. أصبحت أقاصيصهُ الآن أكثر دقّةً وتفصيلاً ممّا يمكن أن يرغب به الخان الأكبر، ولم يعد هناك سؤالٌ أو فضولٌ لا تشبعهما. ومع ذلك فإن كلَّ معلومة عن مكانٍ من الأمكنة، أعادتْ إلى ذهنِ الإمبراطور ذكرى تلك الإشارة الأولى أو الشيء الذي عيّن به ماركو المكان. تلقّت الواقعةُ الجديدة معنىً من ذلك الرمز، وأضافت أيضاً إلى الرمز معنىً جديداً. وفكّر قبلاي: ربّما لا تعدو الإمبراطورية كونها دائرةَ بروج لأوهام الذهن. وسأل ماركو: “في اليوم الذي سأعرف فيه كلَّ الرموز، هل سأكون قادراً على امتلاك إمبراطوريتي أخيراً؟”.

فأجاب الفينيسي: “مولاي، لا تصدّق هذا. في ذلك اليوم ستكون أنتَ نفسك رمزاً بين الرموز”.

■ ■ ■

سأل الخانُ الأكبر بولو: “يحذّرني السفراءُ الآخرون من مجاعات، ابتزازات، مؤامرات، أو خلاف ذلك، يُعْلِمونني بمناجم تركواز مكتشفة حديثاً، بأسعارٍ مواتية للمتاجرة بفراء السنسار، اقتراحاتِ توريد نصال دمشقية… وأنتَ؟ أنت تعود من أراضٍ بعيدةٍ البُعدَ نفسه، ولا تستطيع أن تقصّ عليّ سوى أفكارٍ تخطر ببال الإنسان الذي يجلس على عتبة باب داره ليتمتّع بالهواء البارد… ما جدوى رحلاتك كلّها إذاً؟”.

ردّ ماركو بولو: “إنه المساء. نحن جالسان على درجات قصْرِكَ. هنا نسيمٌ عليل. أيّاً كان البلدُ الذي قد تستحضره كلماتي حولك، ستراه من موقعٍ مفضّل مثل هذا. حتى لو كانت هناك قرية على دعائم بدلاً من القصر ويحمل النسيم نتانةَ مصبٍّ نهر طيني”.

ـ “نظرتي هي نظرة إنسانٍ يتأمّل، غارقاً في أفكاره؛ أنا اعترف بهذا. ولكن ما بالُ نظرتكَ؟ أنتَ عبرتَ أرخبيلاتٍ، سهوباً، سلاسلَ جبلية. أنت تفعل أيضاً كما لو أنّك لا تتحرّك من هنا أبداً”.

عرف الفينيسي أن قبلاي حين يطيل مناقشته، فما ذلك إلّا لأن الإمبراطور يريد متابعة سلسلة أفكارٍ خاصّة بصفاءٍ أكثر؛ وهكذا فإن أجوبة واعتراضات ماركو تكون قد اتّخذت مكانها سلفاً في خطاب يتقدّم الآن مستقلّاً في رأس الخان الأكبر. بحيث يمكن القول إنه لا يعود مهمّاً بينهما، ما إذا قيلت الأسئلة والحلول بصوتٍ مسموع أو واصل كلّ واحد منهما التأمّل صامتاً.

كانا صامتين في حقيقة الأمر. عيونهما نصفُ مغمضة. متّكئين على الحشايا. متمايلين في أرجوحتَيْ نوم. يدخّنان غليونين طويلين من الكهرمان.

تخيّل ماركو بولو نفسه يجيب قائلاً (أو أن قبلاي خان تخيّلَ جوابه) كلّما ضاع المرءُ أكثر في أحياء مدن بعيدة غير مألوفة، كلما ازداد فهمُه للمدن الأخرى التي عبرها للوصول إلى هناك؛ واستعاد في ذهنهِ مراحل رحلاته. وأصبح يعرف الميناءَ الذي أبحر منه. وأماكن شبابه المألوفة. ومحيط البيت. وساحة فينيسيا الصغيرة حيث وثب طفلاً بمرَح.

عند هذه النقطة قاطعه قبلاي خان، أو تخيّل نفسه يقاطعه، أو أن ماركو بولو تخيّل نفسه مقاطَعَاً، بسؤال مثل: “أتتقدّم دائماً ورأسكَ ملتفتٌ إلى الوراء؟”، أو: “هل ما تراه هو ما يكون خلفكَ دائماً؟”، أو بدلاً من ذلك: “هل تحدث رحلتكَ في الماضي فقط؟”.

كلُّ هذا كي يستطيع ماركو بولو أن يوضح أو يتخيّل نفسه موضّحاً أو كونه متخيّلاً وهو يوضّح أو ينجح أخيراً في التوضيح لنفسه، أن ما سعى إليه دائما كان شيئاً ما يقع أمامه. وحتّى لو كان الأمر أمرَ قضيّةٍ من قضايا الماضي، فهو ماضٍ تغيّر تدريجياً وهو يتقدُّم في رحلته، لأن ماضي المسافر يتغيّر وفق المسار الذي يتبعه: ليس الماضي القريب جداً، أي ذلك الذي يضيف إليه كل يومٍ ينقضي يوماً، بل الماضي الأكثر نأياً. ويجد المسافر لدى وصوله إلى كل مدينة جديدة، مرّة أخرى، ماضياً له لم يعرف أنه امتلكه: إن غرابة ما لم تعد أنتَ عليه أو ما لم تعد تمتلك تكمن في انتظاركَ في أماكن غريبة، غير مملوكة.

يدخل ماركو مدينة؛ يشاهد إنساناً ما في ساحة يعيش حياة أو لحظة قد تكون حياته ولحظته؛ قد يكون الآن في مكان ذلك الإنسان. لو أنه توقف في الزمن. منذ زمن طويل؛ أو لو أنه منذ عهد بعيد. عند مفترق طرق. بدل أن يتّخذ طريقاً اتّخذ الطريق المعاكس. وبعد تجوال طويل وصل إلى أن يكون في مكان ذلك الإنسان في تلك الساحة.

أمّا الآن، فهو مستبعدٌ من ماضيه الحقيقي أو الافتراضي ذاك؛ إنه لا يستطيع التوقّف؛ يجب عليه مواصلة الطريق إلى مدينة أخرى. حيث ينتظره ماضٍ آخر من ماضياته. أو ربّما شيءٌ ما كان مستقبَلاً ممكناً له هو الآن حاضرُ إنسان آخر. المستقبَلات غير المتحقّقة ليست إلّا أغصاناً للماضي: أغصاناً ميتة.

“أَرَحَلاتُك هي لإنقاذ ماضيك؟”، كان هذا هو سؤال الخان عند هذه النقطة. سؤالٌ يمكن أن يُصاغ هكذا أيضاً: “أهي رحلاتٌ لاسترداد مستقبلك؟”.

وكان جواب ماركو: “المكان الآخر مرآة نقيضة. يتعرّف فيها المسافرُ على القليل الذي له، مكتشفاً الكثير الذي لم يمتلكه ولن يمتلكه أبداً”.

—————————-

الجزء الرابع

تمشي ثمانين ميلاً مع الريح (4)

مدن وذاكرة (5)

في مورليا، المسافرُ مدعوٌّ إلى زيارة المدينة، وفي الوقت نفسه، إلى فحص بعض بطاقات البريد القديمة التي تُظهرها كما اعتادت أن تكون عليه: الساحة نفسها مع دجاجة في مكان محطّة الحافلات، منصّة فرقة عازفين في مكان المعبر الفوقي، سيّدتان شابّتان بمظلّتين شمسيتين خفيفتين بيضاوين في مكان مصنع الذخائر.

إذا لم يرغب المسافر في تخييب أمل الأهالي، يجب عليه امتداح مدينة البطاقة البريدية وتفضيلها على المدينة الراهنة، مع أن عليه أن يحرص على احتواء أسَفه على ما تغيّر ضمن حدود معيّنة: معترفاً بأن أبّهة ورخاء مورليا العاصمة، مقارنة بالقديمة، مورليا الريفية، لا يمكن أن يعوّضا رشاقةً معيّنة مفقودة، ولكن التي لا يمكن تقديرها الآن إلّا في بطاقات البريد القديمة. في حين أن المرء من قبل، وحين كانت مورليا الريفية تلك أمام ناظريه، لم يشاهد شيئاً من الرشاقة على الإطلاق، بل وقد يراها اليوم أقلّ، لو ظلّت مورليا بلا تغيير. وفي كلّ الأحوال، تمتلك العاصمة جاذبيةً مُضافة بوساطة ما أصبحت عليه،  بحيث يمكن للمرء أن ينظر الى الوراء بحنينٍ إلى ما كانت عليه.

حذارِ أن تقول لهم إنّ مدناً مختلفة تتوالى واحدة بعد أخرى أحياناً فوق الموقع نفسه، وتحت الاسم نفسه، وتُولَد وتموت من دون أن تعرف إحداها الأخرى، من دون تواصلٍ بينها. أحياناً حتى أسماء الأهالي تظلّ نفسها، ونبرات أصواتهم، وسِمات الوجوه أيضاً؛ ولكنّ الأرباب الذين يعيشون تحت أسماء وعلى أمكنة، يغادرون من دون كلمة ويستوطن أماكنهم غرباء. من العبث السؤال عمّا إذا كان الجدُد أفضل أو أسوأ من القدماء، طالما ليست هناك صِلة بينهم، تماماً مثل ما أن البطاقات البريدية القديمة لا تصوّر مورليا كما كانت، بل تصوّر مدينة مختلفة، دُعيت مصادفة مورليا، مثل هذه القائمة الآن.

مدن ورغبة (4)

في مركز فيدورا، تلك العاصمة ذات الحجارة الرمادية، ينتصب مبنىً معدنيّ وكرة بلّورية في كلّ غرفةٍ من غرفهِ. وبالنظر في قلب كلّ كرة، تشاهِد مدينةً زرقاء، نموذجاً لفيدورا مختلفة. هذه هي الأشكال التي كان يمكن أن تتّخذها المدينة لو لم تُصبح، لسببٍ أو لآخر، ما نراها عليه اليوم. في كلّ عصرٍ تخيّل أحدٌ ما، ناظراً إلى فيدورا كما كانت عليه آنذاك، طريقةً لجعلها المدينة المثالية، ولكن خلال إنشائه لنموذجه المصغّر، لا تعود فيدورا بعد الآن هي فيدورا كما كانت من قبل، وما كان حتى الأمس مستقبلاً ممكناً لا يصبح إلّا دمية في كرة زجاجية.

المبنى ذو الكرات هو الآن متحف فيدورا: يزوره كلّ ساكن من سكّان المدينة، يختار المدينة التي تتوافق مع رغباته، يتأمّلها، متخيّلاً انعكاس صورته في بركة قنديل البحر التي كانت ستجمع مياه القناة (لو لم يتمّ تجفيفها)، المشهد من المقصورة المظّللة على امتداد الشارع المخصّص للفِيَلة (طُردت من المدينة الآن)، متعة الانزلاق هبوطاً على المئذنة اللولبية الملتوية (تلك التي لم تجد أبداً قاعدة ترتفع عليها).

على خريطة إمبراطوريتك، أيّها الخان الأكبر، لا بدّ أنّ هناك مكاناً لكلّ من فيدورا الحجارة الكبيرة والفيدورات الصغيرات في الكرات الزجاجية. ليس لأنها كلُّها حقيقية على حدّ سواء، بل لأنّها كلّها ليست إلّا افتراضات. الأولى تحتوي على ما هو مقبول بوصفه ضرورياً بينما هو لم يصبح كذلك بعد؛ الأخريات يحتوين على ما هو متخيّلٌ بوصفه ممكناً، وبعد لحظة لاحقة لا يعود ممكناً.

مدن وعلامات (3)

يتساءل الإنسانُ الذي يترحّل ولا يعرف بعدُ المدينة التي تنتظره على امتداد طريقه، ماذا سيشبه القصر، الثكنات، الطاحونة، المسرح، البازار. في كلّ مدينة من مدن الإمبراطورية كلُّ مبنىً مختلفٌ ومرتّب وفق نظام مختلف: ولكن ما أن يصلَ الغريبُ إلى المدينة المجهولة، ويتغلغلَ بصره في مخاريط الباجودات الصنوبرية، والعلّيات، والقشّ المحصود، متابعاً خطوط القنوات العشوائية، الحدائق، أكوام القمامة، حتى يميّز فوراً أيّها قصور الأمراء، وأيّها معابد كبار الكَهَنة، وأيّها الحانة، وأيّها السجن، وأيّها حيّ الفقراء.

يقول البعض إنّ هذا يثبت فرضية أنّ كلّ إنسان يحمل في ذهنه مدينةً مصنوعة من اختلافات فقط، مدينة بلا شكل ولا بُنى، تملأها المدن الفردية تماماً.

هذا ليس صحيحاً بالنسبة لمدينة زويي. في كلّ موضع من مواضع هذه المدينة تستطيع، من جهة أخرى، أن تنام، تصنع أدوات، تطبخ، تراكم الذهب، تتعرى، تمتلك نفوذاً، تبيع، تستفتي العرّافين. أيُّ سقفٍ من سقوفها الهرمية يمكن أن يغطّي مشافي المجذومين أو حمامات المحظيات. إن المسافر لَيتجوّل في أرجائها ولا يملك سوى الشكوك: إنه غير قادر على تمييز ملامح المدينة، وتختلط الملامح التي يحتفظ بها مميّزة في ذهنه أيضاً. إنه يستنتج التالي: إذا كان الوجود في كلّ لحظاته هو كلّ ذاته، فمدينة زويي هي مكان الوجود الذي لا يقبل الانقسام. ولكن لماذا تظهر المدينة إلى حيّز الوجود إذاً؟ أيُّ خطٍّ يفصل الداخل عن الخارج؟ يفصل قعقعة العجلات عن عواء الذئاب؟

مدنٌ خِفاف (2)

والآن سأحكي عن مدينة زنوبيا العجيبة من نوعها: فمع أنها تقع على قطعة أرض جافة، إلّا أنها تقوم على دعائم عالية، والبيوت من القصب والزنك، ذات عدد كبير من المنصّات والشرفات المقامة على ركائز خشبية بارتفاعات متفاوتة، تتقاطع إحداها مع الأخرى، تصل بينها سلالم وأرصفة مُشاة معلقة، تعلوها مبانٍ مشرفة ذات سقوف مخروطية، براميلُ تخزين مياه، دواراتُ رياح، وبَكَراتُ ناتئة، وقَصَبُ صيد أسماك، وروافع.

لا يتذكّر أحدٌ أيّة حاجة أو أمر أو رغبة دفعت مؤسّسي زنوبيا إلى إعطاء مدينتهم هذا الشكل، وهكذا لا تُعْلِمنا المدينة كما نراها اليوم عمّا إذا كانت راضية، هي التي ربما نمَتْ خلال تراكبات متتابعة منذ البداية، وأصبحت الآن خطّة بنائها لغزاً لا يمكن حلّه. ولكنّ المؤكد هو أنّكَ إذا طلبتَ من أحد سكّان زنوبيا أن يصف رؤياه لحياة سعيدة، فسيكون ما يتخيّله دائماً مدينة تشبه زنوبيا بدعائمها وأرصفة مُشاتها المعلقة، زنوبيا مختلفة اختلافاً تامّاً ربما، رفرفة برايات وأشرطة، ولكنّها مشتقّة دائماً من مزيج عناصر ذلك النموذج الأول.

من هنا قيل إن من العبث محاولة تقرير ما إذا كان تصنيف زنوبيا يقع بين المدن السعيدة أو بين المدن التعيسة. لا معنى لتقسيم المدن إلى هذين النوعين، بل تقسيمها إلى نوعين آخرين: تلك التي تُواصل عبر السنوات والتغيرات إعطاء أشكالها للرغبات، وتلك التي إمّا أن تمحو فيها الرغباتُ المدينةَ، أو تمحوها المدينةُ.

مدنٌ متاجِرة (1)

بتقدمّكَ مسافة ثمانين ميلاً مع الريح الشمالية الغربية، تصل إلى مدينة يوفيميا، حيث يتجمّع تجّارُ أممٍ سبع عند كلّ انقلابٍ صيفيّ وانقلابٍ ربيعيّ. الزورق الذي يرسو هنا بحمولة من زنجبيل وقطن سيُبحر مرّة أخرى، عنبرُه ممتلئ بجوز الفستق وبذور الخشخاش، والقافلة التي أنزلت لتوّها أكياس جوز الطيب والزبيب، بدأت تحشو عدولها بلفائف الموسلين الذهبي استعداداً لرحلة العودة. ولكنّ ما يدفع الرجالَ إلى السفر عبر الأنهار وعبور الصحاري للمجيء إلى هنا، ليس تبادل البضائع فقط، تلك التي تستطيع العثور عليها هي نفسها في كل مكان، في جميع الأسواق داخل وخارج إمبراطورية الخان الأكبر، متناثرة عند قدميك على الحصائر الصفراء نفسها، في ظلّ المظلّات الواقية الحامية لها من الذباب نفسها، معروضة بتخفيضات الأسعار الكاذبة نفسها. أنتَ لا تجيء إلى يوفيميا لتبيع وتشتري فقط، بل أيضاً لأنه في الليل، وحول النيران المحيطة بالسوق من كلّ جوانبه، وهم جلوسٌ فوق الأكياس أو البراميل، أو متمدّدون فوق حزم السجاد، لدى كلّ كلمة ينطقها إنسان ـ مثل “ذئب”، “أخت”، “كنز محجوب”، “معركة”، “جرَب”، “عشّاق” ـ  يقصّ كلّ واحد من الحاضرين قصّته مع الذئاب، الأخوات، الكنوز، الجرَب، العشّاق، المعارك.

وتعرف أنكَ في الرحلة الطويلة التي تنتظركَ، حين تبدأ باستدعاء ذكرياتك واحدة بعد أخرى لتظل يقظا تغالب تمايل الجمل أو اهتزاز الجنك، سيغدو ذئبكَ ذئباً آخر، أختك أختاً مختلفة، معركتكَ معارك أخرى، لدى عودتكَ من “يوفيميا”، المدينة، حيث يُتاجَر بالذاكرة عند كل انقلاب صيفي وانقلاب ربيعي.

بسبب وصوله حديثاً، وجهله باللغات الشرقية جهلاً مطبقاً، لا يستطيع ماركو بولو التعبير عن نفسه إلّا باستخراج أشياء من أمتعته ـ طبول، أسماك مملّحة، قلائد من أسنان خنازير ناتئة ـ والإشارة إليها بإيماءات، بقفزات، بصرخات دهشة أو رعب، محاكياً عواء ابن أوى، نعيب البومة.

لم تكن الصِّلات بين عنصر وآخر من عناصر القصّة واضحة دائماً بالنسبة إلى الإمبراطور؛ قد تكون للأشياء معانٍ متنوّعة: قد تشير جُعبة سهام ممتلئة إلى قرب وقوع حرب، أو وفرة طرائد، أو قد تشير إلى شيءٍ آخر؛ حانوت أسلحة؛ قد تعني ساعةٌ رملية زمناً يمضي، أو زمناً مضى، أو رملاً، أو مكاناً تُصنع فيه الساعات الرملية.

إلّا أن ما عزّز في نظر قبلاي كلّ حادثة وكل خبر نقله إليه مُخبره العاجز عن الإفصاح، كان الفضاء الذي تلبّث حول الحادثة والخبر، خواء غير ممتلئ بالكلمات. وامتلكتْ أوصافُ مدنٍ زارها ماركو بولو هذه الفضيلة: يمكنك الجوَلان فيها بالفكر، أو أن تضيع، أو تتوقّف وتستمتع بالهواء البارد، أو تفرّ.

مع مضيّ الزمن، بدأت الكلماتُ في حكايات ماركو تحلّ محلّ الأشياء والإيماءات: أوّلاً علامات تعجّب، أسماء معزولة، أفعال قليلة، ثم عبارات، أحاديث متشعّبة ومورقة، استعارات ومجازات. لقد تعلّم الأجنبي التحدّث بلغة الإمبراطور، أو تعلّم الإمبراطور فهم لغة الأجنبي.

ولكنْ يمكنكَ القول إنّ التواصل بينهما كان أقلّ بهجةً ممّا كان عليه في الماضي: لا ريب أن الكلمات كانت أعظم فائدة من الأشياء والإيماءات في تعداد أكثر الأشياء أهمّيةً في كلّ مقاطعة ومدينة ـ نصُب تذكارية، أسواق، أزياء، حيوانات ونباتات إقليمية ـ ومع ذلك، فإن ماركو بولو حين بدأ يتحدّث عن كيف يجب أن تكون الحياة في تلك الأماكن، خذلته الكلمات، وعاد شيئاً فشيئاً إلى الاعتماد على الإيماءات والنظرات الخاطفة وتقطيبات الوجه.

وهكذا، بالنسبة إلى كلّ مدينة، بعد المعلومات الأساسية المعطاة بكلمات محدّدة، كان يتابع بتعليقٍ صامت، رافعاً يديه، مبسوطة الراحتين أو مقلوبةً أو جانبية، بحركات مستقيمة أو منحرفة، بطيئة أو متشنّجة. كان ينشَأ نوعٌ من حوار جديد: يدا الخان الأكبر البيضاوان، المثقلتان بالخواتم، تُجيبان بحركات جليلة على يدي التاجر البارعتين والعصبيّتين. ومع تنامي نوع من الفهم بينهما، بدأت أيديهما تتّخذ أساليب ثابتة، يتّسق كلُّ واحد منها، في تناوبها وتكرارها، مع تغيُّر في المزاج.

وفيما كانت مفردات الأشياء تتجدّد مع عيّنات جديدة من البضائع، مالت ذخيرة التعليق الصامت إلى أن تصبح مستقرّة ومنغلقة. وتلاشت بهجة العودة إليها لدى كليهما أيضاً؛ وظلّا في أحاديثهما، معظم الوقت، ساكنين وصامتين.

——————

الجزء الخامس

فلاسفة جالسون على مرجٍ أخضر (5)

لاحظ قبلاي خان أن مدنَ ماركو بولو شابهت إحداها الأخرى، كما لو أن المسار من واحدة إلى أخرى لا ينطوي على رحلة بل تغيير عناصر. عندئذٍ، من كلّ مدينة وصفها ماركو له، انطلق عقل الخان الأكبر على سجيّته، وأعاد، بعد تفكيك المدينة قطعةً قطعة، إنشاءها بطرق أخرى، مستبدلاً مكوّناتها، ناقلها، قالباً لها.

خلال ذلك واصل ماركو الإبلاغ عن رحلته، إلّا أن الإمبراطور لم يعد يصغي. قاطعه قبلاي: “من الآن فصاعداً سأصف المدن، وستقول لي أنت إنْ كان لها وجودٌ وهل هي كما تصوّرتَها. سأبدأ بأن أسألك عن مدينة ذات سلالم، معرّضة لريح شرقية، على خليجٍ هلالي الشكل. وسأعدّد الآن بعض العجائب التي تحتويها: صهريجٌ زجاجي بعلوّ كاتدرائية، بحيث يستطيع  الناس مراقبةَ سباحةِ وطيرانِ السمك الخطّاف فيه واستخلاص نبوءاتٍ منه؛ نخلةٌ تعزف بسَعفها في الريح كما القيثارة؛ ساحة على مدارها مائدةٌ مرمرية على شكل حدوة حصان؛ مِفرَشُ مائدة مرمريّ، عامر بأطعمة وأشربة من مرمر أيضاً”.

ـ “مولاي، إن عقلك لَجوّال، هذه بالتحديد هي المدينة التي كنت أحكي لك عنها حين قاطعتَني”.

ـ “أتعرفها؟ أين هي؟ ما اسمها؟”.

ـ “لا اسم لها ولا مكان. وسأكرّر سبب أنّني كنت أصفها لك ولماذا: من بين عدد المدن التي يمكن تخيُّلها، يجب أن نُقصي تلك التي تتجمّع عناصرها من دون خيط رابط، قاعدة داخلية، منظور، موضوع للحديث. الأمر مع المدن هو ذاته مع الأحلام: يمكن الحلمُ بكلّ شيء قابل للتخيّل، ولكن حتى أكثر الأحلام بُعداً عن التوقّع هو كناية تُخفي رغبة أو نقيضَها: خوفاً. المدن مثل الأحلام، مصنوعة من رغبات ومخاوف، فحتى لو كان خيطُ حديثها سرّاً، فإن قواعدها لا معقولة، منظوراتها مضلّلة، وكلّ شيء يُخفي شيئاً آخر”.

ـ “لا مخاوف لديّ ولا رغبات”، أعلن الخان، “وأحلامي إمّا يؤلّفها عقلي وإمّا المصادفة”.

ـ “المدن أيضا تعتقد أنها مِن عَمَلِ العقل أوالمصادفة، ولكن لا الأوّل يكفي لتثبيت جدرانها ولا الثاني. أنت مبتهج، ليس بسبع أو سبعين أعجوبة من أعاجيب مدينة من المدن، بل بالجواب الذي تردّ به على سؤالك”.

ـ “أو بالسؤال الذي تسألكَ إياه، مكرِهةً إياكَ على أن تجيب، مثلما ‘طيبة’ عبر فم أبي الهول”.

مدنٌ ورغبات (5)

من هناك، بعد ستّة أيام وسبع ليال، تصل إلى زبيدة، المدينة البيضاء، المعرّضة للقمر تعريضاً تامّاً، بشوارع ملتفّة على نفسها كما لو في شلّة خيوط. إنهم يحكون عن تأسيسها هذه الحكاية: حلمَ رجالٌ من أمَم متنوّعة حلماً متماثلاً. شاهدوا امرأة تعدو ليلاً عبر مدينة مجهولة؛ شوهدت المرأة من الخلف، بشعر طويل، وكانت عارية. حلموا أنهم يلاحقونها. ثم وهم يستديرون وينعطفون فقدوها جميعاً. بعد الحلم انطلقوا باحثين عن تلك المدينة؛ لم يجدوها أبداً، ولكنهم وجدوا واحدة أخرى؛ لقد قرّروا بناء مدينة تشبه تلك التي في الحلم. وفي تخطيطهم للشوارع تتبّع كلّ واحد منهم مسار ملاحقته؛ وفي البقعة التي فقدوا فيها آثار الهاربة، نظّموا الفضاءات والجدران بشكل يختلف عمّا كانت عليه في الحلم، بحيث أنها لن تتمكّن من الهرب مرّة أخرى.

هذه كانت مدينة زبيدة، حيث استوطنوا، منتظرين أن يتكرّر ذلك المشهد ذات ليلة. ولكن لا أحد منهم، سواء في يقظته أو منامه، رأى المرأة مرّة ثانية أبداً. شوارعُ المدينة كانت شوارعَ يسعون فيها إلى العمل كلّ يوم، من دون أي صلة بعد الآن بالمطارَدة المحلوم بها. تلك التي، في ما يخصّ هذه المسألة، نُسيت منذ زمن طويل.

وصل رجالٌ جددٌ من أراضٍ أخرى، ولكونهم حلموا حلماً مثل أحلامهم، وفي مدينة زبيدة، تعرّفوا على شيء من شوارع الحلم، وغيّروا مواقع الممرّات المقنطرة والسلالم لتشبه شبهاً أشدّ طريق المرأة الملاحقة، بحيث لا يظلّ هناك، عند البقعة التي تلاشت فيها، سبيل للإفلات.

أوّل الواصلين لا يمكنه أن يفهم ما الذي اجتذب هؤلاء الناس إلى زبيدة، هذه المدينة القبيحة، هذا الشرَك.

مدنٌ وعلامات (4)

من بين كلّ التغيرات التي تطرأ على اللغة والتي يجب على مسافر في أراضٍ نائية مواجهتها، لا يعادل واحدٌ منها ذاك الذي ينتظره في مدينة هايبيشة، لأن التغيُّر لا يتعلّق بالكلمات بل بالأشياء. دخلتُ هايبيشة ذات صباح، وقد انعسكت حديقة ماغانوليا في بحيرات شاطئ ضحلة زرقاء، وسرتُ بين سياجاتٍ من الأشجار واثقاً من أنني سأكتشف سيّدات شابات وجميلات يأخذن حمّاماً؛ ولكن في قاع المياه كانت سرطانات بَحْرية تعضّ عيون المنتحرات، حول أعناقهنّ رُبطت أحجار، وشعورهنّ خضّرتها طحالب بحرية.

شعرتُ أنني خُدعت، وقرّرتُ طلب عدالة السلطان. تسلّقتُ درجات القصر المرمرية السماقية، القصر ذي القباب الأعلى بين القباب، عبرتُ ستّة أفنية مقرمدة ذات نوافير. كانت القاعة الوسطى تمنع الدخول إليها حواجزُ شبكيّة حديدية: كان المحكوم عليهم يَرفعون كتلاً بازلتية من مقلع مفتوح تحت الأرض، وسلاسل سوداء تُثقل أقدامهم.

ليس بإمكاني إلّا سؤال الفلاسفة. دخلت المكتبة الكبرى، وضِعتُ بين رفوف متداعية تحت ثقل مجلّدات من أوراق جلدية، تتبّعت النظام الأبجدي لحروف أبجدية متلاشية، صاعداً هابطاً قاعاتٍ وسلالمَ وجسوراً. وفي قاعة مُطالعةِ البرديات، أكثر القاعات بعداً، لاحتْ لي وسط سحابة دخان عينا مراهق زائغتان، متمدّد على حصير وشفتاه مطبقتان على غليون أفيون.

ـ “أين الحكيم؟”.

أشار المدخّن إلى خارج النافذة. كانت إشارته إلى حديقة فيها ألعاب أطفال: لعبة قنان خشبية، أرجوحة، خذروف. وكان الفيلسوف جالساً على المرجة الخضراء. قال: “العلامات تشكّل لغة، ولكنّها ليست اللغة التي تعتقد أنك تعرفها”.

أدركتُ أن عليّ تحرير نفسي من الصوَر التي دلّتني في الماضي على الأشياء التي سعيتُ إليها: عندئذٍ فقط سأنجح في فهم لغة هايبيشة.

والآن، ليس عليّ إلّا سماع صهيل الخيول وفرقعة السياط. واستولت عليّ إثارة شهوانية: في هايبيشة عليك أن تذهب إلى الإسطبلات وحلبات ركوب الخيل لترى النساء الجميلات اللواتي يعتلين السروج، بأرداف عارية، وربلات سيقانهنّ تغطّيها دروع، وما إن يقترب شابّ أجنبيّ حتى يطرحنه فوق أكوام القش أو نشارة الخشب، ويضغطن عليه بحلمات أثدائهنّ الصلبة.

وحين لا ترغب روحي بمُثيرٍ أو غذاءٍ سوى الموسيقى، أعرف أنه يجب التماسها في المقابر: الموسيقيون مختبئون في المدافن؛ ومن قبر إلى قبر ترتعش أصوات النايات، وتجيب أوتارُ القيثارات على بعضها البعض.

في هايبيشة أيضاً، وهذا صحيح، سيأتي اليوم الذي ستكون فيه رغبتي الوحيدة هي المغادرة. وعندئذٍ أعرف أنني لا يجب أن أهبط إلى الميناء، بل تسلُّق أعلى قمّة من قمَم القلعة وانتظار سفينة تمرُّ هناك في الأعالي. ولكن هل ستمرّ يوماً؟ لا توجد لغة بلا خداع.

مدنٌ خِفاف (3)

لا أعرف ما إذا كانت آرملا على هذه الشاكلة، لأنها غير مكتملة أو لأنها هُدمت، ما إذا كان السبب نوعاً من السحر أو مجرد نزوة. الحقيقة الماثلة هي أنّ لا جدران لها ولا سقوف ولا طوابق: إنها لا تمتلك شيئاً من الأشياء التي تجعلها تبدو مدينة، باستثناء أنابيب المياه المرتفعة عمودياً حيث يجب أن تكون البيوت، والمنتشرة أفقياً حيث يجب أن تكون طوابق: غابة أنابيب تنتهي بحنفيّات، مرشّات استحمام، مزاريب، مصارف مياه. تنتأ مغسلة بيضاء خلفيّتُها السماءُ، أو ينتأ حوض استحمام، أو مصنوعات أخرى من الخزف الصيني تشبه ثماراً متأخّرة ما تزال متدلّية من الأغصان. ستظنّ أن عمال التمديدات أكملوا عملهم وانصرفوا قبل وصول بنّائي الآجرّ؛ أو قد تظنّ شيئاً آخر، أن نُظمهم القائمة على استخدام طاقة المياه، العصيّة على التلَف، نجتْ من كارثة، أو زلزال، أو نخْر النمل الأبيض.

آرملا لا يمكن أن تُسَمَّى مهجورة، سواء هُجرت قبل أن تُسكن أو بعد ذلك. إذا رفعت عينيك في أيّة ساعة ونظرت بين الأنابيب، من المحتمل أن تلمح امرأة شابّة أو عدداً كبيراً من النسوة الشابّات، نحيلات، مائلات إلى القصر، يتنعّمن في أحواض الاستحمام، أو يحنين ظهورهنّ تحت مرشّات الاستحمام المعلّقة في الفراغ؛ يغسلن أو ينشّفن أو يعطّرن أنفسهنّ، أو يمشطن شعورهنّ الطويلة في مرآة. في الشمس تلتمع خيوط الماء المتناثر من مرشّات الاستحمام، نفثات الحنفيّات، الانبجاسات، رشّاشُ الماء، رغوةُ اسفنجات الاستحمام.

وأصل إلى هذا التفسير: ظلّت الجداولُ التي تغذّي أنابيب آرملا بالمياه ملكاً لحوريات المياه والينابيع. وباعتيادهنّ على الرحيل مع امتداد عروق المياه الجوفية، وجدنَ أن من السهل الدخول في العالم المائي الجديد، أن ينبجسن من نوافير متعدّدة، أن يجدن مرايا جديدة، ألعاباً جديدة، طرقاً جديدة للتمتّع بالمياه. ربّما طرد غزوهنّ الكائنات الإنسانية، أو ربّما بنى الناس آرملا كتقدِمة نذرية للفوز برضا الحوريات اللواتي جرحتْ مشاعرهن إساءة استخدام المياه. مهما يكن الأمر، يبدو أن هؤلاء العذراوات راضياتٌ الآن: إنك لَتسمعهنّ يغنين صباحاً.

* ترجمة: محمد الأسعد

—————————————


الجزء السادس

أسبرُ منابعَ السعادة الضئيلة (6)

مدنٌ متاجِرة (2)
في كلويي، وهي مدينة عظيمة، الناس الذين يتحرّكون عبر الشوارع كلُّهم غرباء. في كلّ مواجهة، يتخيّل كلُّ واحدٍ منهم عن الآخر ألفَ شيء؛ لقاءات من تلك التي قد تحدث بينهم، محادثات، مفاجآت، عناقات، لسَعات. ولكنْ لا أحدَ يحيّي أحداً؛ تلتقي العين بالعين لثانيةٍ، ثم تندفع بعيداً، باحثةً عن عيون أخرى، من غير توقُّفٍ أبداً.
تجيء فتاةٌ تبرم مِظلّة خفيفة على كتفها، وتبرم بلا مبالاة ردفيها المستديرين أيضاً. تجيء امرأةٌ ترتدي ملابس سوداء، مُظهرةً بلوغها سِنّ الرشد، عيناها قلقتان تحت نقابها، شفتاها ترتعشان. يجيء عملاقٌ موشوم؛ شابٌ ذو شعر أبيض؛ أنثى قزم؛ فتاتان توأم ترتديان ثوباً بلون المرجان. شيءٌ ما يجري بينهم، تبادُل نظرات مختلسة تشبه خطوطاً من التي تربط هيئةً بأُخرى، ترسم سهاماً، نجوماً، مثلّثات، إلى أن تستنفد كلّ التركيبات في لحظة، وتدخل المشهد شخصياتٌ أخرى: رجل أعمى مع فهد بسلسلة، مومس مع مروحة من ريش النعام، شابٌّ إغريقي يتأهّل للمواطنة الكاملة، امرأةٌ بدينة.
وهكذا، حين يحدث أن يجد بعض الناس أنفسهم معاً، مُحتمين من المطر تحت رواق، أو متجمّعين تحت سقيفة السوق، أو متوقّفين للإصغاء الى فرقة موسيقية في الساحة، تتحقّق بينهم لقاءاتٌ، إغواءات، مضاجعات، طقوس عربدة. من دون تبادل كلمة، من دون أن يلمس أصبعٌ أي شيء، من دون أن ترتفع عينٌ تقريباً.
ثمة موجة شهوانية تهزّ كلويي، المدينةَ الأكثر عِفّة بين المدن، هزّةً متواصلة. لو أن الرجال والنساء بدأوا يعيشون أحلامهم العابرة، فسيغدو كلّ طيفٍ شخصاً تبدأ معه قصّةُ مطاردات، ادّعاءات، إساءات فهم، صِدامات، مظالم، ولَتوقّف عرضُ الأُخيولات الجامحة.
■ ■ ■
مدنٌ وعيون (1)
بنى القدماءُ فالدرادا على ضفاف بحيرة، ذات بيوتٍ جميع شرفاتها تقع واحدة فوق الأخرى، وشوارع مرتفعة تُشرف حواجزها المسيّجة على المياه. لهذا يشاهد المسافر لدى وصوله مدينتين: واحدة منتصبة فوق البحيرة، والأخرى منعكسة فيها رأساً على عقب. لا شيء يظهر إلى حيّز الوجود أو يحدث في فالدرادا الأولى من دون أن تكرّره فالداردا الثانية، لأنّ المدينة أُنشئت هكذا، بحيث تنعكس كلّ نقطة بها في مرآتها. ولا تحتوي فالدرادا التحتيّة، في الماء، على كل الزخارف المحزّزة ونتوءات الواجهات التي ترتفع فوق البحيرة فحسب، بل وعلى دواخل الغرف، بالسقوف والأرضيات، ومنظور القاعات، ومرايا خزائن الثياب.
سُكّان فالدرادا يعرفون أن كلّ فعلٍ من أفعالهم هو في ذات الوقت ذلك الفعل وصورته المرآوية التي تمتلك المنزلة الخاصّة التي للصور. ويمنعهم هذا الوعي من الاستسلام لحظة واحدة للمصادفة والنسيان. حتى حين يثني العشّاق أجسادهم العارية، الجلدَ لصق الجلد، ملتمسين الوضعية التي ستمنح أحدهم أقصى متعةٍ بالآخر، حتى حين يُغمد القتلة السكّين في عروق الرقبة السوداء، ويتدفّق المزيد من الدم المتخثّر كلّما زادوا الضغط على النصل المنزلق بين الأوتار الرابطة بين العظام والعضلات، فإن مضاجعاتهم وجرائمهم ليست هي التي تحظى بالأهمية القصوى، بقدر ما تحظى بها مضاجعاتهم وجرائمهم في الصوَر، الشفّافة والباردة في المرآة.
أحياناً تزيد المرآة قيمةَ شيءٍ من الأشياء، وأحياناً تحرمه من قيمته. ليس كلّ شيء من الأشياء التي تبدو ثمينة في الأعلى تحافظ المرآة على قوّته حين يتمرأى.
المدينتان التوأم غير متساويتين، لأن لا شيء ممّا يظهر إلى حيز الوجود أو يحدث في فالدرادا متناسقٌ: كلّ وجه وإيماءة يُجاب عليهما في المرآة بوجهٍ وإيماءة مقلوبين، نقطةً بنقطة. كلّ واحدةٍ من الفالراداتين تعيش من أجل الأخرى، عين إحداهما في عين الأخرى؛ ولكنْ لا يوجد بينهما حُبّ.
■ ■ ■
حلمَ الخان الأكبر بمدينة؛ وها هو يصفها لماركو بولو:
“الميناءُ في الظلّ يواجه الشمال. المراسي عالية فوق الماء الأسود، الذي يرتطم بالجدران الحاجزة؛ تنحدر درجاتٌ حجرية جعلتها الطحالب زلِقة. زوارقُ مطْليّة بالقار مربوطة، تنتظر الركّاب المغادرين المصفوفين في طابور لتوديع أهاليهم. تجري مراسم الوداع في صمت، ولكنْ ترافقها الدموع. الجوّ بارد؛ الحميع يغطّون رؤوسهم بِشالات. صيحة من النوتيّ تضع حدّاً للتأخير. يربض المسافرُ عند القيدوم، يتحرّك ناظراً باتّجاه الجماعة التي تخلّفت على الشاطئ؛ لم يعد ممكناً تبيُّن ملامحه من على الساحل؛ يتوقّف الزورق بجوار سفينة راسية. على السلم يصعد شكلٌ ضئيل، يتلاشى؛ يسمع صوت السلسلة الصدئة وهي تُرفَع، محتكّة ببيت القلس. الناس الذين ظلّوا على الشاطئ يطلّون من فوق الحواجز الواقية فوق صخورالرصيف الممتدّ في البحر، عيونهم تُتابع السفينة الى أن تدور حول الرأس البحري؛ وللمرة الأخيرة يلوّحون بخرَقٍ بيضاء”.
يقول الخان لماركو: “انطلق، استكشف كلّ ساحل، وابحث عن هذه المدينة، ثم عُدْ وأخبرني إن كان حلمي يتطابق مع الواقع”.
فيقول ماركو: “سامحني يا سيدي، لا شكّ أنني سأبحر من ذلك المرسى عاجلاً أم آجلاً، ولكنّني لن أعود لأخبرك عنه. المدينة موجودةٌ ولديها سِرٌّ بسيط: إنّها لا تعرف إلّا الارتحالات، لا العودات”.
■ ■ ■
أصغى قبلاي خان، مطبقَ الشفتين على جذع الغليون الكهرمانيّ، ولحيته مسترسله فوق ياقته الأرجوانية، وأصبعا إبهاميه مقوّسان بعصبية في خفيّة الحريريين، إلى حكايات ماركو بولو من دون أن يرفع حاجباً. هذه هي الأمسيات التي كان يُثقل فيها ظِلُّ وسواسٍ على قلبه.
“مُدنكَ لا وجودَ لها، ربما لم يحدث أن وُجدت أبداً. لا ريب أنه لن يكون لها وجودٌ مرّة أخرى أبداً. لماذا تسلّي نفسكَ بخُرافات معزّية؟ أعرفُ تماماً أن إمبراطوريتي تتعفّن مثل جثة في مستنقع، يصيب مرضها الغربان التي تنقرها بالعدوى، كما يصيب أيضاً القصبَ الذي ينمو مخَصَّباً بأخلاطها. لماذا لم تحدّثني عن هذا؟ لماذا كذبتَ على إمبراطور التتار أيها الأجنبي؟”.
عرف بولو أنه كان من الأفضل مجارات مزاج العاهل السوداويّ:
“نعم… الإمبراطورية مريضة، والأسوأ أنها تُحاول الاعتياد على أوجاعها. هدف استكشافاتي هو هذا: إنني بالبحث عن آثار سعادةٍ لا يزال لمْحُها ممكناً، أسبر منابعها الضئيلة. إذا أردتَ معرفة مبلغ الظلام حولك، عليك أن تجعل بصرك حديداً، أن تُنعم النظر في الأضواء الواهية في نقطة نائية”.
إلّا أن الخان كانت تستولي عليه في أوقات أخرى نوباتُ شعور بالنشاط والخفّة، فينهض عن حشاياه، ويذرع السجّاد الممتد فوق الممرّات تحت قدميه بخطوات واسعة.
ويتطلّع إلى الخارج، من فوق حواجز السطيحة، ليلقى نظرة شاملة بعينٍ مبهورة على اتّساع حدائق القصر المضاءة بمصابيح مدلّاة من أشجار الأرز. وعندها يقول: “ومع ذلك فأنا أعرف أن إمبراطوريّتي مصنوعة من موادّ قوامها البلّور، تنتظم جُزيئاتها في شكلٍ مكتمل. وتتّخذ وسط تموّج العناصر ماسّةٌ رائعة وصلبة شكلاً، شكلَ جبل هائل شفّاف متعدّد الوجوه. لماذا تتوقّف انطباعات رحلاتك عند المظاهر المحبِطة ولا تلتقط أبداً هذه العملية التي لا سبيل إلى تغيير مسارها؟ تتلبّث عند كآبات عارضة؟ لماذا تُخفي عن الإمبراطور عظمة قَدره؟”.
فيجيب ماركو: “بينما تَرفع المدينة النهائية والفذّة جدرانها الصامدة بإشارة منك يا سيدي، أقوم أنا بجمع رماد المدن الأخرى الممكنة التي تضمحل لتترك لها مكاناً، مدن من التي لا يمكن اعادة بنائها أو تذكُّرها أبداً. وحين تعرف أخيراً الفضْلة المتبقيّة من التعاسة التي لا يستطيع أيُّ حجر نفيس تعويضها، ستكون قادراً على احتساب عدد القيراطات الصحيح الذي يجب أن تجاهد تلك الماسة الأخيرة للوصول إليه، وإلّا فان حساباتك ستكون خاطئة منذ البداية”.



————————————-

الجزء السابع

ينسجن سجّاداً من ليف النخيل (7)

مدن وعلامات (5)

لا أحد يعرف، أيها الحكيم قبلاي، أفضلَ منك أنه لا يجب أن يحدث خلطٌ بين المدينة والكلمات التي تصفها. ومع ذلك، هنالك صِلةٌ بين إحداها والأخرى. إذا وصفتُ لك أوليفيا، وهي مدينة ثريّة بالمنتجات والأرباح، لا أستطيع الكشف عن رخائها إلّا بالكلام عن قصور مزركشة بالتخاريم، ذات حشايا مهدّبة فوق مقاعد بجوار نوافذ معّمدة. عن نوافير مدوّمة تروي مرجاً أخضرَ ينشر فيه طاووسٌ أبيض ذيله خلف ستارة باحة مُنْخُليّة. ولكنّك تدرك فوراً من هذه الكلمات كيف أنّ أولفيا مغطّاة بغيمة من سناجٍ وشحم يلتصقان بالبيوت، وأنه في الشوارع المليئة بالمشاجرات تسحق المقطوراتُ المتنقّلةُ المشاةَ على الجدران.

إذا وجب عليّ أنْ أحدّثك عن صناعة السكّان، فسأتحدّث عن حوانيت السّراجين التي تفوح منها رائحة الجلود، عن النساء اللواتي يثرثرن وهنّ ينسجن سجّاد ليف النخيل، عن القنوات المعلّقة التي تحرّك شلّالاتها أذرعةَ الطواحين، إلّا أن الصورة التي تستحضرها هذه الكلمات في عقلك المستنير هي صورة عمودِ دورانٍ يواجه أسنان المخرطة، فِعلاً من الأفعال التي تكرّرها آلافُ الأيدي آلاف المّرات وفق سرعة مصمّمة لتناسب كلّ تغيير.

إذا وجب عليّ أن أشرح لك كيف تميل روح أوليفيا إلى حياةٍ حرّة وحضارة مصفّاة، سأخبرك عن السيّدات اللواتي ينزلقن ليلاً في قوارب صغيرة مضاءة بين ضفّتي مصبّ نهر أخضر، ولكنّ هذا ليس إلّا لتذكيرك أنه في الضواحي، حيث يهبط الرجال والنساء كلّ مساء مثل صفوف من السائرين في نومهم، ينفجر هناك أحدهم ضاحكاً في الظلام دائماً، مُطلقاً سيلاً من المزاح والسخرية.

ربّما أنت لا تعرف هذا: للحديث عن أوليفيا لا أستطيع استخدام كلمات مختلفة. فإذا كانت هناك حقاً أوليفيا ذات نوافذ معّمدة وطاووس وسرّاجين ونسّاجات سجّاد وقوارب صغيرة ومصبّات أنهار، فستكون ثقباً أسود بائساً يتجمّع حوله الذباب. ولوصفه، سيكون عليّ العودة إلى استعارات السناج وقعقعة العجلات والأفعال المكرورة والسخرية. الزيف ليس في الكلمات أبداً، إنه في الأشياء.

■ ■ ■

مدن خِفاف (4)

مدينة سوفرونيا مبنيّة من نصفَيْ مدينتين. في إحداهما توجد سكّة حديد مدينة الملاهي العظيمة، بحدباتها شديدة الانحدار؛ دوّامة الخيول بسلاسل شعاع دواليبها؛ عجلة الأقفاص الحديدية الدوّارة؛ مطيّة الموت براكبي درّاجاتها الجاثمين؛ القمّة الكبيرة وفي وسطها تتدلّى مجموعة أراجيح البهلوانات.

أمّا نصف المدينة الآخر فهو من حجارة ورخام وإسمنت، وفيه المصرف والمعامل والقصور والمسلخ والمدرسة وكلّ ما تبقّى.

أحد نصفي المدينة دائمٌ والآخر مؤقّت، يقتلعونه حالماً تنتهي فترة إقامته، يفكّكونه ويأخذونه بعيداً، مُعيدين إقامته في القِطَع الخالية من نصف المدينة الأخرى.

وهكذا يحلّ كلّ سنةٍ اليومُ الذي ينقل فيه العمّال القوصرات الرخامية، يُنزلون الجدران الحجرية والبوّابات الإسمنتية الضخمة، يفكّكون الوزارات، النُّصب التذكاري، أرصفة تحميل السفن، مصفاة النفط، المستشفى، يحملونها على مقطورات تتبع خطّ رحلتهم السنوي من موقف إلى موقف. هنا يبقى قائما نصفُ سوفرونيا ذو أروقة التدريب على الرمي، دوّامات الخيول، الصرخة المتدلّية من عربة مقدّمة سكّة حديد الملاهي، وتبدأ باحتساب عدد الشهور والأيام التي يجب أنْ تنتظرها قبل أن تعود القافلة، وتستطيع حياةٌ كاملة أن تبدأ مجدّداً.

■ ■ ■

مدن متاجِرة (3)

حينما يدخل الرحالة المنطقة التي عاصمتها يوتروبيا، لا يشاهد مدينة واحدة بل عدّة مدن متساوية الأحجام، لا تختلف إحداها عن الأخرى، متناثرة فوق هضبة شاسعة منبسطة. يوتروبيا ليست واحدة، بل هي هذه المدن مجتمعةً؛ إلّا أن المسكونة منها واحدةٌ فقط، في وقت تكون فيه الأخريات خاليات، وتجري هذه العملية دورياً. الآن سأخبرك كيف يتمّ هذا. في اليوم الذي يشعر فيه سكان يوتروبيا بقبضة الملل، ولا يعود أحدٌ قادراً على تحمّل عمله، أقاربه، بيته وحياته، الديون، الناس اللذين يحبّ أن يسلّم عليهم أو يجب أن يسلّموا عليه، يقرّر جميع المواطنين عندئذ الانتقال إلى المدينة المجاورة القائمة في انتظارهم، خالية وجيّدة كمدينة جديدة؛ هناك سيتّخذ كلّ واحد منهم عملاً جديداً، زوجة مختلفة، سيرى مشهداً آخر حين يفتح نافذته، وسيقضي وقته مع تسليات مختلفة، مع أصدقاء مختلفين، مع قيل وقال مختلفَيْن.

هكذا تتجدّد حياتهم من انتقال إلى انتقال، بين مدن يجعل مظهرها أو انحدارها أو جداولها أو رياحها كلّ موقع مختلفاً عن المواقع الأخرى بهذه الطريقة أو تلك. وبما أن مجتمعهم منظّمٌ من دون فوارق الثروة أوالنفوذ، فإن المسار من وظيفة إلى أخرى يحدث من دون مضايقات تقريباً؛ ويضمن تعدّد الوظائف التنوُّعَ. ولذا، من النادر في مدى حياة فرد واحد أن يعود إنسانٌ إلى عمل كان قد شغله.

هكذا تُكرّر المدينة حياتها، متماثلةً، متنقّلةً صعوداً وهبوطاً فوق رقعة شطرنجها الخالية. السكّانُ يكرّرون المشاهد ذاتها بممثّلين يتغيّرون؛ إنهم يكرّرون الكلام نفسه بلهجات مركّبة بشكل مختلف؛ إنهم يفتحون على التوالي أفواهاً بتثاؤبات متماثلة.

يوتروبيا وحدها، من بين كل مدن الإمبراطورية، تظلّ هي ذاتها دائماً. عطارد، إله التقلُّب، ذاك الذي بالنسبة إليه المدينة مقدّسة، هو مَن صنع هذه المعجزة الغامضة.

■ ■ ■

مدن وعيون (2)

مزاجُ المشاهد هو الذي يمنح مدينة زمرّدة شكلَها. إذا مررتَ هناك مصفّراً، أنفُك مشرئبّ وراء الصفّارة، فستعرفها من الأسفل: حافّات نوافذ، ستائر مرفرفة، نوافير. إذا مضيت قُدماً سائراً، مدلّياً رأسك، أظافرك ناشبة في راحتي يديك، ستظلّ نظرتك المحدّقة مشدودة إلى الأرض، إلى القنوات، أغطية فتحات المجاري، سفط الأسماك، الأوراق التالفة. أنت لا تستطيع القول إن جانباً من جوانب المدينة أصدق من الجانب الآخر، ولكنّك تسمع عن زمرّدة العليا، بشكلٍ رئيس، من أولئك الذين يتذكّرونها وهم يغوصون في زمرّدة السفلى، سائرين مع امتدادات الشوارع ذاتها كلّ يوم، وهم يجدون في كلّ صباح، مرّةً أخرى، نفايات اليوم السابق وقد شكلّتْ قشرةً عند أساسات الجدران.

بالنسبة إلى كلّ واحد، يجيء، عاجلاً أو آجلاً، اليومُ الذي نهبط فيه بنظرتنا المحدّقة على امتداد أنابيب الصرف، ولا نستطيع إبعادها عن حصى الطرقات المرصوفة بعد اليوم. ليس مُحالاً الارتدادُ على الأعقاب، إلّا أنه أكثر ندرةً: وهكذا نواصل السير عبر شوارع زمرّدة بعيون تنقّب الآن في الأقبية، في الأساسات، في الآبار.

■ ■ ■

مدن وأسماء (1)

هنالك القليل ممّا أستطيع إخبارك به عن آجلورا ويتجاوز الأشياء التي يكرّرها سكّانها دائماً: مجموعة كبيرة من فضائل معبَّر عنها بالأمثال، من نقائص تساويها معبَّر عنها بالأمثال، بضعة أطوار غريبة، بعضُ حِرصٍ على شكلياتٍ احتراماً للقواعد.

نسب مراقبون قدماء، من الذين لا يوجد سببٌ يدعو إلى افتراض عدم صدقهم، إلى آجلور تشكيلتها الدائمة من الخصائص، بمقارنتها ــ ولا ريب ــ بتلك التي للمدن الأخرى في زمنهم. ربما لا آجلورا المذكورة في الأخبار، ولا آجلورا المرئية، تغيّرتْ تغيُّراً كبيراً منذ ذلك الزمن، ولكنّ ما كان شاذّاً صار اعتيادياً، ما بدا طبيعياً صار الآن شيئاً غريباً، وفقدت الفضائلُ والنقائصُ الميزة أو الخزيَ في مدونة فضائل ونقائص موزّعة توزيعاً مختلفاً.

بهذا المعنى، لا شيء ممّا قيل عن آجلورا صحيح، ومع ذلك تخلق هذه الروايات عن مدينةٍ صورة متلاحمة وصلدة، بينما تمتلك الآراء الاعتباطية ــ التي ربما استُنبطتْ من العيش هناك ــ مادّة أقلّ جوهرية. هذه هي النتيجة: تمتلك المدينة التي يتحدّثون عنها الكثير ممّا هي بحاجة إليه ليكون لها وجود، بينما تظهر المدينة القائمة فوق موقعها وجوداً أقلّ حقيقيةً.

وهكذا، إذا رغبتُ بوصف آجلورا لك، متمسّكاً بما شاهدته وجرّبته شخصياً، عليّ أن أخبركَ أنها مدينة بلا لون ولا شخصية، مزروعة هناك عشوائياً. إلّا أن هذا أيضاً لن يكون صحيحاً: في ساعات معيّنة، في أماكن معيّنة على امتداد الشارع، تُشاهد، مفتوحاً أمامك، التلميحَ إلى شيءٍ ما لا يمكن أن يُخطئه النظر، نادرٍ وربما ثمين؛ وتودّ أن تقول ما هو، ولكنّ كل شيء قيل عن آجلورا سابقاً يسجن كلماتك، ويضطرك إلى أن تكرّر، لا أن تقول.

لهذا السبب لا يزال السكّان يؤمنون أنهم يعيشون في آجلورا ما، لا تنمو إلّا باسم آجلورا، ولا يلاحظون آجلورا تلك التي تنمو على الأرض. وحتى أنا الذي أودّ الاحتفاظ بالمدينتين متمايزتين في ذاكرتي، لا أستطيع الحديث إلّا عن الواحدة، لأن ذكرى الأخرى، مع الافتقار إلى الكلمات التي تُثبّتها، ضاعت.

■ ■ ■

“من الآن فصاعداً سأصف لك المدن”، قال الخان، “وفي رحلاتك سترى إن كان لها وجود”.

ولكن المدن التي زارها ماركو بولو كانت دائماً مختلفة عن تلك التي فكّر بها الإمبراطور.

قال قبلاي: “ومع ذلك، فقد أنشأتُ في عقلي مدينة نموذجية يمكن أن تُستنتج منها كلّ المدن الممكنة. إنها تحتوي على كلّ شيء يتّسق مع النموذج. وبما أن المدن التي لها وجود تفترق عن النموذج بدرجة التنويع، لستَ بحاجة إلّا لتوقّع الاستثناءات على النموذج، واحتساب أقرب التوليفات احتمالاً”.

أجاب ماركو: “أنا أيضاً فكّرت بمدينة نموذجية أستدلّ منها على المدن الأخرى. إنها مدينة مصنوعة من الاستثناءات فقط، من المستبعدات، من المتنافرات، من المتناقضات. إن كان وجود مدينة من هذا النوع بعيدَ الاحتمال إلى حدٍّ بعيد، فإننا ــ باختزال عدد العناصر الشاذّة ــ نزيد من احتمال أن تكون المدينة موجودة حقّاً. ولهذا، ليس عليّ سوى طرح الاستثناءات من مدينتي، وسأصل، مهما كان الاتّجاه الذي أتّخذه، إلى واحدة من المدن التي تظهر إلى حيّز الوجود كاستثناء دائماً، ولكنّني لا أستطيع مدّ فعاليتي قسراً إلى ما وراء حدّ معين: عندها سأحظى بمدن أشدّ احتمالاً من أن تكون حقيقية”.

—————————–

الجزء الثامن

رُخامٌ أخضر تنقله القوافل (8)

من حاجز شرفة القصر العالي يراقب الخان الأكبر إمبراطوريته تنمو. أوّلاً، توسّعَ خطُّ الحدود ليحتضن الأراضي المغزوّة، ولكنّ تقدُّم الفرق العسكرية واجه مناطقَ شبه مهجورة، قرىً بأكواخ حقيرة، مستنقعات رفضَ الرزّ أن يشطأ فيها، أناساً مهزولين، أنهاراً جافة، قصباً. وفكّر الخان: “إمبراطوريتي نمَتْ أبعد ممّا ينبغي باتّجاه الخارج، وحان الوقت لتنمو في نطاق ذاتها”، وحلم ببساتين رمّان، بالفواكه تبلغ من النضج حدّ أن تمزّق قشورها، بالدربانيات* مسفوعةً على السفود تقطر دِهناً، بعروق معدِن تظهر على وجه الانزلاقات الأرضية بكتل متلألئة.

والآن ها هي كثيرٌ من فصول الوفرة ملأت مخازن القمح. وحملت الأنهارُ الطافحة غاباتٍ من الروافد الخشبية لتدعيم سقوف المعابد والقصور البرونزية. ونقلت قوافلُ العبيد جبالاً من الرُّخام الأخضر المرقّط عبر القارّة. ويتأمّل الخان الأكبر إمبراطورية مغطّاةً بالمدن التي تثقل على الأرض والجنس البشري، مكتظّة بالتجارة والثروة، مثقلة بالزينات والشعائر، معقّدة بالآليات والتراتبات الطبقيّة، منتفخة، متوتّرة، ثقيلة جدّاً.

ويفكر قبلاي: “الإمبراطورية مسحوقة بثقلها ذاته”، وتظهر في أحلامه الآن مدنٌ خفيفة مثل طيّارات ورقية، مدن مثقّبة مثل شرائط مخرّمة، مدن شفّافة مثل الناموسيات، مدن مثل عروق أوراق الشجر، مدن مسطورة مثل راحة يد، مدن مزركشة تُشاهَد عبر كثافتها الخيالية المعتمة.

    يعيدون بناء إرسليا في مكان آخر ثم يهجرونها إلى أرض أبعد

يقول لماركو: “سأقصّ عليك ماحلمتُ به ليلة البارحة: في وسط أرض صفراء منبسطة، منقّطة بجلاميد نيازك وصخور غريبة، رأيت من مسافة بعيدة أبراجَ مدينة ترتفع، قمماً نحيلة، مصنوعة بطريقة يستطيع معها القمر خلال رحلته أن يستريح مرّة على واحدة منها ومرّة على أخرى، أو يتأرجح متدلّياً من حبال الروافع”.

يقول بولو: “مدينة حلمك هي لاليج. لقد نظم سكّانها هذه الدعوات للاستراحة في سماء الليل حتّى يضمن القمرُ لكلّ شيء في المدينة القدرةَ على النموّ، والنموّ بلا نهاية”.

فيضيف الخان: “هنالك شيءٌ لا تعرفه؛ لقد ضمن القمر الممتنّ لمدينة لاليج أكثر الامتيازات ندرةً: أن تنمو بخفّة”.

■ ■ ■

مدن خِفاف (5)

إذا اخترتَ أن تصدّقني، فهذا أمرٌ طيّب. والآن سأقصّ عليك كيف صُنعت أوكتافيا، مدينة شبكة العنكبوت. هنالك شفا هاوية بين جبلين سفحاهما شديدا الانحدار: فوق الفراغ تقوم المدينة، مربوطةً من كلتَيْ القمّتين بالحبال والسلاسل وبممرّات ضيّقة. أنت هناك تسير فوق عوارض الربط الخشبية الصغيرة، محاذراً أن تضع قدمك في الفراغات المفتوحة، أو تتمسّك بحبال القنّب المجدولة. لا شيء في الأسفل لمئات ومئات الأقدام: بضع غيوم تنسلّ عابرة؛ وإلى مدىً أبعد في الأسفل يمكنك أن تلمح قاع الهوّة.

    ظِلٌ مثقّبٌ يسقط على أوراق النبات في النهارات المشمسة

هذا هو الأساس الذي تقوم عليه المدينة: شبكة تُستخدم كممرّ ودعامة. وكلّ ما تبقّى معلّقٌ تحتها بدل أن ينهض إلى الأعلى: سلالم من حبال، أراجيح شبكيّة، بيوت مثل أكياس، حمّالات ثياب، مصاطب مثل جندولات، قرَب ماء جلدية، أنابيب غاز، سفافيد، سلال على أسلاك، أطباق بكماء، مرشّات استحمام، أراجيح بهلوانات، وحلقات لألعاب الاطفال، حبال مركبات، شمعدانات، قدور نباتات متسلّقة.

إن حياة سكّان أوكتافيا، المعلّقة فوق الهاوية، أقلّ انعدام يقينٍ ممّا هي عليه الحياة في مدن أخرى. إنهم لا يعرفون سوى أن الشبكة ستدوم زمناً طويلاً.

■ ■ ■

مدن متاجِرة (4)

في إرسليا، لإنشاء العلاقات التي تُبقي على حياة المدينة، يمدّ السكّانُ خيوطاً من زوايا البيوت، بيضاء أو سوداء أو رمادية أو سوداء ـ بيضاء، بناءً على ما إذا كانوا يُشيرون إلى علاقة قرابة بالدم أو تجارة أو نفوذ أو وكالة. حين تتكاثر الخيوط إلى درجةِ أنْ لا يعود بامكانك المرور بينها، يرحل السكّان: تُفكّك البيوت؛ لا تبقى سوى الخيوط وركائزها.

وينظر لاجئو إرسليا من جانب جبل، وقد خيّموا مع حاجيّاتهم المنزلية، إلى متاهة الخيوط المشدودة والأعمدة المرتفعة في السهل. تلك هي مدينة إرسليا، ساكنة، وهم لا شيء.

نهم يعيدون بناء إرسليا في مكان آخر. ينسجون نمطاً مماثلاً من الخيوط يودّون أن يكون أكثر تعقيداً، وفي الوقت نفسه أكثر تناسقاً من الآخر. ثم يهجرونه ويأخذون أنفسهم وبيوتهم، وأيضاً إلى مكان أبعد.

لهذا، حين تكون مسافراً في أراضي “رسليا، تُصادف خرائب المدن المهجورة، من دون الجدران التي لا تدوم، من دون عظام الموتى التي تُدحرجها الريح بعيداً: مجرّد شِباك عناكب لعلاقات معقّدة باحثة عن شكل.

■ ■ ■

مدن وعيون (3)

بعد مسيرة سبعة أيام عبر أرض غابيّة، لا يستطيع المسافر المتّجه نحو بوسس رؤية المدينة، ومع ذلك يصل إليها. ما يدعم المدينة هي الركائز النحيلة التي تبرز من الأرض متباعدة بعضها عن بعض تباعداً كبيراً، وضائعة فوق الغيوم. إنك تتسلقّها بسلالم. على الأرض من النادر أن يظهر السكّان أنفسهم: إنّهم ــ ولديهم سلفاً كلّ ما يحتاجون إليه هناك في الأعالي ــ لا يفضّلون الهبوط. لا شيء من المدينة يلمس التراب ماعدا أرجل طائر البشروس الطويلة تلك التي تستريح عليها، وظِلٌ مثقّبٌ ذو زوايا يسقط على أوراق النبات حين تكون النهارات مشمسة.

هناك ثلاثة افتراضات حول سكّان بوسس: أنهم يكرهون الأرض؛ أنهم يحترمونها جداً الى درجة أنهم يتجنّبون كلّ اتّصال؛ أو أنهم يحبّونها كما كانت قبل أن يوجَدوا، وبالمناظير المقرّبة المصوّبة نحو الأسفل هم لا يملّون أبداً من فحصها، ورقةَ شجر فورقةَ شجر، صخرة فصخرة، نملة فنملة، متأمّلين غيابهم، مفتونين.

■ ■ ■

مدن وأسماء (2)

يحمي مدينة ليندرا نوعان من الآلهة. كلاهما أكثر ضآلة من أن يُرى، وأكبر عدداً من أن يُحصى. يقف أحد النوعين لدى أبواب البيوت، من الداخل، بجوار مشجب المعطف وحامل المظلّة؛ عند الانتقال يلحق بالعائلات ويضع نفسه في البيت الجديد عند مستودع المفاتيح. النوع الآخر يظلّ في المطبخ، مفضّلاً الاختباء تحت القدور أو في زغب المدخنة او خزانة المكانس: إنه ينتمي الى البيت، وحينما تغادر العائلة التي تعيش هناك، يظلّ مع المستأجرين الجدد. ربّما كان هناك سلفاً قبل أن يكون للبيت وجود، بين أعشاب قطعة الأرض الخالية، مختفياً في صفيحة صدئة؛ إذا هُدم البيت، وبُني في مكانه مجمعٌ ضخم لخمسين عائلة، سيُعثَر عليه، متضاعفَ العدد، في مطابخ تلك الشقق العديدة. للتمييز بين النوعين، سندعو الأوّل باسم آلهة البيت، والآخر باسم الآلهة الحارسة.

بين جدران أي بيت من البيوت، لا يظلّ أفراد الآلهة الحارسة مع بعضهم البعض بالضرورة، ولا أفراد آلهة البيت مع أفراد نوعهم. يزور بعضهم بعضاً، يتمشّون معاً فوق الأفاريز الجصّية المزخرفة، فوق أنابيب شبكات التدفئة؛ يعلّقون على الأحداث العائلية، ويندر ألّا يتشاجروا؛ ولكنّهم يستطيعون لسنوات العيش معاً بسلام. ولدى رؤيتهم جميعاً في صفّ، لن تستطيع التمييز بينهم. لقد رأت الآلهةُ الحارسة آلهةَ البيت، البالغة التنوّع أصولاً وعاداتٍ، تمرّ عبر جدرانها، لأن على آلهة البيت إيجاد مكان لها، محتكّةً مِرفقاً لمرفق بآلهة القصور الشهيرة ولكنِ البالية، ممتلئة بالغطرسة، أو محتكّةً بآلهة حارسة من أكواخ القصدير، حسّاسة ومرتابة.

جوهر ليندرا الحقيقي موضوع مناظرة لا تنتهي. تؤمن آلهةُ البيت أنها روح المدينة حتى لو أنها وصلت في السنة الماضية؛ وتؤمن أنها تأخذ ليندرا معها حين تهاجر. الآلهةُ الحارسة تعتبر آلهةَ البيت ضيفاً مؤقتاً، مزعجاً ومتطفّلاً؛ تعتبر أن ليندرا الحقيقية ملكها، وهي ما يعطي شكلاً لكلّ ما تحتويه الليندرا التي كانت هنا قبل وصول كلّ هؤلاء الأدعياء، والتي ستبقى حين يرحل الجميع.

كلا النوعين من الآلهة يشترك في هذا: إنهما ينتقدان دائماً ما يحدث في العائلة وفي المدينة مهما كان. تُقدّم آلهة البيت العجائز، أجداد الأجداد، العمّات، الجدّات، عائلة الماضي؛ بينما تتحدّث الآلهة الحارسة عن البيئة قبل أن يحلّ بها الخراب. ولكن هذا لا يعني أنهما لا تعيشان إلّا على الذكريات: إنهما تحلمان أحلام يقظةٍ بالمهَن التي سيتّخذها الأطفال حين يكبرون (آلهة البيت)، أو ما قد يصبح عليه هذا البيت في هذا الجوار (الآلهة الحارسة) لو أنه كان في أيد أمينة. لو أصغيتَ باهتمام، في الليل بخاصة، تستطيع أن تسمعهما في بيوت ليندرا، تتهامسان باستمرار، تقاطع إحداهما الأخرى، تتغاضبان، تتمازحان، وسط ضحكات ساخرة مكتومة.

■ ■ ■

مدن وموتى (1)

في ميلانيا، في أيّ وقت تدخل الساحة تجدُ نفسك عالقاً وسط حوار: يلتقي الجنديُّ المتبجّحُ والطفيليُّ، قادمَين من بابٍ، بالشابِّ المتبطّل والعاهرة، أو بدلاً من ذلك، ينطق الأب البخيل على عتبة داره بتحذيراته الأخيرة للابنة العاشقة، وتُقاطعه الخادمُ الحمقاءُ التي تأخذ رسالة قصيرة إلى القوّادة.

تعود إلى ميلانيا بعد سنوات، فتجد الحوار نفسه ما زال دائراً؛ في غضون ذلك يكون الطفيليّ قد مات، وكذلك القوّادة والأب البخيل، ولكنْ حَلّ محلّهم الجندي المتبجح والابنة العاشقة والخادم الحمقاء، وهؤلاء من جانبهم أيضاً أخذ مكانَهم المنافقُ والصديقة الحميمة والمنجّم.

سكّان ميلانيا يجدّدون أنفسهم؛ يموت المشاركون في الحوار واحداً فواحداً، وفي غضون ذلك يولد أولئك الذين سيأخذون أماكنهم، بعضهم في دَور، وبعضٌ في دور آخر. حين يغيّر أحدهم دوراً، أو يهجر الساحة إلى الأبد، أو يقوم بأوّل دخول له فيها، تحدث سلسلة من التغيّرات، إلى أن يُعاد إسناد كلّ الأدوار؛ ولكنْ خلال ذلك يواصل العجوز الغاضب الردّ على المربّية الظريفة، ولا يتوقّف المرابي أبداً عن ملاحقة الشابّ المحروم من الميراث، ولا المربّية عن مواساة ابنة الزوج، حتى وإنْ لم يحتفظ أحدٌ منهم بالصوت نفسه والعينين نفسيهما اللتين كانتا له في المشهد السابق.

أحياناً، ربما يحدث أن شخصاً لوحده سيتّخذ دورين متزامنين أو أكثر (طاغية، محسن، رسول)، أو قد يتضاعف دور واحد، يتعدّد، يُسنَد إلى مئة، إلى ألفٍ من سكّان ميلانيا: ثلاثة آلاف للمنافق، ثلاثون األفاً للطفيلي، مئة ألف لأبناء ملكٍ تدنّت منزلتهم وينتظرون التعرُّف عليهم.

وبمرور الزمن لا تعود الأدوار أيضاً هي نفسها كما كانت من قبل؛ من المؤكّد أنّ الفعل الذي واصلوا أداءه، عبر مكائد ومفاجآت، يقود إلى نوعٍ من الحلّ الأخير للعقدة، ذلك الذي يواصل الاقتراب حتى حين يبدو أن الحبكة تتكثّف أكثر فأكثر وتتزايد العقبات. إذا نظرتَ في الساحة على فترات متعاقبة، تسمع كيف أن الحوار يتغيّر من مشهدٍ إلى مشهد، حتى لو كانت حياة سكّان ميلانيا أقصر من أن تسمح لهم بإدراكه.

* الدربانيات: حيوانات من فصيلة الأبقار ذات سنام فوق غاربها.

—————————————–

—————————

الجزء التاسع

مدن غير مرئية..

لماذا تحدّثني عن الأحجار؟ (9)

يصف ماركو بولو جسراً، حجراً حجراً.

ـ “ولكنْ أيُّ حجر ذلك الذي يسند الجسر؟”، يسأل قبلاي خان.

ـ “لا يسند الجسرَ هذا الحجرُ أو ذاك”، يجيب ماركو، “ولكنْ خطُّ القوس الذي شكّلته الأحجار”.

يظلّ قبلاي خان صامتاً، متأمّلاً، ثم يضيف:

ـ “لماذا تحدّثني عن الأحجار؟ القوس وحده ما يعنيني”.

يجيب بولو: “من دون أحجارٍ لا وجود لقوس”.

■ ■ ■

هل حدثَ أن رأيتَ مدينةً تُماثل هذه في يوم من الأيام؟“.

سأل قبلاي خان ماركو بولو، مادّاً يده المغطّاة بالخواتم من تحت ظِلّة المركب الإمبراطوري الحريري ليشير إلى الجسور المقوّسة فوق القنوات، القصور الأميرية التي غمرتْ درجات أبوابها الرخاميّة المياه، انطلاق مركب صغير يتعرّج مدفوعاً بمجاذيف طويلة، الزوارق وهي تُفرغ سلال الخضروات في ساحات الأسواق، الشرفات، سلالم المباني، القباب، أبراج الأجراس، حدائق الجُزُر المتوهّجة بالخضرة في رمادية بحيرة الشاطئ الضحلة.

كان الإمبرطور، يرافقه أجنبيُّه ذو المقام الرفيع، يزور كن ـ ساي، عاصمة الأسرات القديمة المخلوعة، وأحدث لؤلؤة توضع في تاج الخان الأكبر.

“لا يا سيّدي”، أجاب ماركو، “لم أتخيّل أبداً أن مدينة مثل هذه يمكن أن تُوجد”.

حاول الإمبراطور التحديق في عينيه. خفضَ الأجنبيّ نظرتَه. وظلّ قبلاي صامتاً طيلة النهار.

بعد غروب الشمس، على مصاطب القصر، شرح ماركو بولو للعاهل نتائج مهمّاته. كقاعدةٍ، يُنهي الخان الأكبر يومه بالاستمتاع بهذه الحكايات بعينين نصف مغمضتين إلى أن تصدر أوّل بادرة تثاؤب منه، في إشارةٍ إلى مجموعة الوُصَفاء، ليُضيئوا المشاعل التي تقود العاهل إلى جناح المهجع الصيفي. ولكنّ قبلاي بدا هذه المرّة غير راغب بالاستسلام للتعب وأصرّ: “احكِ لي عن مدينة أخرى”. فاستأنف ماركو قائلاً: “… ومن هناك تُغادر وترحل راكباً طيلة ثلاثة أيام بين الشمال الشرقي والشرق مع الرياح الشمالية الشرقية…”، معدّداً أسماء وعادات وسِلَع عدد كبير من الأراضي. يمكن أن يقال عن ذخيرته إنها ممّا لا يُستنفد، إلّا أنه هو مَن كان عليه أن يستسلم الآن. كان الفجر قد انبلج حينما قال: “والآن يا سيّدي، حكيتُ لك عن كّل المدن التي أعرف”.

“ما تزال هناك واحدة لم تتحدّث عنها أبداً”.

 أحنى ماركو بولو رأسه.

“فينيسيا”، قال الخان.

ابتسم ماركو. “وهل اعتقدتَ أنني كنتُ أحدّثكَ عن غيرها؟”.

لم يُظهر الإمبراطور هزّةً. “ومع ذلك لم أسمعكَ تشير إلى هذا الاسم”.

فقال بولو: “في كلّ وقت أصف فيه مدينة، أقول شيئاً ما عن فينيسيا”.

“حينما أسألكَ عن مدن أخرى، ما أريده هو أن أسمع عنها، وعن فينيسيا حين أسألكَ عن فينيسيا”.

“لأميِّز خصائص المدن الأخرى، لا بدّ أن أتحدّث عن مدينةٍ أولى، تلك التي تظلّ ضمنيّةً، وبالنسبة إليّ: هي فينيسيا”.

“عليكَ، إذاً، أن تبدأ كلّ حكاية من حكايات رحلاتك من لحظة المغادرة، واصفاً فينيسيا كما هي، كلّ شيء عنها، غير مُهمِلٍ أيّ شيء تتذكّره عنها”.

كان سطح البحيرة متجعّداً قليلاً؛ وكان الانعكاسُ النحاسيّ لقصر أُسرة سونغ القديم كسْراً تحوّل إلى ومضات متألّقة تشبه أوراق شجر طافية.

قال بولو: “صوَر الذاكرة، ما أن تثبت في كلمات، حتى تُمحى. ربما أخشى فقدان فينيسيا كلّها دفعة واحدة، إذا تحدّثتُ عنها. أو ربّما أنني، بحديثي عن مدن أخرى، فقدتُها سلفاً، شيئاً فشيئاً”.

■ ■ ■

مدن متاجِرة (5)

في إسميرالدا، مدينةِ المياه، تمتدّ شبكةُ قنواتٍ وشبكةُ شوارعٍ يقاطع بعضها بعضاً. للذهاب من مكان إلى آخر، لديك دائماً خيارٌ بين أرضٍ وزورق: وبما أن المسافة الأقصر بين نقطتين في إسميرالدا ليست خطّاً مستقيماً، بل تعرّجٌ يتشعّب إلى طرقاتٍ اختيارية متلوّية، فإن الطرق التي تنفتح لكلّ عابر ليست اثنتين أبداً، بل عديدة، وتزداد أكثر بالنسبة إلى الذين يناوبون بين نزهةً بزورق ونزهةٍ على اليابسة.

وهكذا يتجنّب سكان إسميرالدا مَلَلَ السير في الشوارع نفسها كلّ يوم. وليس هذا كلّ شيء: شبكة المسارات ليست منظّمة على صعيدٍ واحد، بل تتبع بدلاً من هذا طريقَ درجات صاعدة ـ هابطة، سلالمَ مبانٍ، جسوراً مُحدودبة، شوارع معلّقة. بالجمع بين أجزاء المسارات المتباينة، المرفوعة أو التي على مستوى الأرض، يتمكّن كلّ ساكن من الاستمتاع يومياً بلذّة خطّ رحلة جديد للوصول إلى الأماكن نفسها. إن الحياة الأكثر هدوءاً وثباتاً تنقضي في إسميرالدا من دون أيّ تكرار.

الحياة السِرِّيّة والمغامِرة، هنا كما في أيّ مكان آخر، تخضع لقيودٍ أعظَم. قِطَطُ إسميرالد، لصوصُها، عشّاقها غير الشرعيين، يتحرّكون على امتداد طرق أعلى، متقطّعة، هابطين من قمّة سطح إلى شرفة، متتبّعين مسار القنوات بخطواتٍ بهلوانية.

تحت، تجري الجرذان في ظلمة البواليع، واحداً وراء ذيل الآخر، سويّةً مع المهرّبين والمتآمرين: إنهم يختلسون النظر من فتحات البواليع وأنابيب التصريف، ينزلقون عبر قيعان وخنادق متضاعفة، يسحبون من مخبأٍ إلى آخر كِسَر جبنة، سلعاً مهرّبة، براميل بارود، مجتازين اكتظاظ المدينة المخترَق بتشعّبات ممرّات تحت الأرض.

إن خريطةً لإسميرالدا يجب أن تتضمّن كلّ هذه المسارات، صلبةً وسائلة، واضحةً ومخفيّة، معلّمةً بأحبار ملوّنةٍ مختلفة. الأكثر صعوبة هو أن تثبّت على الخريطة مسارات طيور السنونو، تلك التي تجرح الهواء فوق السطوح، هابطةً قُطوعاً مكافئة طويلة غير مرئية، ثابتة الأجنحة، مندفعةً لابتلاع بعوضةٍ، متلولبةً صعوداً، تلامس برجاً مَسَّاً خفيفاً، مهيمنةً من كلِّ نقطةٍ من نقاط مساراتها الهوائية على كلِّ نقطةٍ في المدينة.

■ ■ ■

مدن وعيون (4)

حينما تصل إلى فيلس، تبتهج بملاحظة أنّ كل الجسور فوق القنوات، كلّ واحد منها مختلفٌ عن الآخر: محدودبة، مغطّاة، قائمة على أعمدة، على زوارق، معلّقة، ذات حواجز شُرفاتٍ شجريّة الزخارف. ويا لَها من تشكيلة نوافذ تُشرف على الشوارع: معّمدة، موريسكية، رمحية، مستدقّة الرأس، متوجّة بأهِلّة مزخرفة أو ورود من زجاج ملوّن؛ وكَم سطحٍ مرصوف يغطّي الأرض: حصى، بلاط، حصباء، قرميد أزرق وأبيض. في كلّ نقطة تعرض المدينة على نظرتك مفاجآتٍ: شجيرة قبّار ذات براعم وأزهار تنتأ من جدران القلعة، تماثيلُ ثلاثِ ملكات على أطناف جدار حجريّة، قبّة بَصَليّة مع بَصَلاتٍ أصغر متلولبة حول القمّة. وتهتف: “سعيدٌ ذلك الذي يحظى بفيلس أمام عينيه كل يوم، وذلك الذي لا يتوقّف أبداً عن رؤية الأشياء التي تحتويها”، آسفاً أن عليك مغادرة المدينة وأنت بالكاد تستطيع مسَّها مسّاً رفيقاً بنظرتك العجلى.

ولكنْ، بدلاً من ذلك، يحدث كثيراً أنك يجب أن تبقى في فيلس، وتقضي بقيّة أيامك هناك. وسرعان ما تتلاشى المدينة أمام عينيك، تنمحي نوافذ الورود، التماثيل على أطناف جدار حجرية، القِباب. ومثل كلّ سكّان فيلس، تتبع في سيرك خطوطاً متعرّجة من شارع إلى آخر، تمّيز بقَع ضوء الشمس من بقع الظلال، باباً هنا، درجاً هناك، دكّةً حيث تستطيع وضع سَلّتك، حفرة حيث تزلّ قدمك إن لم تكن حذراً. بقية المدينة كلّها غير مرئية. مدينة فيلس فضاءٌ تُرسم فيه مساراتٌ بين نقطٍ معلّقةٍ في الفراغ: الطريق الأقصر للوصول إلى تلك الخيمة المعيّنة لتاجر يتجنّب تلك النافذة المعيّنة لدائنٍ. خطواتك لا تتبع ما هو خارج العينين، ولكنْ ما هو في داخلها، مطمورٌ ومطموس. بالنسبة إلى رِواقَيْن مقنطَرَيْن، إذا ظلّ أحدهما يبدو مُبهِجاً أكثر، فما ذلك إلّا لأنه قبل ثلاثين سنة مرّت هناك فتاة ذات كُمَّيْن واسعين مطرّزين، أو، خلاف ذلك، قد يكون السبب الوحيد هو أن ذلك الرواق يلتقط الضوء في ساعة معيّنة مثل ذلك الرواق الآخر، ولا تستطيع أن تتذكّر أين.

ملايين العيون تتطلّع إلى النوافذ، الجسور، شجيرات القبّار، وربّما تكون تُنعِم النظر في صفحة كتابٍ بيضاء. عديدة هي المدن شبيهة فيلس التي تُراوغ نظرات الجميع المحدقة باستثناء ذلك الإنسان الذي يأخذها على حين غرّة.

الجزء العاشر

————————–

مدن غير مرئية..

كان الوقتُ غسَقاً حين وصلتُ (10)

مدن وأسماء (3)

لزمن طويل كانت بيرّا، بالنسبة إليّ، مدينةً محصّنة على منحدرات خليج، بنوافذ عالية وقِلاع، منطويةً على ذاتها مثل كأس، ذات ساحة مركزية عميقة مثل بئر، مع بئر في وسطها. لم أرَها أبداً، كانت واحدة من المدن العديدة حيث لم أصل أبداً، واحدة استحضرتها ذهنياً بوساطة اسمها: أوفراسيا، أوديل، مارجارا، جيتوليا. بيرّا امتلكت مكانها بينهنّ، مختلفة عن كلّ واحدة منهنّ، ومثل كلّ واحدة منهن، جليّةٌ في الخيال.

جاء اليوم الذي أَخذتني فيه رحلاتي إلى بيرّا، ما أن وضعت قدمي هناك حتّى أصبح كلّ شيء تخيلته نسياً منسيّاً. صارت بيرّا كما هي بيرّا. واعتقدتُ أنني عرفت دائماً أن البحر غير مرئيّ من جهة المدينة، مختفٍ وراء كثيب ساحل منخفض، متموّج؛ أن الشوارع طويلة ومستقيمة؛ أن البيوت مجمعاتٌ بينها فواصل، ليست عالية، وتفصل بينها قطع أراض مفتوحة فيها أكداس أثاث رديء ومناشر أخشاب؛ أن الريح تحرّك ريشات مراوح المضخّات المائية. منذ تلك اللحظة فصاعداً جلب اسمُ بيرّا إلى ذهني هذا المشهد، هذا الضوء، هذا الأزيز، هذا الهواء الذي يطير فيه غبارٌ ضارب إلى الصفرة: من الواضح أن الاسم يعني هذا، ولا يمكن أن يعني شيئاً إلّا هذا.

يواصل ذهني احتواءَ عدد كبير من مدن لم أرها أبداً، ولن أراها أبداً؛ أسماء تحمل معها شكلاً أو شظيّة أو وميضَ هيأةٍ متخيّلة: جيتوليا، أوديل، أوفراسيا، مارجارا. المدينة المرتفعة فوق الخليج ما تزال هناك أيضاً، في الساحة المنطوية على البئر، إلّا أنني لم أعد قادراً على تسميتها، بل ولم أعد أتذكّر كيف استطعت يوماً إعطاءها اسماً يعني شيئاً مختلفاً تماماً.

■ ■ ■

مدن وموتى (3)

لم أجازف في جميع رحلاتي أبداً قدر ما جازفت بالرحيل الى أديلما. كان الوقت غسقاً حين وصلتُ هناك. البحّارُ الذي أمسك الحبلَ وربطه بمربط المراكب كان يشبه رجلاً خدم معي جنديّاً وكان ميتاً. كانت الساعة هي ساعة سوق بيع السمك بالجملة. رجلٌ عجوز كان يحمّل سلّة من قنافذ البحر على عربة؛ ظننتُ انني تعرّفتُ إليه؛ حين استدرتُ، كان قد اختفى في أحد الأزقّة، ولكنني أدركتُ أنه بدا شبيهاً بصيّاد كان هرماً حين كنت طفلاً، ولم يعد ممكناً أن يكون بين الأحياء. أقلقني مشهد ضحيّة حمّى رابض على الأرض، تغطّي رأسه بطّانية: أبي، قبل وفاته بأيام قليلة، كانت له عينان صفراوان ولحية نامية مثلما لهذا الرجل. أشحت ببصري جانباً؛ لم أعد أجرؤ على النظر إلى أي شخص في وجهه مباشرة.

وفكّرتُ: “إذا كانت أديلما مدينةً أشاهدها في حلم، حيث لا تواجه إلّا الموتى، فالحلم يخيفني. إذا كانت أديلما مدينةً حقيقية، يقطنها أناسٌ أحياء، فأنا لا أحتاج إلّا إلى مواصلة النظر إليهم وستتلاشى التشابهات، ستظهر وجوهٌ غريبة، تُعاني كرباً. في كلا الأمرين من الأفضل، بالنسبة إليّ، ألّا أُصرّ على التفرّس فيهم”.

بائعةُ خضروات كانت تزن ملفوفاً في كفّتي ميزان وتضعه في سلّةٍ مدلّاةٍ بحبل أرسلته فتاةٌ من شرفة. كانت الفتاة مماثلة لواحدة في قريتي جُنّت بسبب الحبّ وقتلتْ نفسها. ورفعتْ بائعة الخضروات وجهها: كانت جدّتي.

فكّرتُ: “إنكَ لَتصل إلى لحظة في الحياة يفوق حينها الأمواتُ الأحياءَ عدداً بين الناس الذين عرفتَهم. ويرفض العقلُ قبولَ مزيدٍ من الوجوه، مزيدٍ من الأسارير: إنها، في كلّ وجهٍ جديدٍ، تُواجهه، تطبع الأشكال القديمة، ولكلّ واحد تجد القناعَ الأكثر ملائمة”.

تسلّق الحمّالون الدرجات في خطٍّ واحد، منحنين تحت البراميل والدمجانات؛ كانت قلنسوات من الخيش تخفي وجوههم، وفكّرتُ بخوفٍ ونفاد صبر: “سيعتدلون الآن وسأتعرّف إليهم”. ولكنني لم أستطع إبعاد عينيّ عنهم؛ لو حوّلتُ نظرتي المحدّقة ولو قليلاً نحو الزحام الذي يُتخم تلك الشوارع الضيّقة، لهاجمتني وجوهٌ غير متوقّعة، تعود إلى الظهور من أماكن بعيدة، محدّقة بي كما لو أنها تطلب أن أتعرف إليها، كما لو أن هدفها التعرّف إليّ، كما لو أنها تعرّفت إليّ سلفاً. ربما أنا، بالنسبة إلى كلّ واحد منها، أشبه بشخصٍ ما كان ميتاً. لم يمضِ على وصولي إلى أديلما إلّا وقت وجيز، وها أنا أصبح الآن واحداً منهم، انتقلتُ إلى جانبهم، مستغرقاً في هذا المشكال من العيون، التجعّدات، التكشيرات.

فكّرتُ: “أديلما ربما هي المدينة التي تصل إليها محتضراً، ويجد كلّ واحد فيها الناسَ الذين يعرفهم مرّة أخرى. هذا يعني أنني ميت كذلك”. وفكّرت أيضاً: “هذا يعني أن العالم الآخر ليس سعيداً”.

■ ■ ■

المدن والسماء (1)

في يودوكسيا، الممتدّة صاعدةً هابطةً في آنٍ واحد معاً، بأزقّةٍ متلوية، بدرجاتٍ، بطرقاتٍ نهاياتُها مغلقة، بزرائبَ مكشوفة، يُحتَفَظ بسجّادةٍ يمكنكَ أن تلحظ فيها شكلَ المدينة الصحيح.

عند النظرة الأولى، لا يبدو شيءٌ أقلَّ شبهاً بيودوكسيا من تصميم هذه السجّادة المخطّط بوحداتٍ متماثلة تتكرّرُ أنساقُها على امتدادِ خطوطٍ مستقيمة ودائرية، تتناسجُ مع قِمَمٍ مستدقّة ملوّنة تلويناً بارعاً، في تكرارٍ يمكن متابعته عبر النسيج كلّه. ولكنْ إذا تأنّيتَ وتفحّصتَها بعناية، ستقتنع أنّ كلّ مكان في السجادة يتوافق مع مكانٍ في المدينة، وأن كلّ ما تحتويه المدينة من أشياء متضمّنٌ في التصميم، منظّمٌ وفق علاقاته الواقعية، تلك التي تُفلت من عينك وقد صرف انتباهَها الصخبُ والزّحام والتدافع. كلُّ تشوّش يودوكسيا، نهيقُ البغال، لطخاتُ السناج، رائحةُ الأسماك، هو الجليُّ في المنظور الناقص الذي تتمسّك به؛ ولكنّ السجّادة تُبرهن على أن هناك نقطة تُظهر منها المدينة نِسَبَها الصحيحة، تُظهر المخطّطَ الهندسيَّ الضمنيَّ في كلّ تفصيلٍ من تفاصيلها مهما كان بالغ الصِغَر.

من السهل أن تضيع في يودوكسيا، ولكن حين تركّز وتحدّق في السجّادة، ستتعرّف إلى الشارع الذي كنتَ تبحث عنه، في خيطٍ قرمزيّ أو نِيليّ الزرقة أو أحمر ضارب للأرجوانيّ، يأخذكَ بدورةٍ واسعة إلى سياج أرجواني هو غايتُك الحقيقية. كلّ ساكن من سكّان يودوكسيا يقارن نظام السجّادة الصامت بالصورة الخاصّة به عن المدينة، بكَرْبه الخاصّ به، وكلّ واحد منهم يمكنه أن يجد، ضمن ما أُخفي بين الزخارف العربيّة، جواباً، قصّةَ حياته، تقلّبات القدر.

سُئل عرّافٌ عن الرّباط السرّي بين شيئين لا يتماثلان إطلاقاً، مثل السجّادة والمدينة. أحد الشيئين ــ أجاب العرّافُ ــ له الشكل الذي منحته الآلهة للسماء المزدانه بالنجوم والمدارات التي تدور فيها العوالم؛ الشيء الآخر هو انعكاسٌ له تقريبيٌّ مثل كلّ خلقٍ بشريّ.

لقد ظل الكهنة ردحاً من الزمن واثقين من أن نسق السجّادة المتناغم كان ذا أصلٍ إلهيّ. وبهذا المعنى تمّ تفسير قول العرّاف، من دون أن يثير أمراً خلافياً. ولكنْ بإمكانكَ، وعلى نحوٍ مشابه، الوصول إلى استنتاج معاكس: إنّ خريطة الكون الصحيحة هي مدينة يودوكسيا، تماماً كما هي، لطخةٌ تنتشر بلا شكل، بشوارع معوجّة، ببيوت ينهار أحدها فوق الآخر وسط سُحبٍ من غبار، نيران، صرخات في الظلام.

————————

===================

الجزء الحادي عشر

—————–

مدن غير مرئية

أُقايض أكياس فُلفل في أسواق نائية (11)

“… هكذا إذاً، رحلتكَ هي رحلة عبر الذاكرة في الواقع”.

اعتدل الخان الأكبر، وأذناه متنبّهتان دائماً، في أرجوحة نومه، مثلما يعتدل كلّما التقط رنّة حسرةٍ في كلام ماركو، وهتفَ متعجّباً: “ما كان ذهابك إلى هذا المدى البعيد إلّا لتسلخ عنك عبء التّوق إلى الماضي”، أو بطريقة أخرى: “أنت تعود من رحلاتك بحمولةٍ من الحسرات”. وأضاف متهكّماً: “إنّها لَمشتريات ضئيلة القيمة ــ والحقّ يُقال ــ بالنسبة إلى تاجر من جمهورية فينيسيا الأكثر جلالاً بين الجمهوريات”.

كان هذا هو هدف كلّ أسئلة قبلاي عن الماضي والمستقبل. لقد ظلّ يلهو بها ساعة من الزمن مثل قطّة تُلاعب فأراً، وأخيراً تمكّن من ماركو وظهر هذا إلى الجدار، هاجماً عليه، واضعاً ركبةً على صدره، ممسكاً به من لحيته: “هذا هو ما أردت سماعه منك؛ اعترف بما تهرّبه: أمزجةً، حالات نعمة، مراثيَ”.

ربما لم تكن هذه الكلمات والأفعال إلّا كلمات وأفعالاً متخيّلة، وهما صامتان بلا حركة يراقبان الدخان يرتفع ببطء من غليونيهما. تتبدّد الغيمة أحياناً في هبّة ريح، أو خلاف ذلك تظلّ معلّقة في الهواء؛ وكان الجواب في تلك الغيمة. وفكّر ماركو، والنفخة تحمل الدخان بعيداً، بالضباب الذي يغشى امتداد البحر والسلاسل الجبلية، ثمّ وحين يتبدّد، يترك الهواءَ جافّاً وشفّافاً، مُظهراً مدناً نائية. ما رغبتْ نظرته المحدّقة في الوصول إليه، كان أبعد من شاشة تلك الدعابات المتقلّبة: إنّ شَكْل الأشياء عن بعدٍ يُمكن أن يُدرَك أفضل.

أو خلاف ذلك، تتأرجح الغيمة، وهي لم تكد تغادر الشفتَيْن، كثيفةً وبطيئة، وتوحي برؤيا أخرى: بالزفرات المعلّقة فوق سقوف العواصم، بالدخان المعتِم الذي لا يتبدّد، بقلنسوة البخار الخانق الذي يُثقل على الشوارع المُسَفْلَتة. لا ضباب الذاكرة المتقلّب ولا الشفافية الجافّة، ولكنْ تفحّم الحيوات المحترقة هو ما يشكّل قشرةً فوق المدينة، الإسفنجة المنتفخة بالمادة الحيّة التي لم تعد تتدفّق، زحام الماضي، الحاضر، المستقبل، ذلك الذي يسدّ طريق الموجودات المتكلّسة في وَهْم الحركة: هذا هو ما ستجده عند نهاية رحلتك.

■ ■ ■

قبلاي: لا أعرف متى توفَّرَ لك وقتٌ لزيارة كلّ البلاد التي تصفها لي. يبدو لي أنك لم تنتقل من هذه الحديقة أبداً.

بولو: كلّ ما أراه وأفعله يتّخذ معنىً في فضاءٍ ذهنيّ يسود فيه الهدوء نفسه الذي يسود هنا، الظلُّ الناقص نفسه، الصمتُ نفسه الذي يتخلّله حفيفُ أوراق الشجر. في اللحظة التي أركّز فيها وأتأمّل، أجد نفسي مرّةً أخرى، ودائماً، في هذه الحديقة، في هذه الساعة المسائية، في حضورك الجليل، مع أنني أواصل، من دون لحظة توقّف، الإبحارَ في نهرٍ مخضرّ بالتماسيح، أو احتساب عدد براميل السمك المملّح حين إنزالها في عنبر السفينة.

قبلاي: وأنا أيضاً، لستُ واثقاً من أنني هنا، أتجوّل بين نوافير الحجر السمّاقي، صاغياً الى رشّاش الصدى المتناثر، ولست راكباً على رأس جيشي، مسربَلاً بالعرق والدم، غازياً الأراضي التي سيكون عليك وصفها، قاطعاً أصابع المهاجمين المتسلّقين جدران قلعة محاصرة.

بولو: ربما لا تظهر هذه الحديقة إلى حيّز الوجود إلّا في ظلّ أجفاننا المُسْبَلة، ولا نتوقّف أبداً: أنتَ عن إثارة الغبار فوق ميادين المعارك، وأنا عن مقايضة أكياس فلفل في أسواق نائية. ولكن في كلّ وقت نُغمض فيه عيوننا نِصف إغماضة، في وسط الضوضاء والزحام، يُسمح لنا بالانسحاب إلى هذا المكان، مرتدين كِيمونَيْن حريريّين، للتفكّر في ما نراه ونعيشه، لاستخلاص نتائج، للتأمّل عن بُعد.

قبلاي: ربما يدور حوارنا هذا بين شحّاذَيْن ملقّبَيْن قبلاي خان وماركو بولو؛ وهما ينخلان كوم قمامة، يكدّسان حطاماً صدئاً، مِزَقاً من ثياب، أوراقاً مهملة، ويشاهدان أثناء ذلك، وقد أسكرتهما بضع رشفات من نبيذ رديء، كلّ كنوز الشرق تتوهّج حولهما.

بولو: ربما كلّ ما تبقّى من العالم أرضٌ خرابٌ مغطّاة بأكوام قمامة، وحديقة قصر الخان الأكبر المعلّقة. ما يفصل بينهما أجفانُنا، ولكنّنا لا نستطيع معرفة أيّهما في الداخل وأيّهما في الخارج.

■ ■ ■

مدن وعيون (5)

حينما تكون قد خوّضتَ في النهرِ، حينما تكون قد عبرتَ الممرَّ الجبليَّ، تجد أمامكَ مدينة موريانا فجأةً. بوّاباتها المرمرية تلتمع في ضوء الشمس، أعمدتها المرجانية تدعم مثلثات في الواجهة ملبّسة بصخور خضراء مرقّطة، كلّ داراتها من زجاج مثل أحواضٍ مائية تسبح فيها ظلالُ فتياتٍ بحراشفَ فضّيةٍ راقصاتٍ تحت ثريّات ميدوزية الهيئة. إن لم تكن هذه هي رحلتك الأولى، فأنت تعرف مقدّماً أنّ لمدنٍ مثل هذه وجهاً مقابلاً: ما عليكَ إلّا أن تسير في شبه دائرة، وستدخل في مشهد وجه موريانا المخبّأ: امتداد لوحٍ معدنيّ صدئ، خيش، ألواح خشبية مثبّتة بمسامير ضخمة، أنابيب سوّدها السناج، أكداس من عُلب صفيح، جدران عمياء عليها علاماتٌ باهتة، إطارات مقاعد قشّ مهشّمة، حبال لا تصلح إلّا ليشنق امرؤٌ نفسه بها متدلّياً من عارضة خشبية متآكلة.

من جانبٍ إلى آخر، يبدو أن المدينة، وفقاً لقواعد المنظور، تُواصِل مضاعفة مخزونها من الصور: ولكنّها عدا هذا لا تمتلك سَماكةً، إنها لا تتكوّن إلّا من وجهٍ ووجه مقابل، مثل قطعة ورق، ذات شكلٍ على كلا الجانبين، لا يمكن فصل أيّ منهما عن الآخر، ولا أن ينظر أحدهما إلى الآخر.

■ ■ ■

مدن وأسماء (4)

كلاريس، المدينة المتألّقة، ذات تاريخ معذَّب. تضمحلّ عدّة مرّات ثم تزدهر مرّة أُخرى، محتفظةً دائماً بكلاريس الأولى بوصفها نموذجاً لكلّ فخامة لا مثيل له، ولا يمكن أن تسبّب مقارنته بحالة المدينة الراهنة إلّا المزيد من التنهّدات عند كلّ تلاشٍ دوريّ للنجوم.

في عصور انحطاطها، وقد أفرغتها الأوبئة، وتضاءل علوُّها بالعوارض والأفاريز المنهارة وتغيُّرات التضاريس، وصدئت وتوقّف صعودها بسبب الإهمال أو فقدان عمّال الصيانة، أصبحت المدينة مسكونة مرّة أخرى ببطء مع بروز الناجين من الأقبية والملاجئ، قطعاناً محتشدة بأعداد كبيرة مثل جرذان، تدفعها ضراوتها إلى التنقيب والقضم، والجمع والتلصيق أيضاً رغم هذا، مثل طيور تبني أعشاشاً. وانتزعتْ كلّ ما يمكن أن يؤخَذ من المكان الذي كان فيه، ووضعته في مكان آخر ليخدم غرضاً مختلفاً: انتهت الستائرُ المطرّزة إلى أن تصبح ملاءات أسرّة، وزرعتْ الريحان في جرار حفظ عظام الموتى الرُّخامية، وانتزعتْ مشربيات الحديد المزخرف من نوافذ غرف الحريم، واستخدمتها لشواء لحم القطط على نيرانٍ وقودُها من خشبٍ مرصّع.

واتّخذت كلاريس ناجيين، وقد وُضعت جنباً إلى جنب مع نُتَف كلاريس الشاذّة التي لا نفع فيها شكلاً، وجميعها أكواخٌ وزرائب مكشوفة ومجارٍ منتنة وأقفاصُ أرانب. ومع ذلك لم يُفقد شيء من روعة كلاريس الأولى تقريباً، كلّها كانت هنا،  نُظمت مجرّد تنظيم بترتيب مختلف، لا تقلّ ملائمةً لحاجات السكّان عما كانت عليه من قبل.

وجاءت بعد أيّام الفقر أوقاتٌ أكثر بهجة: برزت من خادرة كلاريس الأفقر فراشةُ كلاريس مترفة. وجعلت الوفرة الجديدة المدينة تفيض بموادّ جديدة، مبانٍ، أشياء؛ احتشد فيها أناسٌ جددٌ قادمون من الخارج؛ لا شيء، لا أحد له أيّة صِلة بكلاريس  الأولى أو الكلاريستَيْن. وكلّما ازداد رسوخ المدينة الجديدة رسوخَ منتصر في مكانِ واسمِ كلاريس الأولى، كلّما ازدادت إدراكاً أنها كانت تنتقل بعيداً عنها، مدمّرةً إيّاها بسرعة لا تقلّ عن سرعة الجرذان والعفن. ولكنّ المدينة، رغم افتخارها بثروتها الجديدة، شعرت في القلب منها بذاتها متنافرة، مغتربة، مغتصبة.

وعندئذ نُقلت مرّة أخرى كِسَرُ الروعة الأصلية التي تمّ الحفاظ عليها، بتكييفها لاستخدامات أشدّ غموضاً. إنها الآن مُصانة تحت أجراس زجاجية، حبيسة صناديق عرض، مرتّبة على حشايا مخملية، وليس لأنها ربما ما زالت تُستخدم من أجل شيءٍ ما، بل لأن الناس أرادو أن يُعيدوا بوساطتها إنشاء مدينة لا أحد يعرف عنها شيئاً الآن.

المزيد من الانحطاطات والمزيد من الازدهارات تتعاقب على كلاريس، تتبع إحداها الأخرى. تتغيّر العادات والسكّان بضع مرّات، ويبقى الأشدّ استعصاءً على الانكسار، الاسم والموقع والأشياء. كلّ كلاريس جديدة، وقد اكتنزت مثل جسد حيّ بروائحها ونفسها، تعرض متباهية، مثل جوهرة، ما يبقى من الكلاريسات القديمات، متشظّياً وميتاً.

لا يُعرف متى قامت التيجان الكورنثية على قمم أعمدتها: لا يُتَذكَّر إلّا واحدٌ منها فقط، لأنه لسنوات عديدة دعم، في فناء تربية دجاج، السلّة التي تضع فيها الدجاجات بيضها، ومن هناك نُقل إلى متحف التيجان، في صفٍّ واحد مع عينات المجموعة الأخرى. لقد ضاع نسقٌ تتابعِ العهود؛ هناك اعتقادٌ واسع الانتشار بأن كلاريس الأولى ظهرت إلى حيّز الوجود، ولكن لا وجود لأدلّة تدعم هذا الاعتقاد. قد تكون تيجان الأعمدة موجودة في أفنية تربية الدجاج قبل أن تكون في المعابد، جرارُ حفظ رماد الموتى الرخامية قد تكون زُرعت بالرّيحان قبل أن تُملأ بعظام الموتى. ليس معروفاً على وجه اليقين إلّا هذا: أن عدداً معيّناً من الأشياء يتغيّر ضمن مكانٍ معيّن، أحياناً تغمره كمّية من أشياء جديدة، أحياناً يبلى ولا يتمّ استبدال شيء به؛ القاعدة هي خلط الأشياء في كلّ وقت، ثم محاولة تجميعها. ربما لم تكن كلاريس دائماً سوى خليطٍ مشوّشٍ من حِلىً رخيصة مشظّاة، غير متجانسة، عتيقة الطراز.

——————

—————————-

الجزء الثاني عشر

——————-

مدن غير مرئية

يزدحم المكان بصيّادي الطّرائد (12)

مدن وموتى (3)

لا توجد مدينة تميل إلى التمتّع بالحياة والهرب من الهمّ أكثر من يوسابيا. ولجعْل القفزة من الحياة إلى الموت أقلّ فظاظةً، أنشأ السكّان نسخة تُماثل مدينتهم تحت الأرض. كلّ الجثث، وقد جُفّفتْ بحيث يبقى الهيكل العظمي مغلّفاً بجلدٍ أصفر، تُحمل إلى الأسفل هناك لتواصل أنشطتها السابقة. ومن بين هذه الأنشطة، تحتلّ لحظاتها الخالية من الهمّ المقام الأول: تُجلَس غالبية الجثث حول موائد عامرة، أو توضَع في مواقف راقصة، أو يجعلونها في موقف مَن يعزف على أبواق صغيرة. إلّا أن كل أعمال يوسابيا الحيّة التجارية وحِرَفها تجري تحت الأرض أيضاً، أو على الأقلّ تلك الأعمال التي يؤدّيها الأحياء عن قناعة أكثر ممّا يؤدّونها عن إثارة: ساعاتيٌّ يضع أذنه الجِّلدية، وسط كلّ ساعات حانوته المتوقّفة، على ساعة جدّ خرساء؛ حلّاقٌ يصوبن بفرشاة جافّة عظْمَ وجنتَيْ ممثّل يتدرّب على دوره دارساً النصّ بمحجرين خاويين؛ فتاة بجمجمة ضاحكة تحلب جثّة عِجلة.

بالطبع، الكثير من الأحياء يريد مصيراً بعد الموت مختلفاً عن نصيبه في الحياة: لهذا تزدحم المقبرة الكبيرة بصيّادي طرائد كبرى، بمغنّيات أوبرا ذوات أصوات معتدلة الارتفاع، بصرّافين، بعازفين على الكمان، بدوقات، بمحظيّات بلاط، بجنرالات؛ كثرة كاثرة لم يسبق أن احتوتها مدينة الأحياء أبداً.

مهمّةُ مرافقة الموتى إلى الأسفل وتنظيمهم في الأماكن المرغوبة، مهمّةٌ موكلةٌ إلى جمعية دينية لإخوةٍ من لابسي القلانس. ليس لأحد آخر من سبيل إلى يوسابيا الموتى، وكلّ ما يُعرف عنها عُرف عن طريقهم.

يقولون إن الجمعية الدينية نفسها قائمة بين الموتى وإنها لا تُخفق أبداً في مدّ يد العون؛ الإخوة ذوو القلانس سيقومون بعد الممات بالعمل نفسه في يوسابيا الأخرى؛ وتمضي إشاعة إلى القول إن بعضهم ميت سلفاً ولكنّه يواصل الصعود والهبوط. ومهما يكن الأمر، نُفوذ هذه الجمعية الدينية في يوسابيا الأحياءِ واسعٌ جداً.

يقولون إنهم في كلّ وقتٍ يهبطون فيه يجدون شيئاً ما تغيّر في يوسابيا السّفلى؛ الموتى يُحدثون ابتكارات في مدينتهم، ليست كثيرة العدد، إلّا أنها ولا ريب ثمرةُ التأمّل الرصين وليست نزوات عابرة. يقولون إنه سنةً بعد سنة، تصبح يوسابيا الموتى غير قابلة للتعرّف عليها. والأحياء، ليَبقوا على صِلةٍ بهم، يريدون أيضاً القيام بكلّ شيء يخبرهم به الإخوة ذوو القلانس عن أشياء الموتى الجديدة. وهكذا تولّعت يوسابيا الأحياء بنسْخِ نُسختها التحت أرضيّة.

يقولون إن هذا لم يبدأ بالحدوث في الآن والتوّ: لقد كان الموتى عمليّاً هم مَن بَنوا يوسابيا العُليا على غرار صورة مدينتهم. ويقولون إنه في المدينتين التوأم لم تعد توجد أيّة طريقة لمعرفة مَن هو ميت ومَن هو حيّ.

■ ■ ■

المدن والسماء (2)

متوارَثٌ في بيرشيبا هذا الإيمان: أن هناك بيرشيبا أخرى موجودة، معلّقة في السماوات، حيث تقف متوازنةً أسمى فضائل وعواطف المدينة، وأنه إذا اتخذتْ بيرشيبا الأرضية الأُخرى السماوية نموذجاً لها، فستصبح المدينتان مدينة واحدة.

الصورة التي تنقلها التقاليد الموروثة هي صورة مدينة من الذهب الخالص، ذات بوّابات ماسية وأقفال فضّية، مدينة ـ جوهرة، كلّها مطعّمة ومرصّعة، كأقصى ما يمكن أن تنتجه دراسة مجدّة حين تطبّق على مواد ذات قيمة عُليا. إخلاصاً لهذا الإيمان، يبجّل سكّان بيرشيبا كلّ شيء يوحي لهم بالمدينة السماوية: إنهم يراكمون المعادن النبيلة والأحجار الكريمة، يتخلّون عن كلّ الانغماسات سريعة الزوال، يُنشئون أشكالاً من الهدوء المتوالف.

هؤلاء السكّان يؤمنون أيضاً أنه توجد بيرشيبا أخرى تحت الأرض، الوعاء لكلّ شيء حقير وغير ذي قيمة يحدث لهم، وهمّهم الدائم هو محو كلّ رابطة أو شبَه مع التوأم السفلية من بيرشيبا المرئية. في مكان السقوف يتخيّلون أن المدينة التحتية قلبت صناديق القمامة، بما فيها من قشور أجبان، ورقٍ دهنيّ، سفط أسماك، ومياه غسيل صحون، وسباغيتي غير مأكولة، وضمادات قديمة تتساقط منها. أو حتى إن مادتها الأساسية سوداء قابلة للطَرق وثخينة، مثل القار الذي ينصبّ من المجاري ممدّداً مسلك الأمعاء البشرية، من ثقب أسود إلى ثقب أسود، إلى أن يطرطش فوق أدنى طبقة أرضية، ومن الفقاعات المتراخية المطوّقة تحت، ترتفع مدينة غائطية، طبقة فوق طبقة، بأبراج متلويّة.

في معتقدات بيرشيبا هنالك عنصر من الحقيقة وواحد خطأ. صحيحٌ أن المدينة يرافقها إسقاطان لذاتها، أحدهما سماوي والآخر جهنّمي؛ ولكنّ المواطنين مخطئون بشأن اتّساقهما. فالجحيم الذي يفقس في تراب بيرشيبا التحتيّ الأعمق، هو مدينة صمّمها أكثر المعماريين استبداداً، بُنيت من أثمن المواد في السوق، بتوظيف كلّ أداة وآلية ونظام تُروس، مزيّنة بشرابات وحوافّ وأهداب متدلّية من جميع الأنابيب والرافعات.

بيرشيبا، وهي تركّز على تكديس قيراطات اكتمالها، تأخذ مأخذ الفضيلة ما هو الآن هوسٌ شرِسٌ لملء وعاء نسْغ ذاتها الفارغ؛ المدينة لا تعرف أن لحظات انغماسها السخيّ ليست سوى تلك اللحظات التي تصبح فيها منفصلةً عن ذاتها، حين تتحرّر، تتوسع.

ومع ذلك، هناك عند سمْت بيرشيبا يتوازن بفعل الجاذبية جسمٌ سماويّ يتوهج بكلّ ثروة المدينة، منطوياً على خزين أشياء منبوذة: كوكب يدور مرفرفاً مع قشور بطاطا، مظلّات مكسورة، جوارب عتيقة، أغلفة حلويات، مرصوفاً بتذاكر ترام، قلّامات أظافر، ثآليل مقشوطة، قشور بيض.

هذه هي المدينة السماوية، وفي سماواتها تمرّ طائرةً مذنّباتٌ طويلةُ الذُّيول، متحرّرة لتدور في فضاء الفعل الحرّ والسعيد الوحيد لمواطني بيرشيبا؛ مدينة لا تكون شرهة، وتحسب حساباً، وبخيلة، إلّا حين تتغوّط.

■ ■ ■

مدن مستمرّة (1)

تعيد مدينة ليونيا تجدّيد نفسها يومياً: يستيقظ الناس في كلّ صباح تحت أغطية نضِرة، يغتسلون بقطَع صابون نُزعت أغلفتها للتوّ، يرتدون ملابس مكتملة الجِدّة، يتناولون من أحدث الثلاجات طرازاً عُلَب طعام محفوظ ما تزال غير مفتوحة، يستمعون إلى موسيقى إعلانات آخر دقيقة من مذياع هو الأحدث تقانة.

على أرصفة المُشاة، تنتظر بقايا ليونيا الأمس ــ معبّأة في أكياس لدائنية نظيفة ــ شاحنة القمامة. ليس فقط أنابيب معجون أسنان معتصرة، مصابيحَ إنارة منفجرة، صحفاً يومية، صناديقَ، أغلفة، بل سخّانات أيضاً، دوائر معارف، آلات بيانو، أطقم مآدب خزفية صينية.

لا يمكنكَ قياس درجة غِنى ليونيا بكمّيات الأشياء التي تُصنع كل يوم، تُباع، تُشترى، بل بالأشياء التي تُرمى كلّ يوم لإفساح المجال للجديد. وهكذا تبدأ بالتساؤل عمّا إذا كان شغف ليونيا الحقيقي هو فعلاً، كما يقولون، التمتّع بالجديد وبأشياء مختلفة، وليس، بدلاً من ذلك، متعة تطهير نفسها من تلوّثها، إطراحه، نبذه. الواقع أن كنّاسي الشوارع مرحَّبٌ بهم مثل ما يُرَحَّب بملائكة، ويحيط بمهمّتهم في نقل بقايا وجود الأمس صمتٌ مهيب، مثل طقس يحثّ على تكريس الذات، ربما لا لشيء إلّا لأنّ الأشياء ما أن تُنبذ، لا يعود أحدٌ راغباً بالتفكير فيها أبعد من ذلك.

لا أحد يتساءل إلى أين يحملون حمولتهم من النفايات كلّ يوم. خارج المدينة، لا ريب؛ ولكنّ المدينة تتوسّع في كل سنة، وعلى كنّاسي الشوارع أن يتقهقروا أبعد فأبعد. يتزايد حجم الأشياء المتدفّقة، يتصاعد ارتفاع الأكداس، تُصبح متراصفةً طبقةً فوق طبقة، تمتدّ على محيط أوسع.

بالإضافة إلى هذا، كلّما تفوّقت موهبة ليونيا في صنع موادّ جديدة، كلّما تحسّنت نوعية القمامة، قاومت الزمن، العواملَ الجوّية، التخمُّر، الاحتراق. إنّ قلعةً من المخلّفات غير القابلة للخراب تحيط بليونيا وتُهيمن عليها من كلّ جوانبها مثل سلسلة جبلية.

هذه هي النتيجة: كلّما رمتْ ليونيا مزيداً من السِّلَع، كلّما راكمت مزيداً منها؛ قشور ماضيها تتلاحم متحوّلةً إلى درع لا يمكن إزالته. وفيما تتجدّد المدينة كلّ يوم، تحتفظ بذاتها كلّها في شكلها النهائي الوحيد: تتكدس نفايات الأمس فوق نفايات يوم ما قبل أمس ونفايات كلّ أيامها وسنواتها وعقودها.

قمامة ليونيا كان يمكن أن تغزو العالم شيئاً فشيئاً لو لم يكن كنّاسو شوارع المدن الأخرى، ما وراء القمّة الأخيرة لكومة قمامتها التي لا حدود لها، يضغطون، ويدفعون أيضاً جبالاً من النفايات أمامهم. ربّما العالم كلّه، ما وراء حدود ليونيا، تغطّيه فوهات حفر قمامة في حالة ثوران دائم تطوّق كلّ واحدة منها عاصمة. الحدود بين المدن المتعادية والمغترب بعضها عن بعض متاريسُ ملوّثة حيث يدعم حطام كلّ منها الآخر، يتراكَب معه، يمتزج به.

كلّما تعاظم ارتفاعها، كلّما تضخّم أكثرَ خطرُ انهيار أرضيّ: لو تدحرجت علبةُ قصديرية، إطار سيّارة قديم، قارورة خمر لم تتحلّل، نحو ليونيا، فهي كفيلة بأن تسحب معها كتلة ضخمة منهارة من فردات أحذية، تقاويم سنوات خلت، أزهاراً ذابلة، غامرةً المدينة بماضيها هي، ذاك الذي حاولت عبثاً نبذَه، ممتزجاً بماضي المدن المجاورة، النظيف أخيراً. سيسويّ طوفانٌ سلسلةَ الجبل القذرة، ماحياً كلّ أثر للعاصمة التي ترتدي دائماً ثياباً جديدة. الجميع في المدن المجاورة مستعدٌّ، منتظرٌ مع الجرّافات لتسوية التضاريس، للاندفاع في المنطقة الجديدة، للتوسّع، ودفْع كنّاسي الشوارع الجُدد إلى مدىً أبعد أيضاً.

—————————

الجزء الثالث عشر

——————-

مدن غير مرئية

طيور رخٍّ على رقعة شطرنج (13)

بولو: ربما لا تطلّ مصاطب هذه الحديقة إلّا على بحيرة عقلنا.

قبلاي: ومهما كان البُعد الذي قد تأخذنا إليه مشاريعنا المقلقة كمحاربين وتجّار، فكلانا يُخفي في دواخل نفسه هذا الظلّ الصامت، هذا الحديث ذا الفواصل، هذا المساء الذي هو دائماً المساء نفسه.

بولو: ما لم تكن الفرضيّة المعاكسة صحيحة: أنّ أولئك الذين يُجاهدون في معسكرات وموانئ غيرُ موجودين إلّا لأننا نحن الإثنين نفكّر بهم، هنا، محبوسين بين سياجات شجيرات الخيزران هذه، بلا حركة منذ أن بدأ الزمان.

قبلاي: ما لم يكن هناك وجودٌ للكدح، للصرخات، للآلام، للنتن؛ ولا وجود إلا لأجمةِ الأضاليا هذه.

بولو: ما لم يكن الحمّالون، قاطعو الحجارة، جامعو القمامة، الطهاة وهم ينظّفون حواصل الدجاج، الغسّالات المنحنيات على الصخور، الأمهات اللواتي يحرّكن الرز وهن يعتنين بأطفالهن، موجودين إلّا لأننا نفكر بهم.

قبلاي: إذا أردت الحقيقة، أنا لا أفكّر بهم أبداً.

بولو: إذاً لا وجود لهم.

قبلاي: هذا الحدس لا يبدو بالنسبة إليّ ملائماً لأغراضنا؛ من دونهم ما كان لنا أن نبقى هنا أبداً نتأرجح، متشرنقين في أرجوحتَيْ نومنا.

بولو: إذاً، يجب نبذُ الفرضيّة. وهكذا تصبح الفرضية الأخرى صحيحة: هم موجودون ونحن غير موجودين.

قبلاي: لقد برهنّا على أنّنا لو كنّا هنا، فلن يكون لنا وجود.

بولو: وها نحن هنا في الحقيقة.

■ ■ ■

تمتدّ من تحت قدمَيْ عرش الخان الأكبر أرضيّةٌ مرصوفة بقرميدٍ إيطاليّ مزجّج. على هذه الأرضية نثرَ المُخبر الصامت، ماركو بولو، عيّنات من سِلَع معيّنة عاد بها من رحلاته الى أقاصي الإمبراطورية: خوذة، صدفة بحرية، جوزة هند، مروحة يد. حاول السفير، بترتيب الأشياء وفق نظام معيّن على بلاطات القرميد السوداء والبيضاء، وتغيير أماكنها أحياناً بحركات محسوبة، أن يصوّر بصرياً لعينَيْ العاهل تقلّبات أسفاره، أوضاع الإمبراطورية، امتيازات المناصب الريفية النائية.

كان قبلاي لاعب شطرنج حادّ الذكاء؛ فلاحظ، وهو يتابع حركات ماركو، أنّ قطعاً معيّنة تُلمّح ضمنياً إلى المناطق المجاورة لقطع أخرى أو تستبعدها، وأنه كان يتمّ تغيير أماكنها على امتداد خطوط معينة. فكان يستطيع، متجاهلاً تنوّع أشكال الأشياء، فَهْم نظام ترتيب إحداها بالعلاقة مع نُظُم ترتيب الأخريات على أرضية القرميد المزجّج. فكّر: “لو أن كل مدينة تشبه لعبة من ألعاب الشطرنج، سأتملّك إمبراطوريتي أخيراً في اليوم الذي أتعلّم فيه قواعد اللعب، حتى لو لم أنجح أبداً في معرفة كل ما تحتويه من مدن”.

عملياً، كان من العبث بالنسبة إلى أحاديث ماركو أن توظَّف كلّ هذه الطُّرَف: إن رقعة شطرنج ستكون وافية بالغرض بقِطَعها المحدّدة النوعية. كلّ قطعة من جانبها يمكنها إعطاء معنىً مخصوصٍ: قطعة فارس يمكن أن تقابل خيّالاً حقيقياً أو موكبَ مركبات، جيشاً في مسيره، أو نصْباً تذكارياً لمأثرة فُروسية؛ قطعة ملِكة يمكن أن تكون سيّدة تنظر من شرفتها إلى الأسفل، نافورة، كنيسة بقُبّةٍ مدببة، شجرة سفرجل.

لدى عودته من مهمّته الأخيرة، وجد ماركو بولو الخانَ في انتظاره، جالساً وأمامه رقعة شطرنج. وبإيماءة دعا الفينيسيَّ إلى الجلوس قبالته ووصف المدن التي زارها، غير مستعين إلّا ببيادق الشطرنج. لم يفقد ماركو شجاعته. كانت بيادق الخان الأكبر، قِطَعاً ضخمةً من عاج مصقول: بتنظيمه على الرقعة طيور الرخّ المحلّقة والفرسان المتجهّمين، بتجميعه أسراباً من البيادق الثانوية، برسْمه جادّاتٍ مستقيمة أو منحرفة مثل حركة ملكة تتقدّم، أعاد ماركو خلْق منظورات وفضاءات المدن السوداء والبيضاء في الليالي المقمِرة.

متأمّلاً هذه المشاهد الرئيسة، فكّر قبلاي مليّاً بالنظام اللامرئي الذي يعزّز بقاء المدن، بالقواعد التي تقضي كيف تقوم، تتّخذ شكلاً وتزدهر، مكيّفةً نفسها مع الفصول، ومن ثم كيف تُصبح مُحزنةً وتهوي متحوّلةً إلى خرائب. اعتقدَ أحياناً أنه أوشك على اكتشاف نظام متناغم، متماسك يباطن التشويهات والتعارضات اللامتناهية. إلّا أن أي نموذج لا يستطيع صموداً، في المقارنة  بلعبة شطرنج. ربما، بدل أن يُجهد المرء دماغه في استلهام رؤىً مساعدة هزيلة من قطع شطرنج مآلُها النسيان على أية حال، سيكون كافياً أن يلعب لعبةً وفق القواعد، وأن يعتبر كلّ حالة من حالات الرقعة المتعاقبة شكلاً من الأشكال التي لا تُحصى، والتي يجمعها نظام الأشكال ويدمّرها.

الآن لم يعد على قبلاي خان إرسال ماركو بولو في حملات بعيدة؛ أبقاه عنده لاعباً ألعاب شطرنج لا نهاية لها. معرفة الإمبراطورية كانت مخفية في النمط الذي ترسمه انتقالات الفارس ذات الزوايا، والمسارات المائلة التي تفتحها غارات بيادق الشطرنج، وخطوة الملك المتثاقلة الحذرة والبيدق المتواضع، وحركات الصّعود والهبوط العنيدة لكلّ لعبة.

حاول الخان الأكبر التركيز على اللعبة، ولكنْ كان غرض اللعبة هو ما أفلت منه الآن. كلّ لعبة إمّا أن تنتهي بربح أو خسارة، ولكنْ ربْحُ ماذا؟ وخسارةُ ماذا؟ أين كانت الرهانات الحقيقية؟ حين يُهزم الشاه، وبعد أن تزيحه جانباً يد الفائز، يظلّ تحت قدم الملك مربّعٌ أسود أو أبيض.

هنا وصل قبلاي ــ بفصله لفتوحاته عن مجسّداتها من أجل اختزالها إلى الجوهريّ ــ إلى العملية المتطرّفة: إلى الفتح النهائي، ذلك الذي لم تكن كنوز الإمبراطورية المتعدّدةِ الأشكالِ بالنسبة إليه إلّا أغلفة خادعة. لقد اختُزل إلى مربّعٍ من خشب منبسط: إلى عدم…

■ ■ ■

مدن وأسماء (5)

إيرين هي المدينة المرئية حين تميل على حافّة الهضبة في الساعة التي تظهر فيها الأضواء، ويمكن عندها، في الهواء الشفّاف، تمييز لون المدينة القرنفليّ منتشراً على مبعدة في الأسفل: حيث النوافذ أكثر احتشاداً، حيث يخفّ اللونُ في أزقّة مضاءة إضاءةً باهتة، حيث يلتقط ظلال الحدائق، حيث يقيم أبراجاً تعلوها إشارات نيران؛ وإذا كان المساء ضبابياً، ينتفخ وهجٌ غائمٌ مثل إسفنجة لبنية أسفل الأخاديد.

على الهضبة رحّالة، رُعاة يدفعون قطعانهم، صيّادو طيور يراقبون شباكهم، نسّاكٌ يجمعون أوراق نباتات: كلهم ينظرون إلى الأسفل ويتحدّثون عن إيرين.

بين وقت وآخر تجلب الريحُ موسيقى طبول رنّانة وأبواق، ضجيجَ مفرقعات نارية في أضواء مهرجان ملوّنة؛ بين وقت وآخر تجلب قعقعةَ بنادق وانفجارَ مخزن بارود في سماء تُحيلها نيرانُ حرب أهلية الى سماء صفراء. اولئك الذين يطلّون من المرتفعات يخمّنون ما يحدث في المدينة، ويتساءلون عمّا اذا كان أمراً سارّاً أو غير سارٍّ أن يكون المرء في إيرين ذلكَ المساء. ليس لأن لديهم أيّة نيّة في الذهاب الى هناك (الطرقات المتعرّجة نزولاً الى الوادي سيّئةٌ على أية حال) ولكنْ لأنّ ايرين مغناطيسٌ بالنسبة إلى عيون وأفكار أولئك الذين يمكثون في الأعالي.

عند هذه النقطة يتوقّع قبلاي خان من ماركو أن يتحدّث عن إيرين كما تُشاهَد من داخلها. ولكنّ ماركو لا يستطيع فعل هذا: هو لم ينجح في اكتشافِ أيِّها المدينة التي يدعوها سكّان الهضبة باسم إيرين. بالنسبة إلى هذه المسألة، الأمر ضئيل الأهمّية: إذا شاهدتها، واقفاً في وسطها، فستكون مدينة مختلفة؛ “إيرين” هو اسمٌ لمدينة تقع على مبعدة، وتتغيّر إذا اقتربتَ منها.

بالنسبة إلى أولئك الذين يمرّون بها من دون أن يدخلوا، المدينة شيءٌ واحد؛ هي شيء آخر بالنسبة إلى الذين تُوقعهم في شراكها ولا يغادرون أبداً. هنالك المدينة حيث تصل لأوّل مرة؛ وهنالك مدينة أخرى تغادرها بلا عودة أبداً. كلتاهما تستحقّ اسماً مختلفاً؛ ربما، ما تحدّثتُ عنها حتى الآن هي إيرين تحت أسماء أخرى؛ ربما لم أتحدّث إلّا عن ايرين.  

■ ■ ■

المدن والموتى (4)

ما يجعل آرجيا مختلفةً عن مدن أخرى هو أنّ لديها تراباً بدل الهواء. الشوارع ممتلئة بالتراب امتلاءً تامّاً، والغُرف تكتظّ بالطين حتّى السقوف. على كلّ درج وضُع درجٌ نقيض له، وفوق سطوح البيوت طبقاتٌ معلّقة من تضاريس صخرية تُشبه سماوات غائمة. لا نعلم إن كان السكّان يستطيعون التنقّل في أرجاء المدينة، موسّعين أنفاق الديدان والصدوع حيث تتلوّى الجذور: الرطوبة تُتْلف أجساد الناس، وقُواهم هزيلة؛ من الأفضل لكلّ منهم ألّا يظلّ ساكناً، منبطحاً؛ المدينة مظلمة على أية حال.

هنا، من الأعالي، لا يمكن مشاهدة شيء من آرجيا؛ بعضهم يقول، “إنها هناك في الأسفل”، ولا نستطيع إلّا تصديقهم. المكان مهجور. في الليل يمكنكَ، ملصقاً أذنك بالتراب، سماع صوت اصطفاق بابٍ أحياناً.

————————–

————————-

الجزء الرابع عشر

———————-

مدن غير مرئية..

بيوتٌ صغيرة تخضَرُّ في الضواحي (14)

المدن والسماء (3)

أولئك الذين يصلون إلى ثكلا يمكنهم رؤية جزء ضئيل من المدينة، أبعد من أسيجة الألواح الخشبية، ستائر الخيش، السّقالات، الدعامات المعدنية، المجازات الخشبية الضيّقة المدلّاة من حبال أو المسنودة بأحصنة نشر الأخشاب، السلالم، الحوامل. إذا سألتَ: “لماذا يستغرق إنشاء ثكلا وقتاً طويلاً مثل هذا؟”، يواصل السكّان رفع أكياس، إنزال خيوط تحمل قطعاً من الرصاص، تحريك فراشٍ طويلة صعوداً وهبوطاً، وهم يجيبون: “حتّى لا يستطيع خرابُها أن يبدأ”. وإذا سُئلوا إن كانوا يخافون أن تبدأ المدينة ربما بالانهيار والتناثر قِطعاً ما إن تُزاح السقالات، يُضيفون بهمسة عجولة: “ليس المدينة وحدها”.

إذا وضع أحدهم، غير مقتنع بالأجوبة، عينَه على شقّ في سياج، يُشاهد رافعات تسحب عالياً رافعاتٍ أخرى، سقالات من التي تحتضن سقالات أخرى، عوارض تدعّم عوارض أخرى. يسأل: “أيّ معنى يمتلكه بِناؤكم؟ ما هو هدف مدينة تحت الإنشاء إن لم يكن مدينةً؟ أين الخطّة التي تعملون بمقتضاها، أين المخطّط؟”.

يجيبون: “سنريك إياه حالما تنتهي أشغال اليوم، لا نستطيع الآن قطْع عملنا”.

عند الغروب يتوقّف العمل. يُخيم الظلام على موقع البناء. السماء ممتلئة بالنجوم. يقولون: “ذلك هو المخطّط”.     

■ ■ ■

مدن مستمرّة (2)

لو أنّني لم أقرأ حين الوصول إلى ترود، اسمَ المدينة مكتوباً بحروف كبيرة، لفكّرتُ أنني كنت أهبط في المطار نفسه الذي أقلعتُ منه. لم تكن الضواحي، التي عبروا بي خلالها، مختلفةً عن الأخريات، ذات البيوت الصغيرة المُخْضَرّة والمُصْفَرّة نفسها. باتّباع العلامات نفسها درْنا حول أحواض الأزهار نفسها في الساحات نفسها. شوارع قلب المدينة التجاري عرضت بضائع، رُزماً، إشاراتٍ لم تتغيّر على الإطلاق. كانت هذه هي المرة الأولى التي أجيء فيها إلى ترود، ولكنّني عرفتُ مسبقاً الفندق الذي حدث وأن حَلَلْتُ فيه؛ سمعتُ ونطقتُ مسبقاً محاوراتي مع باعة ومُشتري المعدّات، وأنهيت أيّاماً أخرى مماثلة، ناظراً خلال الكؤوس نفسها إلى ذات النقط المتمايلة في وسطها.

سألتُ نفسي: “لماذا المجيء إلى ترود؟”، وأردتُ المغادرة سلفاً. قالوا لي: “يمكنك استئناف طيرانِكَ متى أحببت، ولكنك ستصل إلى ترود أخرى، هي نفسها تماماً، تفصيلاً بتفصيل. العالم تغطّيه ترود فريدة لا تبدأ ولا تنتهي. لا يتغيّر سوى اسم المطار”.

■ ■ ■

مدن مخفيّة (1)

في أوليندا، إذا خرجتَ ومعك عدسة مكبّرة، وتصيّدتَ بعناية، قد تجد في مكان ما نقطة ليست أكبر من رأس دبّوس، نقطة تكشف في داخلها، إذا نظرت إليها مكبَّرةً تكبيراً طفيفاً، عن السقوف، الهوائيات، مناور المباني، الحدائق، البرَك، الأعلام الخفّاقة على جوانب الشوارع، الجواسق في الساحات، حلبة سباق الخيل. تلك النقطة لا تبقى هناك: بعد سنة ستجدها بحجم نصف ليمونة، ثم واسعة باتّساع نبات فطر، ثم طبق حساء. وبعدها تُصبح مِن ثمّ مدينةً بحجم كامل، حبيسةً داخل المدينة الأقدم: مدينة جديدة تشقّ طريقها قُدُماً في المدينة القديمة وتدفعها نحو الخارج.

من المؤكَّد أن أوليندا ليست هي المدينة الوحيدة التي تنمو على شكل دوائر متّحدة المركز، مثل جذوع أشجار من تلك التي تضيف في كل عام حلقة إضافية. ولكنْ في مدن أُخرى يظلّ هناك، في المركز، الطوقُ الضيّق القديم من الجدران الذي تَبرز منه القِمَم الذابلة، الأبراج، السطوح القرميدية، القِباب، بينما تتمدّد الأحياء الجديدة حولها مثل حزام مفكوك. أوليندا ليست كذلك: الجدران القديمة فيها تتوسّع حاملةً معها الأحياء القديمة، مكبّرةً، ولكنها محافظة على تناسبها في أفقٍ أوسع عند حوافّ المدينة؛ إنها تطوّق الأحياءَ الأحدث على نحو طفيف، تلك التي تنمو أيضاً على الهوامش وتصبح أخفّ كي تُفسح مجالاً لِمَا لا يزال أقرب عهداً وهو يضغط من الداخل. وهكذا، باستمرار، وصولاً إلى قلب المدينة، تحتفظ أوليندا جديدةٌ تماماً ــ في أبعادها المختزلة ــ بسِماتِ ودفْق سائل أوليندا الأولى اللمفاوي وكلّ الأوليندات التي برعمت إحداها من الأخرى؛ وفي داخل هذه الدائرة الأعمق تُبرعم هناك الآن ــ رغم أن من الصعب تبينها ــ أوليندا التاليةُ، واللواتي سينشأن بعدها.

■ ■ ■

… حاول الخان الأكبر التركيز على اللعبة: ولكنّ سبب اللعبة هو ما أفلتَ منه الآن. غايةُ كلّ لعبةٍ إمّا ربحٌ أو خسارة؛ ولكنْ ربْحُ ماذا؟ وخسارةُ ماذا؟ ماذا كانت الرهانات الحقيقية؟ حين يُهزم الشاه، وتُزيحه يدُ الفائز جانباً، يظلّ تحت قدم الملك عدمٌ: مربّعٌ أسود أو أبيض. لقد وصل قبلاي، بتجريدِه لفتوحاته من مجسّداتها من أجل اختزالها إلى الجوهري، إلى العملية المتطرّفة: الفتح النهائي، ذلك الذي لم تكن كنوز الإمبراطورية متعدّدة الأشكال بالنسبة إليه سوى أغلفة خادعة؛ لقد اختُزل إلى مربّع من خشب منبسط.

عندئذٍ تكلّم ماركو بولو: “إنّ رقعة شطرنجكَ يا سيّدي مطعّمة بنوعين من الخشب: الأبنوس والقيقب. المربّع الذي تحدّق فيه نظرتُك المستنيرة قُطِعَ من حلقةِ جذع نمَتْ في عامٍ جفاف: أنتَ تَرى كيف نُظمت أليافها؟ هنا عقدة تُلمح لمحاً بالكاد يمكن تمييزها؛ برعمٌ حاول أن يتفتّح في يوم ربيعي قبل أوانه، ولكنّ صقيع الليل أجبره على التوقّف”.

حتى هذه اللحظة، لم يكن الخان الأكبر قد أدرك أن الأجنبي عَرف كيف يعبّر عن نفسه بلغته بطلاقةٍ، ولكنّ هذه الطلاقة ليست  هي ما أذهله.

“هنا مسامةٌ أكبر سماكةً، ربّما كانت عُشَّ يرقة؛ ليس دودة خشب، لأنّ هذه تبدأ الحفر ما إن تُولد، ولكنّها يرقة فراشة، تلك التي مضغت أوراق الشجر، وكانت سبباً في كون الشجرة اختيرت لتقطع…

هذه الحافّة كشطَها نحّات الخشب بإزميله كي تلتصق بالمربّع المجاور، إنها أكثر بروزاً…”.

لقد أربكتْ قبلاي كمّية الأشياء التي يمكن قراءتها في قطعة صغيرة من خشب ناعمة وخالية؛ كان بولو قد بدأ يتكلّم سلفاً عن غابات أبنوس، عن أرماث محمّلة بجذوع تنحدر في الأنهار، عن أرصفة تحميل سفن، عن نساء عند النوافذ…

■ ■ ■

يمتلك الخان الأكبر أطلساً رُسمت فيه كلّ مدن الإمبراطورية والمناطق المجاورة لها، بنايةً بناية وشارعاً شارعاً، بأسوارها وأنهارها وجسورها وموانئها ومنحدراتها الصخرية. إنه يدرك أن من العَبَث توقُّعُ أن تأتيه أخبارٌ من حكايات ماركو بولو عن هذه الأماكن، تلك التي، في ما يتعلّق بهذا الأمر، يعرفها جيداً: كيف أنه توجد في كامبالو، عاصمة الصين، ثلاث مدن مربّعة تقوم إحداها في قلب الأخرى، لكلّ واحدة منها أربعة معابد وأربعة أبواب تُفتح حسب تعاقب الفصول؛ كيف أنه على جزيرة جاوة يثور وحيد القرن، مهاجماً، بقرنه القاتل؛ كيف تتجمّع اللآلئ في قاع المحيط على مبعدة من سواحل مالابار.

يسأل قبلاي ماركو: “حين تعود إلى الغرب، هل ستكرّر لشعبك الحكاياتِ نفسها التي حكيتَها لي؟”.

يقول ماركو: “أنا أحكي، وأحكي، ولكنّ السامع لا يحتفظ إلّا بالكلمات التي يتوقّعها. إن وصْف العالم الذي أعرتُه سمعكَ الكريم شيءٌ؛ والوصف الذي سيدور بين جماعات حمّالي السفن ونوتية الجندولات في الشارع خارج بيتي في يوم عودتي شيءٌ آخر. وعلاوة على هذا، سيكون هناك وصفٌ آخر، ذلك الذي قد أمليه في أواخر حياتي، إذا أخذني قراصنة جنوة سجيناً وقيّدوني في زنزانة واحدة مع كاتب قصص مغامرات. ليس الصوت هو ما يهيمن على القصة: إنها الأُذن.

“أشعر بين وقت وآخر أن صوتك يصلني من مكانٍ بعيد، بينما أنا سجينُ حاضرٍ مبهرجٍ غير قابل للعيش، حيث وصلتْ كلّ أشكال المجتمع الإنساني إلى نهاية قصوى من نهايات دورتها ولا مجال لتخيُّل أيّة اشكال جديدة قد تتّخذها. وها أنا أسمع، من  صوتك، الأسباب غير المرئية التي تجعل المدن تحيا، الأسباب التي ربما ستحيا بوساطتها، مرّةً أخرى، المدن التي ماتت ذات يوم”.

———————————-

——————

الجزء الخامس عشر

———————-

مدن غير مرئية..

يُنادى على سكّانها بالأسماء ذاتها (15)

يمتلك الخان الأكبر أطلساً تُصوّر رسومُه الكوكبَ الأرضيّ كلّه دفعةً واحدة وقارّةً بعد قارّة؛ الحدود بين أكثر العوالم نأياً، مسارات السفن، السواحل، خرائط العواصم الأكثر شهرة والموانئ الأكثر غنى. إنه يتصفّح الخرائط أمام عينَيْ ماركو بولو ليمتحن معرفته. يتعرّف الرحّالة على القسطنطينية في المدينة التي تُهيمن من ثلاثة شواطئ على مضيقٍ طويل، على خليج ضيّق، وبحر مغلق؛ إنه يتذكّر أن أورشليم قائمةٌ على تلَّيْن، متفاوتَي الارتفاع، يواجه أحدهما الآخر؛ لا يتردّد في الإشارة إلى سمرقند وحدائقها.

بالنسبة إلى المدن الأخرى، هو يرجع إلى أوصاف متناقلة شفاهاً، أو يخمّن معتمداً على دلائل ضئيلة: هكذا فإنّ غرناطة، لؤلؤة الخلفاء المقلّمة؛ لوبيك، الميناء الشمالي المنظم؛ تمبكتو، سوداء بالأبنوس بيضاء بالعاج؛ باريس، حيث يعود ملايين الرجال إلى بيوتهم يوميّاً وكلّ واحد منهم يقبض على عصا من الخبز. الأطلس يصوّر بمنمنمات ملوّنة أماكنَ مسكونة ذات أشكالٍ غير معتادة: واحة مختبئة في طيّة من طيّات الصحراء لا تبرز منها إلّا ذؤابات نخيل هي بالتأكيد نيفتا؛ قلعةٌ وسط رمال متحرّكة وأبقارٌ ترعى في مروج ملّحتها مياه المدّ لا يمكن إلّا أن تُشير إلى جبل سان ميشيل؛ وقصرٌ، بدل أن يرتفع من قلب أسوار مدينة، يحتوي داخل أسواره مدينة لا يمكن أن تكون إلّا أوربينو.

الأطلس يصوّر مدناً لا ماركو يعرف ولا الجغرافيون أنها موجودة أو أين هي، رغم أنها لا يمكن أن تُفتقد وسط أشكال المدن الممكنة: كوزكو، على مخطّطٍ شعاعي متعدّد الأجزاء يعكس نظام تجارتها المكتمل؛ مكسيكو خضراء على بحيرة يشرف عليها قصر مونتيزوما؛ نوفغورد ذات قباب بصلية الأشكال؛ لاسا التي ترتفع سقوفها البيضاء فوق سطح العالم الغائم. على هذه أيضاً يُطلق ماركو أسماء ــ لا يهمّ أيّ اسم ــ ويقترح مساراً للوصول إليها. من المعروف أن أسماء الأمكنة تتغيّر مرّاتٍ عديدةً بعدد ما هنالك من لغات أجنبية؛ وأن كلّ مكان يمكن الوصول إليه من أماكن أخرى، بوساطة أكثر الطرق والمسارات تنوّعاً، بوساطة أولئك الذي يركبون، أو يقودون، أو يجذّفون، أو يطيرون.

يقول الإمبراطور لماركو وهو يغلق المجلّد فجأةً: “أعتقد أنك تميّز مدناً على الأطلس أفضل ممّا تميّزها حين تزورها شخصياً”.

ويجيب بولو: “في الترحال تُدرِك أن الفروق تضيع؛ كلّ مدينة تأخذ بالتماثُل مع كلّ المدن، تتبادل الأمكنةُ أشكالَها، نُظمَها، مسافاتها، غيمةُ غبار لا شكل لها تغزو القارات. أطلسُك يصون الفروقات سليمةً؛ ذلك تصنيف لخصائص هي مثل الحروف في اسم”.

■ ■ ■

يمتلك الخان الأكبر أطلساً من النوع الذي جُمعت فيه خرائط كلّ المدن: تلك التي ترتكز جدرانها على أساسات صلبة، تلك التي تحوّلت إلى خرائب وابتلعتها الرمال، تلك التي ستظهر إلى حيز الوجود ذات يوم والتي ليس في مكانها الآن سوى فتحات جحور أرانب برية.

يتصفّح ماركو الصفحات، يميّز جيريكو، أور، قرطاج، يشير إلى الهبوط عند مصب السكامندر، حيث انتظرت سفن الآخيين طيلة عشر سنوات، لتُعيد المحاصرين على متنها، إلى أن سحبت الرافعاتُ الحصان، بعد أن جمع يوليسيس أجزاءَه ومَسْمَرَها، عبر بوّابات سكايين. ولكنْ والحديث عن طروادة، وجد نفسه يمنح المدينة شكل القسطنطينية، ويتنبّأ بالحصار الذي سيضربه عليها محمّد [الفاتح] طيلة شهور إلى أن جعل سُفُنَه تُسحب ليلاً ــ هو الماكر مثل يوليسيس ــ في الجداول من البوسفور إلى القرن الذهبي، متجنّباً بيرا وغالاطا. ومن مزيج هاتين المدينتين برزت ثالثة، تلك التي قد تُسمّى سان فرانسيسكو، والتي تجسر المسافة بين البوّابة الذهبية والخليج بجسور طويلة، خفيفة، وترسل عربات ترام مفتوحة تتسلّق شوارعها شديدة الانحدار، والتي قد تزدهر كعاصمة للمحيط الهادئ بعد ألف عام من الآن، بعد الحصار الطويل طيلة ثلاثمئة عام، ذاك الذي سيقود الأجناس الصفراء والسوداء والحمراء إلى الاندماج بالناجين المتحدّرين من البِيض، في إمبراطورية أكثر اتّساعاً من امبراطورية الخان الأكبر.

كلّ هذه الخصائص يمتلكها الأطلس: إنّه يكشف عن أشكال المدن التي لم تتّخذ شكلاً أو اسماً بعد. هنالك المدينة التي لها هيئة أمستردام، نصف دائرة تواجه الشمال، بقنواتٍ ذات مركز واحد ــ قناة الأمير، قناة الإمبراطور، قناة النبلاء؛ هناك المدينة التي لها هيئة يورك، تقوم وسط مدن خيالية في العالم المفقود، مسوّرة، تعجّ بالأبراج؛ هناك المدينة التي لها هيئة نيوأمستردام المعروفة أيضاً باسم نيويورك، متخمة بأبراج زجاجية وفولاذية على جزيرة مستطيلة بين نهرين، بشوارع تشبه قنوات عميقة، كلّها مستقيمة، ما عدا شارع برودواي.

بيان الأشكال المصوّرة بلا نهاية: وإلى أن يجد كلّ شكلٍ مدينتَه، سيستمرّ ميلادُ مدن جديدة. وحين تَستنفد الأشكالُ تنوّعها وتُصبح متباعدة تبدأ نهاياتُ المدن. في صفحات الأطلس الأخيرة دفقٌ من شبكات بلا بداية أو نهاية، مدنٌ على شكل لوس أنجلوس، مدن على شكل كيوتو – أوساكا، مدن بلا شكل.

■ ■ ■

المدن والموتى (5)

مثل لودوميا، لكلّ مدينةٍ مدينةٌ أخرى إلى جانبها يُنادى على سكّانها بالأسماء ذاتها؛ إنها لودوميا الموتى، المقبرة. إلّا أن قدرة لودوميا الخاصّة ليست في كونها مزدوجةً فقط، بل مضاعفة ثلاث مرّات. إنها، بكلمة مختصرة، تشتمل على لودوميا ثالثةٍ، مدينة للّذين لم يولدوا بعد.

سمات المدينة المزدوجة معروفة على نطاق واسع. كلّما أصبحت لودوميا الأحياءِ أكثرَ ازدحاماً واتّساعاً، كلّما تزايد امتداد المدافن إلى ما بعد الأسوار. شوارع لودوميا الموتى واسعة فقط بما يكفي للسّماح بمرور عربة حفّار القبور، وتطلّ عليها العديد من المباني التي لا نوافذ لها؛ أمّا مخطَّط الشوارع وترتيب المساكن فيكرّر تلك التي لـ لودوميا الأحياءِ، وفي كليهما، تتراصّ العائلات سويّةً أكثر فأكثر في شققٍ محشورة واحدة فوق الأخرى. في الظهيرات الصافية يقوم السكّانُ الأحياء بزيارة الموتى ويفكّون رموز أسمائهم هم على شواهد قبورهم الحجرية: هذه المدينة الأخرى، شأنها شأن مدينة الأحياء، تشي بتاريخ من الكدح والغضب والأوهام والعواطف؛ هنا فقط يصبح كلّ هذا ضرورياً، مقطوعَ الصلة بالصدفة، مصنَّفاً، مندرجاً في نظام. ولكي تشعر بالثقة بنفسها، يكون على لودوميا الأحياء أن تلتمس في لودوميا الموتى تفسيراً لذاتها، حتى مع خطر العثور هناك، تقريباً، على تفاسير لأكثر من لودوميا واحدةٍ، أو لمدن مختلفة يمكن أن تكون ذات وجود أو لا وجود لها؛ أو أسباب غير كاملة، متناقضة، مخيّبة للآمال.

تخصّص لودوميا، بأمانة، مكانَ إقامةٍ واسعاً بالتساوي لأولئك الذين سيولدون. من الطبيعي ألّا يتناسب المكان مع عددهم، المفترض أنه لا نهائي، ولكنْ ما دامت المنطقة خالية، يحيط بها معمارٌ كلّه كُوى وفُسَحٌ بين أعمدة الأروقة وأخاديد، وما دام من الممكن تخيّل الذين لم يولدوا بعد بأي حجم، بحجم فئران أو دود قزّ أو نملٍ أو بيضِ نمل، فلا شيء يتعارض مع تخيّلهم منتصبين أو جاثمين على كلّ شيء أو رفّ ينتأ من الجدران، على كلّ تاج عمود أو قاعدة تمثال، مصطفّين أو متفرّقين، منكبّين على شؤون حياتهم المقبلة. وهكذا يمكنكَ منذ الآن أن تتأمّل في عِرق رخام كلّ لودوميا المئة عام أو الألف عام، مزدحمةً بحشودٍ بملابسَ لم تُشاهد من قبل أبداً، كلّها بعباءات صوفية بلون الباذنجان، مثلاً، أو بريشِ ديكةٍ رومية على عمائمها، ويمكنك أن تتعرّف على المتحدّرين من صلبك والمتحدّرين من صلب عائلات أخرى، ودودةٍ أو عدائية، ومن مَدينين ودائنين يمضون في شؤونهم، ثاراتهم، يتزوّجون من أجل الحبّ أو المال.

أحياءُ لودوميا يتردّدون على بيوت الذين لم يولدوا بعد لاستجوابهم: صدى خطوات تحت القباب الخاوية؛ تُلقى الأسئلة بصمت؛ وأسئلة الأحياء دائماً عن أنفسهم هم، ليس عن أولئك الذين سيأتون. رجلٌ معنيٌّ بترك شهرة لامعة وراءه، آخرُ يريد لعاره أن يُنسى؛ كلّهم يودّون متابعة خيطِ تبِعاتِ أفعالهم؛ ولكنْ كلّما زادوا من حدّة أبصارهم، تضاءلت قدرتهم على تبيّن خطٍّ مستمرّ؛ يبدو أن سكّان لودوميا المستقبليّين يشبهون نقطاً، حبّات تراب، منفصلين عن أي شيء يمتّ بصِلةٍ إلى الماقبل أو المابعد. لودوميا الذين لم يولدوا بعد لا تُرسل، مثلما تفعل مدينة الموتى، أيَّ إحساس بالأمان إلى سكان لودوميا الأحياء: إنذارٌ فقط. في النهاية تجد أفكارُ الزائرين طريقَيْن في الحياة مفتوحين أمامها، ولا يوجد ما يدلّ على أيّ المرافئ أكثر كرْباً: في كلا الأمرين يجب أن تفكّر بأن عدد الذين لم يولدوا بعد أعظم بما لا يقاس من مجموع كلّ الأحياء وكلّ الموتى، وعندئذ تكون هناك في كلّ مسامة من مسامات الحجر قطعان غير مرئية، متراصّة على جوانب التجويف الشبيه بالقُمع كما في مدرّجات ملعبٍ إغريقي. وبما أن المتحدّرين من لودوميا يتضاعفون في كلّ جيل، فإن كلّ مسامة قمعية تحتوي على مئات الأقماع الأخرى، في كلّ واحدٍ ملايين الأشخاص الذين سيولدون، مشرئبّين بأعناقهم وفاتحين أفواههم للنّجاة من الاختناق. أو تفكّر، خلاف ذلك، أن لودوميا ستختفي أيضاً، من دون معرفة متى، ومعها كلّ سكانها؛ أو بعبارة أخرى، ستتبع الأجيال بعضها بعضاً إلى أن تصل إلى عددٍ معين ومن ثم لن تمضي إلى مسافة أبعد. عندئذ ستكون لودوميا الموتى وتلك التي لمَن لم يولدوا بعد مثل وعائي ساعةٍ رملية لا تنقلب رأساً على عقب؛ كلّ مجاز بين الولادة والموت هو حبّة رملٍ تمر من العنق، وسيكون هناك آخرُ ساكن من سكّان لودوميا يولَد، آخر حبّة تسقط، تلك التي هي الآن على قمّة الكومة، تنتظر

—————————–

الجزء السادس عشر

—————————–

مدن غير مرئية..

بيوتٌ تُبنى على حِسابات الفلكيّين (16)

■ ■ ■

المدن والسماء (4)

أنشأ الفلكيون، وقد تمّت دعوتهم إلى اجتماع لوضع قواعد أساسات بيرنثيا، المكان والوقت بناءً على مواقع النجوم؛ رسموا الخطّين المتقاطعين للطريق العسكري الروماني والطريق الرئيس، الأوّل باتّجاه مسار الشمس، والآخر مثل المحور الذي تدور حوله السموات. قسّموا الخريطة وفق منازل دائرة البروج الاثني عشر بحيث يتلقّى كلّ معبد وكلّ حيّ التأثير المناسب للكوكبات النجمية المفضّلة؛ ثبّتوا النقط على الجدران حيث يجب أن تُشقّ البوّابات، متوقّعين كيف ستؤطّر كلّ بوابة كسوف القمر في الألف عام القادمة. بهذا ضمنوا أن بيرنثيا ستعكس تناغم القبّة الزرقاء؛ أن عقل الطبيعة ونزعة الآلهة الخيّرة سيشكّلان أقدار السكان.

وباتّباع حسابات الفلكيين بدقّة، تم إنشاء بيرنثيا؛ جاء أناسٌ متنوّعون ليقطنوا فيها؛ أوّل جيل وُلد في بيرنثيا بدأ يترعرع داخل جدرانها؛ ووصل هؤلاء المواطنون إلى سنٍّ تؤهّلهم للزواج ويكون لديهم أطفال.

وتصادف اليوم في شوارع وساحات بيرنثيا مشلولين، أقزاماً، حدباً، رجالاً سماناً، نساءً ملتحيات. ولكنّ الأسوأ لا يمكن رؤيته؛ من الأقبية والعلّيّات حيث تخبّئ العائلات أطفالاً بثلاثة رؤوس أو ستّة أرجل يُسمع نباحٌ حنجريّ خشِن.

والآن يواجه فلكيّو بيرنثيا خياراً صعباً: إمّا أنه يجب عليهم الاعتراف بأن كلّ حساباتهم كانت خاطئة وأن أشكالهم غير قادرة على وصف السموات، أو خلاف ذلك، يجب أن يُظهروا أن نظام الآلهة منعكسٌ انعكاساً تامّاً في مدينة المسوخ.

■ ■ ■

مدن مستمرّة (3)

كلّ سنة في طريق رحلاتي أتوقّف في بروكوبيا وأقيم في الغرفة نفسها وفي الخان نفسه. دائماً، ومنذ المرّة الأولى، كنت أتريّث لأتأمّل المشهد المرئيّ برفع ستارة النافذة: خندقاً، جسراً، جداراً صغيراً، شُجيرة مَشْمَلة، حقل ذرة، رقعة عليق مثمرة، فناءً لتربية الدجاج، الأكمة الصفراء لتلّ، سحابة بيضاء، امتدادَ سماء زرقاء على شاكلة أرجوحة بهلوان.

في المرّة الأولى، أنا على يقين من أنه لم يكن يُشاهَد أحدٌ هناك؛ فقط في السنة التالية، إثر حركة بين أوراق الشجر، استطعت تمييزَ وجهٍ مستديرٍ مسطّح، يقضم عرنوس ذرة. بعد سنة كان ثلاثةٌ من أصحاب هذه الوجوه على الجدار، ولدى عودتي شاهدتُ ستّةً، جالسين في صفٍّ واحد، أيديهم على رُكَبهم، وبعضاً من ثمار المشملة في طبق. صرتُ في كلّ سنة، ما إن أدخل الغرفة، أرفع الستارة وأعدّ مزيداً من الوجوه: ستّة عشر، بمن فيهم أولئك الذين هُم تحت في الخندق؛ تسعة وعشرين، ثمانية منهم يجثمون في شُجيرة المشملة؛ سبعة وأربعين عدا أولئك الذين في فناء الدجاج. إنهم متشابهون؛ إنهم يبدون مؤدبّين، على خدودهم نمَشٌ؛ إنهم يبتسمون، لبعضهم شفاهٌ لطّختها ثمار العلّيق. وما أسرع ما رأيتُ الجسرَ كلّه ممتلئاً بشخصيات مستديرة الوجوه، متجمهرة، لأنه لم يعد لديها مجالٌ إضافيّ تنتقل إليه؛ إنها تمضغ بذور الذرة ثم تقضم العرانيس.

وهكذا، مع توالي سنة بعد أخرى، رأيت الخندق يغيب، الشجرة، رقعة العلّيق، تخفيها سياجات من ابتسامات هادئة، بين خدود مستديرة، تتحرّك، ماضغةً أوراق الشجر. أنت لا تملك أدنى فكرة عن عدد الناس الذين يمكن أن يحتويهم حيّزٌ ضيّق مثل حقل الذرة الصغير ذاك، وبخاصّة وهم جالسون يحتضنون رُكَبهم بلا حراك. لا بدّ أنهم أكثر عدداً ممّا يبدون عليه: لقد شاهدت أكمة التلّ تصبح مغطّاة بزحام أشدّ وأشدّ؛ ولكنّ أولئك الذين على الجسر أصبحت لديهم الآن عادة الجلوس مباعدين بين أرجلهم على أكتاف بعضهم بعضاً، ولم تعد نظرتي تستطيع الوصول إلى ما هو أبعد.

أخيراً، في هذه السنة، وأنا أرفع الستارة، إطارات النافذة ليست سوى امتداد من وجوه: من زاوية إلى أخرى، على كلّ المستويات والمسافات، تُشاهد هذه الوجوه المستديرة، الساكنة، المسطّحة تماماً، مع طيف ابتسامة، وفي وسطها، أيدٍ عديدة تمسك بأكتاف أولئك الذين في المقدمة. حتى السماء اختفت. وقد يكون عليّ أنا مغادرة النافذة أيضاً.

هذا لا يعني أن الانتقال سهلٌ بالنسبة إليّ. هناك ستة وعشرون منهم يقيمون في غرفتي: لكي أحرّك قدمي يكون عليّ إزعاج أولئك الذين يجثمون على أرضية الغرفة، أن أشقّ طريقي وسْط ركب أولئك الجالسين على خزائن الملابس ومرافق أولئك الذين يتبادلون أدوارالاتّكاء على السرير؛ كلّهم مؤدبون جداً، لحسن الحظ.

■ ■ ■

مدن مخفية (2)

الحياة ليست سعيدة في رايسّا. الناس يعصرون أيديهم وهم يسيرون في الشوارع، ويلعنون الأطفال الباكين، ويتّكئون على الحواجز مطلّين على النهر، ويضغطون أصداغهم بقبضاتهم. في الصباح تستيقظ من حلم سيّئ ويبدأ آخر. عند طاولات الحرفيّين حيث تضرب إصبعكَ بمطرقة أو تنخسها بإبرة في كلّ لحظة، أو فوق جداول أرقام كلّها منحرفٌ في دفاتر حسابات التجّار والمصرفيّين، أو عند صفوف أكواب فارغة على مناضد الحانات الزنكية، الرؤوس المنحنية تخفي على الأقلّ النظرة المحدقة المتجهّمة العامة. في داخل البيوت، الأمر أسوأ، ولستَ بحاجة إلى الدخول لتعرف هذا؛ في الصيف تضجّ النوافذ بأصوات المشاجرات والأطباق المحطّمة.

ومع ذلك، هنالك في كلّ لحظة في رايسّا طفلٌ يضحك في نافذة وهو يشاهد كلباً يقفز على سقيفة ليعضّ قطعة من ثريد الذرة أسقطها بنّاءٌ يصيح من أعلى السقالة: “حبيبتي، دعيني أغرق فيه” على نادلة مطعم شابّة ترفع عالياً طبق حساء متبّلاً تحت التعريشة، سعيدةً بتقديمه إلى صانع المظلّات الذي يحتفل بصفقة ناجحة؛ مظلّة صغيرة بيضاء مخرّمة اشترتها لتعرضها في سباقات الخيل سيّدةٌ عظيمة تحبّ ضابطاً يبتسم لها وهو يقوم بقفزته الأخيرة؛ رجل سعيدٌ، والأكثر سعادةً منه حصانه وهو يطير فوق الحواجز ناظراً إلى درّاج يطير في السماء؛ طائرٌ سعيد حرّره من قفصه رسّامٌ سعيد بكونه رسمَهُ ريشةً ريشة، منقّطاً باللون الأحمر والأصفر ضمن زخرفة تلك الصفحة في المجلّد حيث يقول فيلسوف: “أيضاً في رايسّا، مدينة الكآبة، يجري خيطٌ غير مرئيّ، ذلك الذي يربط للحظةٍ كائناً حيّاً بآخر، ثم ينحلّ، ثم يتمدّد مرّة أخرى بين نقط متحرّكة وهو يرسم مخطّطاتٍ جديدة وسريعة بحيث تحتوي المدينة غير السعيدة في كلّ ثانية على مدينة سعيدة لا تعي وجودها هي”.

■ ■ ■

المدن والسماء (5)

بُنيت آندريا بمهارة فنّية عالية، بحيث إن كلّ شارع من شوارعها يتبع مدار كوكب، وتكرّرُ المباني وأماكنُ حياة الجماعة نظامَ الكوكبات النجمية ومواقع أشدّ النجوم التماعاً: كوكبة العقرب، النجوم الساطعة، كوكبة الجدي، النجوم الصفراء الوامضة. تقويم المدينة السنويّ يبلغ درجة عالية من الانتظام إلى حدّ أن الوظائف والمؤسّسات والاحتفالات منظّمةٌ في خريطة تُناظر القبّة السماوية في ذلك اليوم: وبالتالي فإن النهارات على الأرض والليالي في السماء تعكس إحداها الأخرى.

مع أن حياة المدينة منظّمة تنظيماً جاهداً، إلّا أنها تجري جرياناً هادئاً مثل حركة الأجرام السماوية، وتكتسب حتميّةَ الظواهر غير الخاضعة للنزوات الانسانية. وقادني امتداحي لمواطِنِي آندريا على صناعتهم المنتجة وطلاقتهم الروحية إلى القول: “أستطيع أن أفهم جيّداً كيف أنّكم، شاعرين بأنفسكم جزءاً من سماء غير متغيّرة، مُلسنين في آليّةِ ساعةٍ دقيقة، تحرصون على عدم إحداث أدنى تغيير في مدينتكم وعاداتكم. آندريا هي المدينة الوحيدة التي أعرفُ حيثُ البقاء فيها بلا حركة في الزمن هو الأفضل.

فنظر بعضٌ إلى بعض مشدوهاً: “ولكن لماذا؟ مَن قال شيئاً مثل هذا؟”. وقادوني لزيارة شارع معلّق افتُتح منذ وقت قريب فوق أجمة خيزران، ومسرح خيال ظلّ تحت الإنشاء في مكان أوجار كلاب البلدية التي نُقلت الآن إلى سرادق المحجر الصحّي السابق، ذلك الذي أُلغي حين شُفي ضحايا آخرِ وباء، وإلى ــ ما تمّ تدشينه للتوّ ــ ميناءٍ نهري، تمثالٍ لطاليس، مزلقةِ تزلُّج.

سألتُ: “وهذه المبتكرات الجديدة، ألا تشوّش إيقاع مدينتكم النجميَّ؟”.

أجابوا: “تُناظر مدينتنا السماء تَناظراً تامّاً، بحيث إنّ أي تغيير في آندريا يستلزم شيئاً جديداً بين النجوم”.

بعد كلّ تغيير يحدث في آندريا، يحدّق الفلكيون في مناظيرهم المقرِّبة، ويفيدون بحدوث انفجار نجمٍ مستعِر، أو تغيّر لون نقطة نائية في القبّة السماوية من اللون البرتقالي إلى الأصفر، أو تمدّد غيمة سديمية، أو الانحناء في لولب درب التبّانة. في آندريا، كما بين النجوم، كلّ تغيّر يعني ضمناً سلسلةَ تغيُّرات أُخرى: المدينة والسماء لا تظلّان على حالهما أبداً.

أمّا بالنسبة إلى سِمات سكّان آندريا الشخصية، فهناك فضيلتان تستحقّان الإشارة إليهما: الثقة بالنفس والحكمة. إنهم، بسبب قناعتهم أن كلّ ابتكار جديد في المدينة يؤثّر على مخطط السماء، يحسبون قبل اتخاذ أي قرار المخاطرَ والمزايا بالنسبة إلى أنفسهم والمدينة والعوالم كلها.

—————————–

الجزء السابع عشر

———————

مدن غير مرئية..

كنتُ ضالّاً بين صفّين من بيوت (17)

مدن مستمرّة (4)

أنتَ تؤنّبني لأن كلّ حكاية من حكاياتي تأخذكَ مباشرةً إلى القلب من مدينة من دون أن تقول لك شيئاً عن المسافة الممتدّة بين مدينة وأخرى، وما إذا كانت تغطّيها بحارٌ أو حقول شوفان، غابات صنوبر أو مستنقعات. سأُجيبك بحكاية.

في شوارع سيسيليا، وهي مدينة شهيرة، التقيتُ مرّةً براعي ماعز، يدفع قطيعاً ترنّ أجراسه بمحاذاة الأسوار.

توقّف وسألني: “باركتك السماء أيها الإنسان، هل يمكنكَ إعلامي باسم المدينة التي نحن فيها؟”، صحتُ مندهشاً: “لتكن الآلهة في عونك، كيف يمكنكَ أن تُخفق في التعرّف على مدينة سيسيليا الشهيرة؟”.

أجاب ذلك الرجل: “حِلمُكَ عليّ، أنا راعٍ جوّال. بين وقت وآخر يكون علينا، أنا وماعزي، المرورُ عبر مدن، ولكنّنا غير قادرين على التمييز بينها. اسألني عن أسماء أراضي المراعي: أعرفها كلّها، مرعى المرج بين الجروف، السفح الأخضر، العشب المظلّل. المدن لا أسماء لها بالنسبة إليّ: إنها أماكن بلا أوراق شجر، تفصل بين مرعىً وآخر، وحيث ترتعب الماعز عند زوايا الشوارع وتتبعثر. وأركض أنا والكلب للحفاظ على القطيع مجتمعاً”.

قلت: “أنا على النقيض منكَ؛ لا أتعرّف إلّا على مدن ولا أستطيع تمييز ما هو خارجها. في الأماكن غير المأهولة يختلط كلّ حجر وكل أجمة عشب في نظري بكلّ حجر آخر وأجمة عشب أخرى”.

منذ ذلك الحين مرّت سنواتٌ عديدة، عرفتُ فيها المزيد من المدن وعبرتُ قارّات. وذات يوم كنت أسير بين صفّين من بيوت متماثلة؛ كنت ضالّاً. سألت أحد المارة: “ليحْمِكَ الخالدون، هل يمكنك أن تخبرني في أيّ مكان نحن؟”.

أجاب: “في سيسيليا؛ أسوأ حظّ! لقد قضينا أنا وماعزي دهراً جائلين في شوارعها، ولا نستطيع العثور على مخرج لنا منها…”.

وتعرفتُ عليه، رغم لحيته البيضاء الطويلة؛ لقد كان الراعيَ نفسه الذي التقيتُ به منذ زمن طويل. كانت تتبعه بضع عنزات جرباء، لم تصدر عنها رائحة كريهة حتى. كانت مهزولة لم يبقَ منها سوى الجلد والعظام. لقد تغذّت على الأوراق المهملة في صناديق القمامة.

“هذا محال!”، صرختُ، “أنا أيضا دخلتُ مدينةً، لا أستطيع تذكر متى، ومنذ ذلك الوقت وأنا أتوغّل في شوارعها أعمق فأعمق. ولكن كيف تسنّى لي الوصول إلى حيث تقول، بينما كنت في مدينة أخرى بعيدة كلّ البعد عن سيسيليا ولم أغادرها بعد؟”.

قال راعي الماعز: “الأمكنة مختلطة. سيسيليا موجودة في كل مكان. هنا، في زمن من الأزمان، لا بدّ أنه كان يوجد مرجُ الحكيم المتواضع. إن ماعزي يتعرّف على العشب فوق الجزيرة المخصّصة لمرور المُشاة”.

■ ■ ■

مدن مخفيّة (3)

قالت عرّافة سُئلت عن مصير ماروزيا: “أرى مدينتين، مدينة جرذ، ومدينة سنونو”.

وكان هذا هو تأويلُ الوحي: اليوم ماروزيا مدينة يجري فيها الجميع عبر مجازات كئيبة مثل مجموعات من الجرذان، جرذان ينتزع أحدها من أسنان الآخر فضلاتِ طعام تتساقط من أسنان أشدّها شراهةً؛ ولكنّ قرناً جديداً على وشك أن يبدأ، قرناً سيُحَلّق فيه كلّ سكّان ماروزيا مثل طيور السنونو في سماء الصيف، ينادي أحدهم على الآخر كما لو في مباراة، متباهين، أجنحتهم ثابتة وهم ينقضون منظفين الهواء من البعوض والناموس.

قال أكثرهم تصميماً: “آن أوانُ أن ينتهي قرن الجرذ، وأن يبدأ قرن السنونو”. في الحقيقة، تحت الهيمنة الجرذية المقيتة وضيّقة الأفق، يمكنكَ الإحساس سَلَفاً ــ وسطَ أقلّ الناس وضوحاً ــ بتفكُّرٍ واستعدادٍ لتحليقٍ شبيه بتحليق السنونو وهو يتّجه نحو الهواء الشفّاف بنفضة ذيلٍ بارع، راسماً بحوافّ أجنحته منحنى أفقٍ مفتوح.

عدتُ إلى ماروزيا بعد سنوات عديدة: لبعض الوقت أُعتبرتُ نبوءة العرّافة قد تحقّقت؛ القرن القديم ميّتٌ ومدفون، الجديد في ذروته. لا ريب أن المدينة تغيّرت، ربّما نحو الأحسن. ولكنّ الأجنحة التي رأيتها تتحرّك حولي هي أجنحة لتلك المظلّات المُريبة التي تُسبَل تحتها أجفانٌ ثقيلة؛ هناك أناس يعتقدون أنهم يحلّقون، ولكنْ ستكون مأثرة من مآثرهم الآن لو استطاعوا  الفرار من الأرض مُرفْرفين بمعاطفهم الشبيهة بالوطاويط.

يحدث أيضاً، إذا مشيتَ بمحاذاة أسوار ماروزيا المُحكمة، وحين يكون توقّعكَ عند الحدود الدنيا، أن تشاهد شقّاً يُفتح ومدينة مختلفة تظهر. ثمّ، وبعد لحظة، تكون قد تلاشت. كلّ شيء يتوقّف ربّما على معرفة أيّة كلمات نقول، وأية أفعال نأتي بها، ووفق أيّ نظام أو إيقاع؛ وإلّا خلاف ذلك ستفي بالغرض نظرةٌ محدّقة من أحدهم، أو جوابٌ، أو إيماءة؛ وبالنسبة إلى بعضهم يكفي أن يفعل شيئاً يقوم به من أجل المتعة الصرفة، ولمتعته في أن يصبح ممتعاً لآخرين: في تلك اللحظة يتغيّر كلّ فضاء، وكل الارتفاعات والمسافات؛ تتغيّر هيئة المدينة، تصبح بلّورية، شفّافة مثل يعسوب. ولكنْ يجب أن يحدث كلّ شيء كأنما مصادفة، من دون تعليقِ أهمّيةٍ مبالغٍ فيها عليه، من دون إصرار على أنك تقوم بأداء عملية حاسمة، متذكّراً بجلاء أن ماروزيا القديمة ستعود في أية لحظة، وتلحم سقوفها الحجرية وشبكات عناكبها وترابها فوق كلّ الرؤوس.

هل كان الوحي مخطئاً؟ ليس بالضرورة. إنني أفسّره بهذه الطريقة: تتكوّن ماروزيا من مدينتين، مدينة الجرذان ومدينة السنونو؛ كلتاهما تتغيّر مع الزمن، ولكنّ علاقتهما ببعضهما لا تتغيّر؛ الثانية هي التي على وشك أن تحرّر نفسها من الأولى.

■ ■ ■

مدن مستمرة (5)

لأحدّثكَ عن بنثيسلا، عليّ أن أبدأ بوصف المدخل المؤدّي إلى المدينة. أنتَ، بلا شكّ، تتخيّل رؤيتكَ لأطواق من الأسوار ترتفع من السهل المُترب وأنت تقترب ببطءٍ من البوّابة، المحروسة من قِبَل رجال جمارك ألقوا سَلَفاً نظرات شزراء على رُزَمك. أنت خارجها إلى أن تصل إليها؛ أنتَ تمرّ تحت مجازٍ مقنطَر ثم تجد نفسك في قلب المدينة، تُحيط بك سماكَتُها المركّبة؛ وهناك مخطّطٌ محفور على حجرها، سينكشف لك إذا اتّبعتَ خطّ كفافه المثلّم.

إن كان هذا ما تعتقده، فانتَ مخطئ: بنثيسلا مختلفة. إنك لَتتقدّم طيلة ساعات وليس واضحاً بالنسبة إليك ما إذا كنتَ في قلب المدينة أم أنك ما زلتَ خارجَها. مثل بحيرة ذات شواطئ منخفضة ضائعة في المستنقعات، هكذا تنتشر بنثيسلا أميالاً حولك، مدينة حسائية مخفّفة في السهل؛ مبانٍ شاحبة قائمة ظَهراً لظهر في حقول رثّة، وسطَ سياجات من ألواح خشبية وسقائف حديديّة مموّجة.

بين حينٍ وآخر، عند حوافّ الشارع، مجموعةُ منشآت ذات واجهات مسطّحة، عالية جدّاً أو منخفضة جدّاً، مثل أسنان مشْطٍ ناتئة، يبدو أنها تشير إلى أنه من هنا سيتكاثف نسيج المدينة. ولكنّك تُواصل مسيرك وتجد بدلاً من ذلك فراغاتٍ مبهمةً أخرى، ثمّ ضاحيةً عتيقة لمعامل ومخازن ومقبرة، مدينةَ ملاهٍ بعجلة دوّارة، خرائب؛ تهبط شارعاً ذا دكاكين مهزولة تبهت وسط قِطَع أراضٍ صغيرة لريفٍ مجذوم.

إذا سألتَ الناس الذين تلتقي بهم: “أين بنثيسلا؟”، يومِئون إيماءةً غير محدّدة، قد تعني “هنا” أو قد تعني “هناك بعيداً” أو “حولك في كل مكان” أو حتى “في الاتّجاه المقابل”. وتسأل بإلحاح: “أعني المدينة”، فيُجيب أحدهم: “نحن نجيء هنا للعمل في كلّ صباح”، بينما يقول آخرون: “نحن نعود هنا ليلاً لننام”.

وتسأل: “ولكن، أليست المدينة حيث يعيش الناس؟”.

فيقولون: “لا بدّ أنها في ذلك الاتّجاه”.

ويرفع بعضهم ذراعه مائلاً نحو تجمّعات معتِمة متعدّدة السطوح تلوح في الأفق، بينما يشير آخرون، وراءك، إلى شبح قِمَمٍ أخرى.

“إذن، أنا مررتُ بها من دون أن ألحظها؟”.

“لا، حاول المضيّ قُدماً”.

وهكذا تستمرّ، عابراً من ضواحٍ إلى أخرى، ويحين أوانُ مغادرة بنثيسلا. تسأل عن الطريق المؤدّي إلى خارج المدينة، تمرّ مرّةً أُخرى بسلسلة ضواحٍ متناثرة مثل أصباغ أصابها النمَش؛ يهبط الليل، تُضاء النوافذ، متفرّقةً هنا وأكثر تقارُباً هناك.

إنّك تتخلّى عن محاولة فهم ما إذا كانت ثمّة بنثيسلا مخفيّة في جيبٍ ما أو تجعيدةٍ في هذه الأنحاء المهدّمة، يمكن أن يتعرّف عليها الزائر ويتذكّرها، أو ما إذا كانت بنثيسلا ليست إلّا ضواحيها. السؤال الذي يبدأ الآن بقرْض ذِهنك أشدُّ تبريحاً: خارجَ بنثيسلا، هل يوجد خارجٌ؟ أو، لا يهمّ كم ابتعدت عن المدينة، هل ستمرّ فقط من منطقةِ أعرافٍ إلى آخرى، غيرَ قادرٍ على مُغادرتها أبداً؟

————————

الجزء الثامن عشر

———————

مدن غير مرئية..

أطلسُ أراضٍ يزورها الفكر وحده (18)

مدن مخفية (4)

خرّبت غزوات متواترة مدينةَ ثيودورا عبر قرون من تاريخها؛ فما إن يُهزم عدوّ حتى يكتسب آخرُ قوّة ويهدّد الناجين من السكّان. حين تمّ تطهير السماء من النسور الضخمة، كان عليهم مواجهة تكاثر الأفاعي؛ وسمحت إبادة العناكب للذباب أن يضاعف أعداده متحوّلاً إلى سرب أسود؛ وترك الانتصار على النمل الأبيض المدينةَ تحت رحمة دود الخشب. كان على الأنواع المتنافرة مع حياة المدينة أن تموت، فانقرضت. وبفضل تمزيق الحراشف والدروع العظمية، واقتلاع الأجنحة والريش، مَنح الناسُ ثيودورا صورةَ المدينة الإنسانية الحصرية التي ما زالت تميّزها.

ولكن في البداية، ولسنوات عديدة مديدة، لم يكن مؤكّداً ما إذا كان النصر النهائي سيكون أو لا يكون من نصيب آخِر الأنواع الذي تُرك ليحارب ملكية الإنسان للمدينة: الجرذان. لقد ولّدت القوّة الناجية من كلّ جيل من أجيال القوارض التي استطاع الناس إبادتها، سلالةً أكثر خشونة، منيعة على المصائد ومُقاومة لكلّ أنواع السموم. في ظرف بضعة أسابيع، ازدحمت مجاري ثيودورا مرّةً أُخرى بقطعان من الجرذان المتكاثرة. وفي النهاية، وبمذبحة بالغة الصرامة، دَحرت براعة البشرية القاتلة ومتعدّدة الاستخدامات قوّةَ حياة العدوّ المفرطة.

أُغلقت المدينة، مقبرة مملكة الحيوان العظمى، وتمّ تعقيمها بعد دفن آخر الجثث مع آخر براغيثها وجراثيمها. وأعاد الإنسان أخيراً إنشاء نظام العالم الذي هو ذاته مَن أفسده؛ لم يبق موجوداً أي نوع حيّ ليلقي أية شكوك. ومن أجل أن تتذكّر ثيودورا ما كانت عليه حيوانات الحقَب الماضية، ستحتفظ مكتبتها فوق رفوفها بمجلّدات بوفون ولينايوس.

هذا هو على الأقلّ ما اعتقده سكّان ثيودورا، بعيدين عن تخيل أن حيوانات حقبة منسيّة كانت تستفيق من سُباتها. حيوانات الحقبة الأخرى هذه، وقد أُبعدت طيلة عصور مديدة إلى أماكن مخفية بعيدة منذ أن عزلها نظام الأنواع اللامنقرضة، كانت تعود إلى الضوء من أقبية المكتبة حيث حُفظت الكتب القديمة؛ كانت تقفز من تيجان الأعمدة وأنابيب الصرف، وتجثم على جوانب أسّرة النائمين. كانت الكائنات الخرافية، السفنكسات والغرافين والكميرات والتنانين والهركوسيرفيات والخطّافات والأفعوانات ذات التسعة رؤوس ووحيدات القرن والباسلسقات الزاحفة، تُباشر امتلاك مدينتها.

■ ■ ■

مدن مخفية (5)

ليس عليّ أن أحدثكَ عن بيرينس، المدينة الظالمة، المتوّجة بمستطيلات بارزة في الأفاريز، بقواعد تيجان، تتوسّط الفراغ بينها تُروس آلات فرم اللحم المسنّنة (يشعر الرجال الموكلون بالتلميع ــ حين يرفعون ذقونهم فوق الحواجز المشرفة ويتأمّلون الأروقة ذات الأعمدة والسلالم والردهات ــ بقِصَر القامة، بل ويزداد شعورهم أنهم مسجونون). بدلاً من هذا، عليّ أن أحدّثك عن بيرينس المخفية، المدينة العادلة وهي تعالج بدائل مؤقّتة من المواد في الغرف الظليلة خلف الدكاكين وتحت السلالم، وهي تصل بين أجزاء شبكة من أسلاك وأنابيب وبَكَرات ومكابس وأثقال موازنة تتغلغل مثل نبتة متسلّقة بين العجلات المسننة الهائلة (حين تلصِبُ العجلات، تنبّه تكّة مكتومة إلى أن آلية جديدة محكمة تحكم المدينة).

بدلاً من أن أصف لك أحواض الاستحمام المعطّرة حيث يتكئ ظالمو بيرينس ويحيكون مكائدهم ببلاغة طنّانة ويراقبون بعين صاحبِ أملاكٍ أجسادَ المحظيات الممتلئة، عليّ أن أقول لك كيف يتعرّف العادلون، وهم متنبّهون دائماً لتجنب المنافقين المتجسّسين واعتقالات الانكشارية الجماعية، على بعضهم بعضاً من طريقتهم في الكلام، وبخاصّة تلفّظهم للفواصل والجمل المعترضة، من عاداتهم التي تظلّ بريئة وبالغة البساطة، متجنّبةً الأمزجة المعقدة والعصبيّة، من مطبخهم المعتدل ولكن الطيّب المذاق، ذلك الذي يستحضر عصراً ذهبيّاً قديماً: رزّ وحساء كرفس، لوبياء مسلوقة، ومسحوق زهور مقلية.

من هذه المعلومات يمكن استنتاج صورة بيرينس المستقبل، معلومات ستقرّبكَ من معرفة الحقيقة أكثر من أيّة معلومات أخرى عن المدينة كما تشاهَد في هذه الأيام. ومع ذلك، يجب أن تتذكّر ما أنا على وشك قوله لك: في بذرة مدينة العدالة تختبئ من جانب آخر بذرة خبيثة: اليقين والكبرياء بكونِ المرء على صواب، وبكونه أكثر عدلاً من عديدين آخرين يطلقون على أنفسهم تسمية الأكثر عدلاً من العدل. هذه البذرة تتخمّر في المرارة والامتعاض والتنافس؛ وتتلوّن الرغبة الطبيعية بالانتقام من الظالمين بتوقٍ إلى الحلول محلّهم والتصرّف كما تصرّفوا. إن مدينة ظالمة أخرى، رغم اختلافها عن الأولى، تنقّب عن فضاء لها داخل غمد بيرينس الظالمة وبيرينس العادلة.

لا أرغب، وأنا اقول هذا، أن تُمسك عيناكَ بصورة مشوّهة، ولذا يجب أن ألفت انتباهك إلى ميزة جوهرية لهذه المدينة الظالمة تنشأ سرّاً داخل المدينة العادلة السرّية: اليقظة الممكنة لحبّ لاحقٍ للعدالة، كما لوأنه فتْحٌ مثير لنوافذ، لم يخضع للقواعد بعد، قادر على إعادة تركيب مدينة هي أكثر عدالةً ممّا كانت عليه قبل أن تصبح وعاءً للظلم. ولكن إذا أنعمتَ النظر أعمق في جرثومة العدالة الجديدة هذه، تستطيع أن تتبيّن نقطة صغيرة تنتشر مثل الميل المتعاظم نحو فرض ما هو عادل بوساطة ما هو ظالم، وربما هذه جرثومةٌ عاصمةٌ عظيمة…

من كلماتي ستصل إلى نتيجة أن بيرينس الحقيقية هي تراث مؤقت لمدن مختلفة، عادلة وظالمة بالتناوب. ما أردته هو تنبيهك إلى شيء آخر: كل “بيرينسات” المستقبل حاضرات سلفاً في هذه اللحظة، ملفوفة إحداها بالأخرى، محتجزة، محشورة، لا سبيل إلى انفكاك إحداها عن الأخرى.

■ ■ ■

يحتوي أطلس الخان الأكبر أيضاً على خرائط الأراضي الموعودة التي تمّت زيارتها بالفكر ولكنها لم تُكتشف بعد أو لم تتأسّس: أطلانتس الجديدة، يوتوبيا، مدينة الشمس، أوشانيا، تاموي، هارمونيا الجديدة، لانارك الجديدة، إيكاريا.

سأل قبلاي ماركو: “أنت يا من تتجول مسكشفاً، ومَن يشاهد علامات، هل تستطيع أن تقول لي نحو أيّ من هذه المستقبلات تدفعنا الرياح المواتية؟”.

“إلى تلك الموانئ التي لم أستطع رسم طريق إليها على الخريطة أو وضع تاريخٍ للهبوط فيها. أحياناً كان كل ما أحتاجه لمحة سريعة، فضاءً مفتوحاً وسط مشهد متنافر الأجزاء، التماعة أضواء في الضباب، الحوار بين عابرين يلتقيان في الزحام، وأعتقد أنّني بالانطلاق من هناك سأركّب المدينة الكاملة قطعة قطعة، مؤلّفة من شظايا مختلطة بالبقية، من لحظات تفصل بينها فترات راحة، من إشارات يرسلها المرء غير عارفٍ مَن يتسلمها. لو أخبرتكَ أن المدينة التي تسعى إليها رحلتي غير متواصلة في الزمان والمكان، مرّة متناثرة، ومرّة أكثر كثافة، لوجبَ عليك ألّا تؤمن أن البحث عنها يمكن أن يتوقّف. ربما هي آخذة بالظهور الآن ونحن نتحدّث، موزعةً في نطاق إمبراطوريتك؛ يمكنك التفتيش عنها، ولكن بالطريقة التي قلتها فقط”.

خلال هذا كان الخان يتصفّح أوراق أطلسه، منكبّاً على خرائط المدن المهدِّدة في الكوابيس واللعنات: إينوش، بابل، أرض ياهو، بوتوا، عالم جديد شجاع.

قال: “كل هذا عديم الجدوى إنْ كان مكان الهبوط الأخير ليس سوى المدينة الجهنّمية، وإلى هناك يسحبنا التّيار في دوائر تضيق وتضيق باستمرار”.

فقال بولو: “جهنم الأحياء ليست شيئاً سيكون؛ إن كان ثمة وجود لجهنّم، فهي ما هو موجود هنا سلفاً، جهنم هي حيث نحيا كلّ يوم، جهنم هي تلك التي نُنشئها بكوننا معاً. وللإفلات من معاناتها، هناك طريقان؛ الأوّل سهل على الكثيرين: ارضَ بجهنّم وصِرْ جزءاً معيّناً منها بحيث لا يعود بإمكانك أن تراها. والثاني خطِرٌ ويتطلّب يقظة دائمة وخِشيةً: ابحث وتعلم التعرّف في وسط جهنم على مَن وما هو ليس جهنماً، ثم اجعلهما يواصلان البقاء، أعطهما فضاءً…

————————————

تنشر “العربي الجديد”، على دفعات، ترجمة الشاعر والروائي والناقد الفلسطيني محمّد الأسعد لكتاب “مدن غير مرئية” لـ إيتالو كالفينو. يعدّ العمل من آخر ما ترجمه الأسعد، وقد حال رحيله المفاجئ، الشهر الماضي، دون نشره في كتاب حتى الآن.

وليس هذا الكتاب العمل الوحيد لكالفينو الذي نقله الأسعد (1944 ـ 2021) إلى العربية، إذ سبق أن عرّب للكاتب الإيطالي سلسلة محاضرات صدرت عام 1999 بعنوان “ستّ وصايا للألفية القادمة”. إلى جانب تجربته في الشعر والرواية، ثمّة في رصيد الأسعد العديد من الترجمات البارزة، من آخرها ترجمته لرواية “الشياطين” لدوستويفسكي، التي صدرت قبل أسابيع من رحيله.

* ترجمة: محمّد الأسعد

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى