انتهازية مُقيّدة
مايكل يونغ
يناقش أندرو أس. وايس وفريدريك ويري، في مقابلة معهما، السياسة الروسية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
فريدريك ويري باحث أول في برنامج الشرق الأوسط في مؤسّسة كارنيغي للسلام الدولي، تتناول أبحاثه النزاع المسلّح، وحوكمة قطاع الأمن، والسياسة الخارجية الأميركية، مع تركيز خاص على ليبيا وشمال إفريقيا ودول الخليج. أندرو أس. وايس هو نائب الرئيس للدراسات في مؤسسة كارنيغي وحائز على منحة عائلة جايمس، ويشرف على أبحاث المؤسسة حول شؤون روسيا وأوراسيا في واشنطن العاصمة وموسكو. شارك الاثنان معًا مؤخرًا في كتابة ورقة بحثية حول السياسة الروسية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بعنوان Reassessing Russian Capabilities in the Levant and North Africa (إعادة تقييم القدرات الروسية في دول المشرق وشمال إفريقيا)، يوصيان فيها صنّاع السياسات في الغرب بتجنّب النظر إلى الخطوات الروسية في المنطقة من منظور الحصيلة الصفرية (غالب ومغلوب). أجرت “ديوان” مقابلة معهما في أواخر أيلول/سبتمبر.
مايكل يونغ: صدرت لكما للتو ورقة بحثية عن الإمكانات الروسية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ما هي الخلاصات الأساسية التي توصّلتما إليها؟
أندرو أس. وايس: حاولنا الإضاءة على بعض المفارقات التي ينطوي عليها الدور الروسي في المنطقة. لقد عادت روسيا إلى الشرق الأوسط بكثير من الصخب، لكن محدودية النفوذ الروسي واضحة للغاية أيضًا. غالبًا ما تهدف الجهود التي يبذلها الكرملين إلى إظهار أن روسيا عادت من جديد إلى دورها كقوة عظمى حقيقية على الساحة العالمية وتحاول ملء الفراغ الحاصل بكلفة متدنّية.
وثمة أيضًا أصداء واضحة عن المراحل السابقة. كتب أرنولد هورليك، وهو أحد الخبراء الغربيين الأكثر اطّلاعًا على السياسة الخارجية السوفياتية في العام 1971: “كان تطوّر سياسة [موسكو] في الشرق الأوسط نابعًا إلى حد بعيد من السعي خلف أهداف خارج المنطقة تكتسي قيمة أكبر لروسيا، وارتجاليًا استجابةً للفرص التي ظهرت نتيجة أحداث لم تكن للكرملين سيطرة كبيرة عليها، أو كنتيجة غير مقصودة لخطوات اتُّخِذت لأغراض أخرى”. يصعب إيجاد توصيف أفضل.
لا شك في أنه كان للتدخل العسكري في سورية قبل ست سنوات الفضل في عودة الكرملين إلى الاضطلاع بدور سياسي في الشرق الأوسط. ولكن هذا لا يعني أن روسيا تملك الآن الأدوات السياسية أو العسكرية أو الاقتصادية أو الدبلوماسية أو أدوات القوة الناعمة (ناهيك عن الرغبة) اللازمة للتنافس مباشرةً مع واشنطن. فإذا نظرنا إلى بعض المسائل الأكثر إلحاحًا في المنطقة، مثل أزمة الحكم المستفحلة في لبنان أو احتدام القتال مؤخرًا في غزة، يتبيّن أن روسيا تقف في موقف المتفرج. ويحلو للمسؤولين الروس أن يردّدوا أنهم يستطيعون التحدّث مع جميع الأطراف، ما يمنحهم بعض المكاسب، ولكن ذلك يختلف عن بذل محاولات فعلية لمعالجة المشاكل. لكن ما من طلب كبير في المنطقة كي تتقدّم روسيا لأداء ذلك الدور. لا بل غالبًا ما يستخدم الأفرقاء المحليون انخراطهم مع موسكو بمثابة تكتيك للحصول على دعم إضافي من الرعاة التقليديين مثل الولايات المتحدة وأوروبا.
يونغ: ما هي الأمثلة التي تدفعكما إلى القول إن السياسات الروسية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا نابعة من الانتهازية بدلًا من أن تكون نابعة من استراتيجية كبرى؟
فريدريك ويري: الخطوات الروسية في تلك المنطقة، ولا سيما في شمال إفريقيا، لم تنبثق من مبادئ أو معايير محددة مسبقًا، أو من عقيدة تُفضي إلى حالة نهائية منشودة. وليست المنطقة بؤرة حيوية بطبيعتها، ولا جزءًا من رقعة شطرنج جيو-استراتيجية أساسية لعودة روسيا إلى الساحة العالمية. واقع الحال أن الكرملين استغلّ الفرص التي أتاحتها الاضطرابات في البلدان العربية بعد العام 2011، وأطماع الحكّام المحليين وشعورهم بعدم الأمان، وبصورة خاصة أخطاء الولايات المتحدة وهفواتها ولامبالاتها.
كانت أدوات روسيا السياسية مرِنة بما فيه الكفاية، ومتدنّية الكلفة، ولم تكبّلها قيود داخلية أو مخاوف من ارتدادات عكسية. كثيرًا ما نرى أن موسكو قادرة على إقحام نفسها بسرعة في أوضاع سريعة التبدّل، وغالبًا ما تُشرك أفرقاء متعدّدين دفعةً واحدة. إذا كانت هناك من خطوط عريضة لاستراتيجية يمكن استشفافها من هذه التدخلات، فلعلّها تُختصَر بما يلي: “تقويض الثقة المحلية بالمنظومة الأمنية التي تقودها الولايات المتحدة، وتسديد ضربة للأوروبيين، وتحقيق مكاسب مادّية من هذه العملية”.
تشكّل ليبيا خير دليل على هذه المقاربة الانتهازية الموسّعة، حيث سعت المجموعات والفصائل الليبية المسلّحة والمتناحرة إلى الحصول على المساعدة الخارجية في أعقاب الفراغ في السلطة الناجم جزئيًا عن التردد الأميركي والانقسام الأوروبي، من جملة أسباب أخرى. ردًا على هذه الأوضاع، عمدت روسيا في أواخر العام 2019 إلى زيادة دعمها العسكري لأحد هذه الفصائل الليبية، تحديدًا القوات المسلحة العربية الليبية بقيادة خليفة حفتر، من خلال إرسال مرتزقة من مجموعة فاغنر المدعومة من الدولة الروسية وبعض الموظفين النظاميين لمساعدة القائد العسكري المتمركز في شرق البلاد في مسعاه الرامي إلى الإطاحة بالحكومة المعترَف بها دوليًا في طرابلس. وفي حين أن موسكو تودّدت فترةً طويلة إلى حفتر وساهمت في صعوده في شرق ليبيا من خلال مدّه بالدعم العسكري والمالي واللوجستي والدعائي، لم تربطها على الإطلاق علاقة حصرية به كــ”زبون” لديها، بل اعتبرته واحدًا من الأفرقاء الكثيرين الموجودين في المشهد.
حتى فيما كانت روسيا تمطر حفتر بالمساعدات العسكرية، انخرطت مع خصومه في العاصمة ودعمت شخصيات من النظام السابق، أي ما يُعرَف بـ”الخضر”. وحين تعثّرت حملة حفتر في ساحة المعركة بسبب التدخل العسكري التركي لصالح حكومة طرابلس، تحوّلت موسكو سريعًا نحو المسار الدبلوماسي، ووافقت على خريطة طريق للانتخابات جرى التوصل إليها بوساطة من الأمم المتحدة، علمًا بأنها أبقت على قوات عسكرية على الأرض في ليبيا على سبيل التحوّط.
يونغ: ما هي الوسائل الأساسية التي استخدمتها روسيا لتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط خلال السنوات القليلة الماضية، وما تقييمك لمدى نجاحها؟
وايس: عند الحديث عن القوة الصلبة لروسيا في سورية اليوم، ثمة واقع مُلفت إنما لا يحظى بالتقدير الكافي، وهو أن معظم الأهداف الأساسية التي وضعها الكرملين للحرب قد تحققت قبل أربع سنوات تقريبًا. ومنذ ذلك الجين، تختبر روسيا حالة جمود على الأرض، ولا تزال غير مستعدة للاستثمار في الموارد العسكرية أو الاقتصادية أو السياسية التي تُعتبر ضروريةً لقلب الموازين في الاتجاه الذي تريده. وحين اصطدمت روسيا بسائر القوى العسكرية الكبرى في المنطقة، مثل الولايات المتحدة أو إسرائيل أو تركيا، حرصت إلى حدّ كبير على تجنّب خوض مواجهات مباشرة معها.
نذكر من بين الأحداث التي جرت فيها الأمور بعكس ما تشتهي روسيا ما شهدته دير الزور في شباط/فبراير 2018، حين هاجم مرتزقة روس ينتمون إلى مجموعة فاغنر موقعًا تابعًا للقوات الخاصة الأميركية. وكبّدت تلك الحادثة القوات الروسية أكثر من 200 قتيلًا، وشكّلت درسًا مهمًا، لكن مهينًا، لموسكو حول تبعات اختبار مدى عزم الجيش الأميركي على الدفاع عن شعبه.
والأدوات الاقتصادية التي تلجأ إليها روسيا في المنطقة محدودة نوعًا ما. فقد ركّز الأفرقاء الروس على مجموعة ضيّقة من المجالات، مثل بيع بعض أنواع الأسلحة المتقدّمة والبدائية، واقتناص الفرص المتاحة في مشاريع البنى التحتية والطاقة، ومحاولة بناء محطة مرتفعة الكلفة للطاقة النووية في مصر. لكن موسكو تبقى عاجزة عن توفير الموارد الاقتصادية أو المالية التي تقدّمها الولايات المتحدة أو الصين أو الاتحاد الأوروبي.
يونغ: ينطوي السلوك الروسي حيال إسرائيل على مفارقات عدة. هل يمكنك وصف طبيعة هذه المفارقات وشرح مساعي موسكو لإرساء توازن بين علاقاتها مع إسرائيل من جهة، وبين دورها الإقليمي الأوسع من جهة أخرى؟
وايس: تعزّزت العلاقات الروسية الإسرائيلية على مدى العقود القليلة الماضية. فثمة الكثير من المسائل التي تجمع بين الطرفين، ناهيك عن العلاقات بين الشعبين. لكن عهد بنيامين نتنياهو شهد الكثير من المبالغات في هذا الصدد، وساد مفهوم روّج له هو وحلفاؤه بأن البلدَين يتّجهان بخطى حثيثة نحو إقامة نوع من الشراكة الاستراتيجية. عبّر ذلك إلى حدٍّ بعيد عن حسابات نتنياهو السياسية الداخلية، وتحديدًا رغبته في توسيع قاعدة الدعم السياسية لحزب الليكود، وتصوير نفسه على الساحة الدولية على أنه القائد الوحيد القادر على التعامل مباشرةً مع أمثال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي.
في غضون ذلك، يملك الجانبان أسبابًا عملية تدفعهما إلى إرساء آليات لخفض التصعيد العسكري، بعد أن أصبحت موسكو جارًا جديدًا لإسرائيل. ومنذ بدء التدخل العسكري الروسي في العام 2015، غضّ الروس الطرف عن الهجمات الإسرائيلية المتكررة ضد أهداف إيرانية داخل سورية، طالما أنها لا تشكّل تهديدًا على القوات الروسية المتمركزة على الأرض. لكن الروس ماطلوا مرارًا وتكرارًا في التعامل مع المخاوف الإسرائيلية من التعدّيات الإيرانية في مناطق حساسة مثل درعا أو مرتفعات الجولان.
يكشف هذا الواقع النقاب عن محدودية التأثير الروسي على الرئيس السوري بشار الأسد الذي غالبًا ما يسعى إلى تأليب داعمتيه الأساسيتين روسيا وإيران على بعضهما البعض. نرى أيضًا أن الروس لا يريدون حتمًا الانخراط في مواجهة مباشرة مع الجيش الإسرائيلي الذي يعتبر أن التوغّل العسكري الإيراني في سورية يشكّل تهديدًا خطيرًا. كذلك، لا يرغب الروس في تقهقر صورتهم في حال عمدت إسرائيل إلى تدمير بعض العتاد العسكري الذي استعرضته موسكو، مثل منظومة الدفاع الصاروخية من طراز إس-400.
يونغ: كتبتما أن “التأثير الذي يمارسه حكّام الشرق الأوسط في تحديد حجم النفوذ الروسي أكبر بكثير مما توحي به السرديات التقليدية”. ما الذي يدفعكما إلى قول ذلك، والأهم، ما تداعيات ذلك في المدى الطويل على النفوذ الروسي في المنطقة؟
ويري: تشير معظم التعليقات عن روسيا في الشرق الأوسط إلى أنها تتمتع، في ممارساتها في المنطقة، بقدرة مطلقة غير مستحَقّة وبحرّية التحرك، ما يحدّ من تأثير الدول المحلية والأفرقاء غير الدولتيين. ولكن الحقيقة هي أن أطماع القوى الخارجية تصطدم دائمًا بتعقيدات المنطقة، وخصوصًا بالقدرة الغريبة لحكّام الشرق الأوسط على إحباط تطلعات القوى العظمى، ولا سيما من خلال تأليبها على بعضها البعض. ينطبق ذلك حكمًا على مرحلة الحرب الباردة، ويستمر حتى يومنا هذا.
لم تتمكن موسكو، على الرغم من “صفقاتها” التي روّجت لها على نطاق واسع في مجالات السلاح والطاقة والبنى التحتية وغيرها، من تحويل التعاملات التي تحمل بصورة أساسية طابعًا تجاريًا إلى شراكات استراتيجية حقيقية، والسبب الأساسي هو أن الدول العربية تفضّل إبقاء القنوات مفتوحة مع جهات راعية أخرى تعتبرها في الغالب أكثر موثوقية. والمثال الأبرز في هذا السياق هو مصر، حيث أحبط الرؤساء المتعاقبون على السلطة مخططات الكرملين لاستخدام الأراضي المصرية من خلال الحصول مثلًا على حقوق إنشاء قواعد عسكرية أو التحليق في الأجواء المصرية، فيما أبقوا على الولايات المتحدة كضامِن أساسي لأمنهم. بالمثل، انسحب القائد الميليشيوي الليبي خليفة حفتر، الذي أطلقت عليه بعض وسائل الإعلام لقب “رجل موسكو في ليبيا”، من قمةٍ عقدها بوتين في العاصمة الروسية في مطلع العام 2020. وقد سلّط هذا الازدراء الصارخ الضوء على أن شركاء موسكو المفترضين في الشرق الأوسط لا يتصرفون كوكلاء طيّعين لها.
يونغ: تقولان إن “على واشنطن أن تتجنّب النظر إلى المنطقة من خلال عدسة الحرب الباردة القائمة على المعادلة الصفرية والتي ترى في كل تطوّر مكسبًا صافيًا أو خسارة صافية لموسكو”. ولكن هل يمكنني أن أقلب هذه الفكرة؟ في ضوء المؤشرات المتزايدة عن فك الارتباط الأميركي في المنطقة، هل من سبل كي تعمل الولايات المتحدة وروسيا معًا من أجل تحقيق أهدافهما الإقليمية الأساسية؟
ويري: يجب أن تكون إدارة بايدن مدركة تمامًا لمدى قدرة روسيا على نشر الفوضى في المنطقة. ولكن نظرًا إلى المسائل المتضاربة التي تتطلب اهتمامًا أميركيًا، في الداخل والخارج على السواء، سيكون على واشنطن أن تعطي الأولوية للأنشطة الروسية التي تقتضي منها ردًا مضادًا مباشرًا، من خلال اللجوء إلى وسائل سرّية أو علنية. في الوقت نفسه، لا بد من التنبّه إلى أن هذا التصدي، وعلى الرغم من أنه قد يؤدّي إلى تبطيء التدخل الروسي أو عرقلته من غير المرجّح أن يُحدث تغييرات جذرية في مجمل حسابات الكرملين. في حالات كثيرة، سوف يتعيّن على واشنطن أن تقبل ببساطة الحضور الروسي باعتباره سمةً من سمات المشهد الجديد، وأن تثق بأن العقبات الراسخة في المنطقة، إضافةً إلى الأدوات المحدودة التي تملكها موسكو، والأخطاء التي ترتكبها بحق نفسها، ومبالغتها في تقدير نفوذها في بعض الأحيان، ستضع حدًّا للتوغّل الروسي. وفي حالات أخرى، يمكن أن تبحث الولايات المتحدة عن سبلٍ لتوجيه النشاط الروسي في مسارٍ أكثر إنتاجية من خلال الضرب على وتر المصالح الاقتصادية الخاصة لموسكو وبراغماتيتها ورغبتها في الاستقرار.
في ليبيا مثلًا، ليست لدى روسيا مصلحة في استمرار الحرب الأهلية لأن الفوضى تُضرّ بأهدافها في قطاع الأعمال. ومن هذا المنطلق، عمل الدبلوماسيون الأميركيون بحذرِ إنما بحكمة على إشراك موسكو في مسار سلمي لإخراج ليبيا من المأزق الذي تتخبط فيه.
مركز كارينغي للشرق الأوسط