تكسر السياق الاجتماعي وقبول ما لم يكن من الممكن قبوله: نقد الوعي الكامن خلف ممارساتنا وعاداتنا/ محمد ديبو
“قربان قربان” هذا ما تقوله سهيلة وهي تضم كلب ابنها الذي يضطر لتركه عندها حين يكون على سفر. الغريب ليس في إقدامها على ضم الكلب وإبقائه عندها، بل في أنّها، هي نفسها، من رفضت دخول كلب سابق إلى منزلها في حلب حين اشتراه ابنها قبل عشرين عامًا، ما اضطره لإعادة بيعه بنصف السعر الذي اشتراه به بعد أسبوع واحد فقط. فما الذي تغير بين سوريا وألمانيا حتى تقبل بما لم تكن تقبل به سابقًا؟
في مثال أخر، لم تجرؤ ليلى عندما كانت في سوريا على إخبار أحد من عائلتها أنّ لديها حبيب وتقيم معه علاقة جنسيّة، لكنها اليوم في ألمانيا، لا تترّدد باصطحاب رفيقها التي تعيش معه إلى بيت أهلها الذين يتقبلون الأمر برحابة صدر.
هذه المقدمة بمثاليها المطروحين، قد تكون مدخلًا مناسبًا للإطلال على الكثير من الأعراف والمقدسات التي تكسّرت تحت ضربات معاول الحرب السوريّة، الأمر الذي يدفعنا لإعادة تناول هذه المقدسات من منظور نقدي يركز على ماهيّة هذه المقدسات التي فقدت قداستها بمجرّد تغير المكان أو السياق والمحيط الاجتماعي، ما يدفعنا وبشكل أعمق لمحاولة فهم أثر هذه المقدسات على الأفراد وسبب إيمانهم بقداستها فيما مضى، ما يعطينا مرة أخرى، فكرة عن كيفيّة تشكّل المقدّس في أذهان الناس وسبب رضوخهم له.
أغلبنا، عندما كنّا في سوريا، وُلد في عائلات لديها عادات وتقاليد موروثة من زمن الأجداد، تبدأ من الدين والطائفة اللذين يرثهما المرء دون أيّ اختيار أو تفكير إلى طبق الطعام ونوع اللباس وكيفيّة النظر والتعامل مع الآخرين.
ضمن هذه البيئة يولد أغلب الناس ويتعلمون منها وفي سياقها: المقدّس والمدّنس، الحلال والحرام، الصالح والطالح… ولأنّنا في بيئات لم تقاربها الحداثة الفكريّة بكلّ ما تعني من نقد يطال كلّ شيء، ونعني ذلك النقد الذي يصل حدّ “إعادة قلب كلّ القيم” وفق تعبير نيتشه، فإنّ أحد لم يختر دينه أو طائفته أو ثقافته أو عاداته بل ورثها وارتكن إلى صحة صوابها بعيدًا عن أيّ نقد يجلب غضب الجماعة ونفورها من المختلف.
ضمن هذا السياق، تتشكل سلطة اجتماعيّة دينيّة ثقافيّة، حرّاسها وسدنتها، هم رجل الدين وربّ العائلة وزعيم القبيلة ووجهاء القرية الذين يأخذون على عاتقهم أمر الحفاظ على العادات والتقاليد وحمايتها، لتوّلد هذه السلطات مع الزمن مكاسب اقتصاديّة ومعنويّة تدفع هؤلاء إلى التشدّد في تطبيق سلطتهم على المجتمع للحفاظ على سلطاتهم تلك، فالأب الذكوري يسمح له هذا الواقع بفرض سلطته على عائلته وأولاده كسلطة عائلية وسلطة اقتصاديّة، وأيّ خروج على هذا النظام من قبل النساء أو الأبناء يهدّد سلطته وامتياراته تلك. الأمر نفسه ينطبق على وجيه القرية أو زعيم القبيلة أو رجل الدين الذي تمنحه هذه الأوضاع سلطة معنويّة ومكاسب اقتصاديّة يصبح أيّ تغيير في أركانها مع الزمن مهدّدًا لمصالحه، فتتكاتف هذه السلطات مجتمعة لتخلق الفضاء الاجتماعي الثقافي اللامرئي الذي يعيش الأفراد داخل مجاله ويجدون أنفسهم أسرى له.
هذا هو الجانب المرئي من السلطة هذه، ولكنه لا يفسّر وحدة رضوخ الجميع لها، دون معرفة الجانب الثاني، اللا مرئي، من هذه السلطة، وهو الجانب الذي يشارك به باقي أبناء الطائفة أو القبيلة أو الأسرة حين يتمثلون تلك السلطة ويدافعون عنها ليشكلوا حدود هذا السجن الكبير الذي يأسر المرء داخله ويصبح من الصعب عليه تجاوزه.
هذا الأمر يتمثل على سبيل المثال، في الأم التي تتمثل سلطة الأب والمجتمع وتعيد إنتاجها داخل العائلة، فهي من جهة ضحيّة الأب ورجل الدين ووجيه القرية، ومن جهة أخرى، هي جلّادة في تعاملها مع عائلتها حين تتحوّل إلى حارسة لهذه السلطة خوفًا من قيم المجتمع وتعاليمه وخوفًا من كسر أبنائها لهذه القيم، لذلك تربي أولادها على الطاعة (وخصوصًا الإناث، لنكون أمام ضحيّة تنتج ضحيّة نزولًا عند رغبة سيّد أعلى)، وهكذا تُغلق الدائرة التي يرسم حدودها أصحاب السلطة المرئيّة ويحافظ عليها ويغذها ويساهم في ديمومتها أصحاب السلطة اللا مرئيّة، أيّ من هم ضحاياها. وإن حاول الضحايا التمرّد سيجدون أنفسهم في مواجهة حرّاس السلطة المرئيّة المعلومة وكذلك في مواجهة حرّاس السلطة المجتمعيّة اللا مرئيّة المُمثلة بالأب والأم والجار والأقارب والعائلة ومجتمع القبيلة. هكذا يصير المجتمع في مواجهة المجتمع، وهذا هو السبب الذي يدفع الأم والأب إلى معارضة قيام الأبناء بفعل مثل المساكنة، أو أن يجلب الشاب كلبًا إلى المنزل، لأنّ هذه الأفعال تهدّد “القيم” و”الأخلاق” المتعارف والمتفق عليها والمحروسة جيدًا بواقع من تلك السلطتين (المرئيّة واللا مرئيّة).
الملفت في الأمر هنا، أنّنا لو ذهبنا إلى الفكر أو الثقافة الكائنة خلف هذا الوعي والحارسة لهذا النوع من الأفكار ودققنا بما يقع تحت إطارها، سنجد وبسهولة أنّه لا يوجد أيّ ثقافة عميقة سوى الثقافة الشفويّة المنقولة بقوة التوارث، إذ تكفي أسئلة بسيطة توجّه لأفراد السلطة اللا مرئيّة وأفراد المجتمع الخاضع لتلك “القيم والتقاليد” ليدرك المرء أنّ لا منظومة فكريّة متماسكة متمثلة في أذهان هؤلاء الأفراد وتقف كنظام وعي مساند لما يدافعون عنه ويقدّسونه، فأسئلة بسيطة من نوع: “لم هي مقدسة؟ أين ورد نص مقدس حول هذه النقطة؟ من يملك حق تفسير النص بهذه الطريقة الوحيدة؟…” أسئلة كهذه تكفي لمعرفة أنّ هؤلاء لم يفكروا يومًا بما يعتبرونه بديهيات ومقدّسات ولم يختارونه بل توارثوه ورضخوا له خوفًا من رد فعل المجتمع ليس إلا.
هذا هو الأمر الذي يرضخ له في كثير من الأحيان، حتى الأفراد الذين تمرّدوا على هذه الدائرة وخرجوا من إطارها، إذ رغم إيمانهم على مستوى الوعي والفكر والتنظير بمدى تهافت هذه “القيم والتقاليد” إلا أنّهم يرضخون لها على مستوى الواقع المعاش، أو يطلبون من أبنائهم وبناتهم عيشها سرًا، دون أن يصل الأمر إلى حدود التمرّد المطلق، فكلنا عرفنا أو سمعنا أو صادفنا في حياتنا نخبًا ومثقفين وسياسيين يتحدثون في مقالاتهم وبياناتهم بشكل يومي عن العلمانيّة والديمقراطيّة والمساواة ولكنهم في لحظة ما يحجمون عن نقد طوائفهم أو السماح لأولادهم وبناتهم بالزواج من طوائف أخرى، رغم أنّهم قد يسمحون لهم عيش علاقات جنسيّة سريّة.
نحصل هنا على الكثير من التناقضات التي تولد إزاء هذا الوعي المركب عند بعض النخب والقطاعات السوريّة، نخب متحرّرة على مستوى الوعي والتنظير ولكنها عاجزة عند الممارسة خوفًا مما قد يقوله بقّال الحي أو الجار. يختلف هؤلاء عمن قبلهم، لأنّ سلوكهم هذا ناتج عن وعي ما فكّك وعرف مدى تخلّف المجتمعات والسلطات الحاكمة لها، لكنهم يبقون عاجزون عن مواجهتها، ولهذا ما إن توفرت لهم بيئة محيطة بعد هجرتهم نحو بلدان أخرى تعلي من قيم الديمقراطيّة والحريّة الفرديّة تحرّروا من تلك السلطة الاجتماعيّة التي ظلّت تثقل كاهلهم في “الوطن” وتدفعهم نحو عيش التمزّق الصعب بين أفكارهم وسلوكهم.
لكن الأمر مختلف كليًا، فيما يتعلق بالقسم الأكبر من أفراد المجتمع الذين كانوا في أوطانهم يشكلون السلطة اللا مرئيّة التي تحدثنا عنها أعلاه، لأنّ الوعي الكامن عند هؤلاء هو الوعي التقليدي إياه، ولهذا حين انتقلوا إلى مجتمعات أخرى في المهجر وجدوا أنفسهم متحرّرين من أسر السلطتين المرئيّة واللا مرئيّة، وهذا ما قد يفسر لنا حالات الطلاق الكثيرة وقبول الأم بأن يجلب ابنها الكلب إلى المنزل، فهي لم تعد تخاف من سلطة ما كانت تخافها حين رفضت وجود الكلب للمرة الأولى. وهنا يختلف حال هذه الأم عن أم أخرى تؤمن بأنّ وجود الكلب في المنزل نجاسة، فهذه الأخيرة لن تقبل بوجود الكلب في أيّ من منازلها سواء في الوطن أو المهجر، لأنّ خلف تصرفها هذا تكمن بنية معرفيّة متماسكة ترفض وجود الكلب، وهي حالة مختلفة عن حال الأم التي رفضت الكلب في الوطن، خوفًا من رد فعل المجتمع عليها لا غير، فحين تحرّرت من تلك السلطة، لم تعد تجد أيّ غضاضة في قبول الكلب في المنزل.
لكن هذا لا يعني نهائيًا تحرّر هؤلاء الأفراد من وعيهم الموروث تجاه هذه الأشياء، فهم يقبلونها هنا كما قبلوها حينما كانوا في الوطن دون سؤال ودون تمحيص أو نقد، وهذا يعني إن عاد هؤلاء إلى الوطن ذات يوم، قد يعودون ويتخلون مجددًا عمّا قبلوه في المنافي، لأنّهم قبلوه نزولًا عند سلطة مجتمع آخر يجبرهم أو يدفعهم على ذلك، وليس إيمانًا منهم بقيم هذا المجتمع، الأمر الذي يحتم علينا رفد هذه الممارسات الجديدة بالوعي الجديد وتفكيك الوعي السلبي الكامن خلف هذه الممارسات، حتى يتمكن هؤلاء من الدفاع عن خياراتهم الجديدة حال تغيّر الوسط المحيط مرة أخرى وكي تكون ممارساتهم نابعة عن خياراتهم الفرديّة لا بسبب ضغوط من المحيط.
حكاية ما انحكت