صفحات الحوار

حسام ميرو: الوضع المعيشي في الداخل السوري سيزداد تدهورًا ولا إمكانية لتنشيط الاقتصاد بلا حلّ سياسي

غسان ناصر

يستضيف مركز حرمون للدراسات المعاصرة، في هذه الفسحة الحوارية، الكاتب والمعارض السياسي حسام ميرو، رئيس “الحزب الدستوري السوري” (حدْس) الذي تأسس في تموز/ يوليو 2017 خارج سورية، وهو من التشكيلات السياسية التي انبثقت في سنوات الثورة السورية.

ضيفنا من مواليد مدينة دمشق عام 1971، ويقيم حاليًا في مدينة (جوخ) مقاطعة شمال الراين في ألمانيا. وهو من أوائل المؤيدين لثورة الحرية والكرامة التي اندلعت في منتصف آذار/ مارس 2011 ضدّ الحكم الاستبدادي الدكتاتوري الأسدي، وكان ما بين عامي 2012 و2015 المنسّق العام السابق لـ “ائتلاف القوى العلمانية الديمقراطية”. ويُعدّ ميرو من الكفاءات الصحفية السورية البارزة على مدار العقود الثلاثة الماضية، حيث عمل في عدد من المؤسسات الإعلامية العربية، وترأس تحرير صحف ومجلات سياسية وبحثية عربية.

نقف في هذا الحوار عند رؤى “الحزب الدستوري السوري” (حدْس) السياسية، إزاء أبرز القضايا الملحّة والشائكة في الملفّ السوري، خاصةً تلك المتعلقة بمسارات العملية السياسية التفاوضية بين النظام والمعارضة، ومرحلة الانتقال السياسي في سورية، وإحداث تغيير سياسي بالبلاد بعد أكثر من خمسين عامًا من الحكم الشمولي، يكون مبنيًا على طرح أساسي يتعلق بنهاية الجمهورية الثانية (1963-2011)، وضرورة بناء الجمهورية الثالثة، بما يقطع موضوعيًا مع الاستبداد بكل أشكاله…

هنا نص حوارنا معه:

بداية، نسأل عن ماهية “الحزب الدستوري السوري” (حدْس) ومكوّناته وثقله السياسي في الشارع السوري وفي أوساط المعارضة، وماذا عن رؤيته وأهدافه وطريقة طرحه للتغيير السياسي والحلّ في سورية؟

منذ أوائل عام 2012، بدا أنّ الثورة السورية ذاهبة نحو تحوّلات لا تخدم أهدافَها الأساسية، وخصوصًا مع ظهور عاملَين، كان واضحًا أنّهما مرشحان للاستمرار والتصعيد، وهما السلاح والطائفية، وأنّ الصراع سيذهب نحو ما يمكن تسميته بالعموم صراعًا بين النظام والإسلاميين، على اختلاف مسمّياتهم، وأنّ البدايات المدنية للحراك السوري سوف يتمّ طمسها وجعلها شيئًا من الماضي.

كانت هذه قراءة عددٍ لا بأس به من الناشطين السياسيين، الذين ذهبوا نحو تشكيل “ائتلاف القوى العلمانية الديمقراطية” في القاهرة، في كانون الثاني/ يناير 2012، وقد تمّ انتخابي في المؤتمر منسّقًا عامًا لهذا “الائتلاف” ورئيسًا لمكتبه السياسي، وكانت لدينا قراءة تقول بضرورة تثقيل الطرف العلماني المعارض، وضرورة أن يكون السلاح، والمقصود هنا سلاح “الجيش السوري الحر”، تحت إمرة قيادة سياسية، لها رؤية وطنية واضحة، وبرنامج سياسي. لم نكن آنذاك مقتنعين بقراءة طيف واسع للمعارضة السورية الذي تبنّى الوصفة الأطلسية لليبيا، لمعرفتنا بتعقيدات الوضع الجيوسياسي السوري، وبتعقيدات الوضع السوري والأوراق التي يمكن لنظام بشار الأسد أن يلعب بها.

استنفد “الائتلاف” العلماني دوره خلال ثلاث سنوات، ودعا مع أطراف أخرى قريبة منه لحوارات وملتقيات ومؤتمرات وشارك فيها، لكنّ تحوّلات الوضع السوري كانت أقوى بكثير، ومع انفراط عقد “ائتلاف القوى العلمانية الديمقراطية”، حدثت نقاشات عديدة، ممن كانوا مطلعين على “الائتلاف” العلماني، أو قريبين منه، وتناولت النقاشات ضرورة تقديم مبادرة سياسية، ثمّ تطوّرت النقاشات إلى ضرورة أن يأخذ شكل العمل الطابعَ السياسي، وتحديدًا الطابع الحزبي، ونتج عن تلك النقاشات التي دارت على مدى عام كامل، امتدت بين أواسط عام 2016 وأواسط عام 2017، تأسيس حزب سياسي، وهو ما بات يُعرف باسم “الحزب الدستوري السوري” (حدْس)، وتبلورت خلال النقاشات خمسة مبادىء أساسية، أصبحت هي المبادئ الرئيسة للحزب، وهي: العلمانية، والديمقراطية، والمواطنة، والتنمية، والسلام.

رؤيتنا للتغيير السياسي مبنيّة على طرح أساسي يتعلق بنهاية الجمهورية الثانية (1963-2011)، وضرورة بناء الجمهورية الثالثة، بما يقطع موضوعيًا مع الاستبداد بأشكاله كافة، وهو ما يحتاج إلى روافع وطنية، ونحن نعتقد أنّ الطريق في هذا المسار سيكون تاريخيًا، والأهم هو بلورة كتلة حرجة، تكون قاطرة التغيير. 

روسيا لاعب أساسي في الصراع وإيران تشكّل عقدة

ما البرامج التي يطرحها “الحزب الدستوري السوري” (حدْس) في الداخل السوري؟ وهل لديكم خطة للنهوض الاقتصادي والمعيشي في سورية، بعد التدهور غير المسبوق لأوضاع السوريين عامّة؟

موضوعيًا، نحن نعتقد أنّ الوضع الراهن سيزداد تدهورًا، إذ إنّ منافذ الريع أُغلقت في وجه النظام، وليس هناك أي إمكانية لتنشيط الاقتصاد من دون مقدّمات حلّ سياسي، وإن تنشيط الاقتصاد السوري -من وجهة نظرنا- هو مسألة تدخل في باب “اليوم التالي”، أي عند انطلاقة حلّ سياسي ما، وهنا نتكلم عن التفكير في اقتصاد الجمهورية الثالثة، ولدينا في الحزب تصوّرات نعتقد أنّها ستكون فاعلة، لو وُضعت في التطبيق، ويمكن القول إننا نمتلك خارطة طريق أولية، تربط بين الأبعاد الاجتماعية المختلفة للاقتصاد. نحن نسأل في (حدْس)، على سبيل المثال لا الحصر: أين يجب أن يكون المصنع في سورية؟ وما النظام الضريبي الأفضل؟ وكيف يمكن أن نعقلن برامج التمويل لتأخذ بالحسبان مسائل العدالة المكانية؟ ومن المعروف أنّ جزءًا كبيرًا من برامج التمويل والمنح بعد الحروب تذهب إلى الكلف التشغيلية، وقسم كبير يتمّ هدره عبر شبكات الزبائنية والفساد، وهذان الأمران يشغلان تفكيرنا داخل الحزب.

إلى جانب الوضع الإنساني المزري الذي يعيشه السوريون أنفسهم، تواجه دول الجوار، مثل الأردن والعراق ولبنان وتركيا، تحدّيات كبيرة مع اللاجئين، كيف تقترحون في (حدْس) أن يساعد المجتمع الدولي في هذه المسألة؟

في بعض النقاشات غير الرسمية، مع جهات منخرطة في الصراع السوري، طرحنا مسألة عودة اللاجئين، وقلنا إنّها ضمن الظروف الراهنة غير ممكنة، وستبقى قضية اللاجئين ورقة استثمار سياسي على أكثر من صعيد، بالنسبة إلى دول الجوار، ولا يمكن حلّها إلّا في إطار الحلّ السياسي، وخلق ما يمكن تسميته بالنموذج، أي برنامج واضح للعودة، يتضمن المسائل الأساسية، من تحديد أماكن العودة، وتأمين شروط الحياة والخدمات والأمن، ووجود إمكانات مالية موضوعة بناءً على دراسات سابقة، يشارك السوريون بشكل أساسي في وضعها.

كيف هي علاقات الحزب مع أطياف وقوى المعارضة السورية، بخاصّة “الائتلاف الوطني لقوى المعارضة السورية”؟

لا علاقة مباشرة رسمية مع “الائتلاف الوطني”، ونحن نعدّه جزءًا من النادي الرسمي للمعارضة، ويقع على عاتق هذه التجربة كثيرٌ من أسباب الفشل الذي آلت إليه أوضاع المعارضة السورية، لكن لنا صلات شخصية مع أفراد منه، وإنّ علاقتنا مع أطياف المعارضة جيدة، والمقصود هنا الأحزاب والقوى والشخصيات المعارضة الديمقراطية، وقد استضفنا بعض القياديين والقياديات في حوارات “المنتدى الدستوري السوري”، وهو منتدى حواري أسّسه الحزب، ويتمّ تنسيق أعماله بالتشارور مع شخصيات من خارج الحزب، وبعضها موجود في أحزاب سورية أخرى.

إن أوضاع المعارضة الديمقراطية حاليًا تحتاج إلى مراجعات فكرية وسياسية، فثمّة اختلاف نوعي بين شروط عملها ونضالها قبل 2011 وما بعده. اليوم، لدينا حالة الشتات السوري، حيث إنّ كثيرًا من المعارضين موجودون في خارج سورية، وهذا وضع معقد، إذ إنّها المرّة الأولى التي تكون الكتلة الأكبر من شخصيات المعارضة خارج سورية، وقد يعطيها هذا الوضع حرية في الحركة والتواصل، لكنّه يفقدها الأرض والجمهور وإمكانية التأثير المباشر، ولذلك فنحن في (حدْس)نعمل ونصرّ على وجود حدّ أدنى من التواصل بين القوى المعارضة، ومن التنسيق والتشاور.

سورية بلد تحتلّه بضع قوى أجنبية لديها مصالح متضاربة، كيف تواجهون في حزبكم هذه المعضلة؟ وكيف ترون العلاقات السورية الروسية، إذا رحل بشار الأسد عن السلطة؟

خروج القوى المحتلّة لسورية مسألة متعدّدة الأوجه، إذ إنّ رحيل هذه القوات مرهون بأن تستنفد هذه القوى ضرورات بقائها، وأن يكون هناك شكل من أشكال التوافق بينها على ضمان مصالحها المستقبلية. إيران وحدها تشكّل عقدة بهذا الخصوص، إذ توجد رغبة إقليمية في إخراجها، لكنّ موازين القوى الحالية ما تزال معاكسة لهذه الرغبة. روسيا اليوم لاعب أساسي في الصراع السوري، والصراع على سورية، ولن يكون بالإمكان، أقلّه في المدى المنظور، تخيّل نظام حكم في سورية ليس لديه علاقات مع روسيا، لكنّ طبيعة هذه العلاقة ستكون محدّدة بتطوّر المسار السياسي الداخلي.

حسام ميرو مع الخبير الاقتصادي السوري الدكتور عارف دليلة (من الأرشيف 2016)

كيانات المعارضة الرسمية تؤدّي أدوارًا وظيفية

في الانتقال إلى الحديث عن الوضع السياسي السوري الراهن، نسألكم: كيف تقرؤون واقع المشهد اليوم، سياسيًا وعسكريًا، مع تعثر المسارات السياسية المتعدّدة (جنيف، آستانة، وسوتشي)، والتصعيد العسكري الأسدي – الإيراني – الروسي، في درعا جنوبًا، وفي إدلب شمال غرب سورية؟ ما الذي يُقلقكم؟ وهل من أمل لديكم بانفراج قريب؟

الواقع السوري اليوم مقسّم بين سلطات أمر واقع، والنظام هو إحدى هذه السلطات، وليس من الواضح بعد إمكانية حدوث انفراج قريب، أو تغيير سريع لموازين القوى، هذا ضمن المعطيات الراهنة، لكن تبقى هناك بعض الأسئلة المهمة، ومنها: ماذا لو قرر الرئيس الأميركي حون بايدن سحب قوات بلاده من شمال شرق سورية، وتراجع أو توقف الدعم الأميركي لتجربة “مجلس سوريا الديمقراطية” (مسد)؟

في الجنوب السوري، هناك اعتبارات إسرائيلية تأخذها روسيا بالحسبان، نظرًا لوجود تفاهمات بين روسيا و”إسرائيل” على أن تكون القوات الإيرانية، وما يتبع لها، بعيدة عن حدود “إسرائيل” بين 30 و50 كيلومترًا، ولإيران كذلك مصلحة بالضغط، وإحراج الروس، إذ إنّ الإمكانات الروسية محصورة في جزء كبير منها في إطار القوى الجوية، لكنّ قدرات إيران على الأرض أقوى وأكثر تأثيرًا. ما يقلقنا هو استنقاع الوضع الراهن، حيث إنّ استمرار الأوضاع على ما هي عليه، إضافة إلى مفاعيل السنوات الماضية، يطرح مسألة الشرخ الاجتماعي كمسألة حادة، ويجعل من مصطلح “وحدة سورية” مجرّد شعار سياسي لا يعبّر عن أي مضمون واقعي.

تُتهم قوى المعارضة السورية بالتفريط بمبادئ الثورة والخضوع لضغوط الدول، لأنّها تخلّت عن المطالبة بعملية الانتقال السياسي لصالح ما يطلق عليه كثيرون “لعبة ديمستورا” من خلال خطة السلال الأربعة، ماذا تقولون عن ذلك؟

إذا كان المقصود بـ“قوى المعارضة السورية” القوى المنضوية في “الائتلاف الوطني”؛ فنحن نعتقد بأنّ رؤيتها للتغيير كانت قاصرة من جوانب عديدة، وأنّ فهمها لموازين القوى كان رغبويًا، وهي بالفعل أصبحت -بهذه الطريقة أو تلك- خاضعة موضوعيًا لبعض الدول الإقليمية، وبالتالي فإنّ الأمر لا يتوقف على قبول “سلال ديمستورا”، بل المسألة تتعلق بمسار شامل. على سبيل المثال، لم تأخذ هذه القوى موقفًا واضحًا من القوى المسلحة المتطرفة والراديكالية على الساحة السورية، فكيف يمكن فعليًا القول بأنّ قوى معارضة سياسية، ليس لديها موقف واضح من هذه القوى المسلحة الراديكالية، يمكن أن تكون مخلصة لمبادىء الثورة؟

تحدّث معارضون سوريون، في الآونة الأخيرة، عن إطلاق عريضة لتطبيق قرار مجلس الأمن رقم 2254، وفرض سلطة انتقالية تقوم بالمهام التي حدّدها القرار. وتضمنت العريضة مطالبات بوقف مسار التفاوض الذي يرعاه المبعوث الأممي الخاصّ إلى سورية السيد غير بيدرسون، وإسقاط الهيئات التمثيلية للشعب السوري، بدءًا بالنظام السوري ومرورًا بـ “الائتلاف الوطني” و“الهيئة العليا للمفاوضات” و“اللجنة الدستورية” وكلّ المنصّات. ما وجهة نظركم في (حدْس) تجاه هذه الدعوة؟ وما الذي تقترحونه كإضافة أو كبديل؟

خلال السنوات الماضية، تمّ توقيع العديد من العرائض المتعلقة بقضايا مختلفة في الإطار السوري، لكن ما من نتائج تحقّقت من جراء رفع تلك العرائض، خصوصًا أنّ العرائض عادة تُوقّع وتُرفع لجهة ما، وتلك الجهة في الحالة السورية هي الأمم المتّحدة. إن الأمم المتّحدة -كما هو معروف- منصّة لإدارة الصراعات بين الدول الكبرى، ولقد رأينا كيف وقف الفيتو المزدوج الروسي/ الصيني في وجه اتخاذ قرارات عديدة بشأن الحالة السورية، ومنها حالات تتعلق بالمدنيين، الذين من المفترض أنّ القرارات الدولية تضعهم خارج الصراع. أما إذا كانت العرائض تخصّ الحشد في الحالة السورية، من أجل تحقيق هدف سياسي، من مثل إسقاط “الائتلاف الوطني”، فهذا الأمر يمكن له أن يكون وازنًا ومؤثرًا، في حال امتلك ثقلًا شعبيًا، وفي الحالة السورية المتردية، أصبح من الصعب، إذا لم نقل من المستحيل، تحقيق وزن شعبي كبير. والحالة الثانية أن يكون لدى بعض الدول برامج معينة من أجل حلّ هذه الهيئة أو تلك، لكنّ هذا الأمر يتعلق بالدرجة الأولى بمصالح الدول نفسها، ولن يشكّل فيها السوريون أيّ وزن، بل سيتمّ التعامل معهم ضمن شروط محدّدة مسبقًا.

نحن في “الحزب الدستوري السوري” نركّز على ضرورة تثقيل القوى السياسية العلمانية والديمقراطية، ومنذ تأسيس حزبنا، لم يكن لدينا فعليًا أي تعويل على الكيانات الرسمية، ونحن نرى أنّها أصبحت تؤدّي أدوارًا وظيفية، نتيجة ضعفها وترهلها وتبعيتها. القرار 2254 وضع نصًّا غامضًا مفتوحًا على تأويلات عديدة، وهو قرار غير ملزم، وإذا ما راجعنا تاريخ قرارات الأمم المتّحدة غير الملزمة، بخصوص قضايا عديدة، فسنجد أنّ الغالبية العظمى منها لم تُنفّذ، بل إنّها وُضعت كي لا تنفّذ.

كيف تنظرون إلى جهود المبعوث الأممي الخاصّ إلى سورية، السيد غير بيدرسون، منذ توليه منصبه خلفًا للسيد ستيفان ديمستورا حتى يومنا هذا؟ هل كان بإمكانه فعل أكثر مما فعل؟

لقد نشرنا موقفنا الرسمي من عمل “اللجنة الدستورية”، واعتبرناها مجرّد تمرير للوقت، وهو الأمر الذي تكرّر منذ سلفه ستيفان ديمستورا، إذ لا توجد موازين قوى تفرض عملية التسوية السياسية، بل إن ما يسمى “المسار السياسي”، ومن ضمنه عمل “اللجنة الدستورية”، يتمّ استثماره من قبل النظام السوري، في الوقت الذي لا توجد فيه إرادات دولية معاكسة لإرادات النظام وحلفائه.

لا يتعلق أمر وصول عمل “اللجنة الدستورية” بشخص المبعوث الأممي وجهوده، فهو موظف أممي من الدرجة العليا، لكنّه لا يمتلك أوراق ضغط حقيقية على النظام، وهو يمثّل مؤسّسة أممية تدرك أنّ مقومات الحلّ السياسي تكمن في مكان آخر غير “اللجنة الدستورية”، وأنّ قرار التسوية والتسريع بها يحتاج إلى توافق إرادات دولية، في مقدّمتها التوافق الروسي الأميركي، وهو توافق لم يكن موجودًا، وليس موجودًا حتى اللحظة. كنّا نتمنى ألّا يشارك سوريون معارضون محسوبون على الخط الديمقراطي في أعمال “اللجنة الدستورية”، ولم يكن الأمر يحتاج إلى كثير من التحليل لاكتشاف أنّ طريقها مسدود.

النظام يعتقد أنّه لمجرّد تحقيقه انتصارات عسكرية فهو غير معني بأي مسار جدّي، لا سياسي ولا دستوري، وسيناور، وقد بدأ فعلًا بالمناورة، من أجل الاستحواذ على الحصة الأكبر من المساعدات الأممية، ليتمكّن من خلالها من التماسك اقتصاديًا، والاستمرار في تقديم بعض الخدمات الأساسية، وتجميل صورته.

ضرورة إعادة بناء مفهوم الأمة السورية

هل تعلّقون في المعارضة السورية بشكل عامّ، وفي (حدْس) على وجه الخصوص، أيّ آمال على التعاون مع روسيا لحلّ القضية السورية؟ وهل ترون إيران جزءًا من الحلّ المنتظر أم أنّها مشكلة؟

العلاقة مع روسيا بالنسبة إلينا تنطلق من فهم واقعي، يقول بأنّها اللاعب الأكثر تأثيرًا نسبيًا في الوضع السوري، ومن غير الممكن أن نتصوّر موضوعيًا وجود حلّ من دون أن تشارك فيه، لكنّ هذا لا يعني بالنسبة إلينا قبول ما يقدّمه الروس من حلول، وقد شاورَنا الروس من أجل حضور “مؤتمر سوتشي” في كانون الثاني/ يناير 2018 ، وقلنا إننا مع الحلّ السياسي، وهو الأفضل بالنسبة إلى سورية ومستقبلها، لكنّ عقد مؤتمر كهذا يحتاج إلى مقدّمات سياسية وعملية لا بدّ من توفرها، وإننا لا نرى معطيات الحدّ الأدنى، ولذلك لم نشارك في المؤتمر حينذاك.

بالنسبة إلى إيران، هي دولة من دول الإقليم، وترتيب منظومة الأمن والسلام في المنطقة لا يمكن أن يتجاوزها، لكنّ المشكلة تكمن في إستراتيجية إيران، تجاه سورية وتجاه كامل المنطقة، وقد بنت منذ الاحتلال الأميركي للعراق في 2003 إمكانات كبيرة للتكيّف مع تفكك الدول في المنطقة، وضمن هذا التصوّر، لا تطرح إيران نفسها جزءًا من الحلّ، بل تريد توسيع نطاق هيمنتها ونفوذها، وهذا موضوعيًا غير ممكن، ولن يؤدّي إلى إعادة بناء الدول في المشرق العربي، بل إلى زيادة في حدّة المواجهات الإقليمية.

ما قراءتكم في (حدْس) لسياسات إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن في سورية، في الأشهر الثمانية الماضية؟

الرئيس بايدن هو استمرار لرؤية الديمقراطيين تجاه قضايا الأمن القومي الأميركي، ونحن ندرك سلفًا أنّه ليس في وارد إحداث فارق نوعي في سياسات بلاده تجاه سورية، وهناك أولوية إستراتيجية عند واشنطن، تتمثّل في التنافس والصراع الإستراتيجي مع الصين، وهذه أولوية عند إدارة الرئيس بايدن، ومجمل تحركاته منذ تولى منصبه انصبّت في هذا الاتجاه.

قرار الرئيس بايدن الانسحاب من أفغانستان هو أيضًا في سياق تركيز الجهود في ملفّ المواجهة مع الصين، ولن يكون مستغربًا أن يقرّر سحب قواته من شمال شرق سورية، وهو الأمر الذي سيعيد خلط الأوراق، في منطقة الجزيرة السورية، وفي الساحة السورية كاملة.

ما الحلّ الأمثل للقضية الكردية في سورية من منظوركم في “الحزب الدستوري السوري”؟ وما موقفكم من انفراد “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) بتقرير مصير ومستقبل الجزيرة السورية، من خلال اقتسام السلطة والثروات بين أحزاب كردية مختلفة، ووضع مبادئ دائمة لعملية صنع القرار، تستثني بقية مكوّنات الشعب السوري؟

نعتقد بأنّ من الضروري إعادة بناء مفهوم الأمة السورية على أساس المواطنة المتساوية، ما يعني عدم وجود تمييز سلبي أو إيجابي لأكثرية أو أقلية، وهو ما يسهم في حلّ ما يمكن تسميته بقضايا الأقليات الإثنية. من جهتنا، نعتقد أنّ تقسيم القضية السورية إلى قضايا إثنيات ليس مفيدًا، ومن الأفضل التركيز على ضرورات الاندماج الاجتماعي، ولا نعني هنا الاندماج القومي، بل الاندماج على أسس المواطنة، من دون تمييز على أساس قومي أو ديني أو طائفي أو مناطقي.

إن التوتر الموجود بين “مجلس سوريا الديمقراطية” (مسد) وكثير من قوى المعارضة الأخرى ليس داخليًا صرفًا، إذ إنّ علاقات “الائتلاف الوطني” الإقليمية تجعل مواقفه تجاه (مسد) متشنجة. وفي إطار سلطات الأمر الواقع، علينا أن ننظر بعين النسبية بين منطقة وأخرى، في منطقة الجزيرة السورية هناك أوضاع أفضل نسبيًا من أماكن أخرى في سورية، من دون أن يعني ذلك أنّها تجربة مثالية، بل وقعت هذه التجربة في أخطاء عديدة، وهذا ما يقرّ به عدد من الشخصيات المنتمية إلى (مسد) نفسها.

تحدّثت الدول الغربية في الآونة الأخيرة، عن مساءلة ومحاسبة كلّ أطراف الصراع في سورية عن جميع انتهاكات القانون الإنساني الدولي والقانون الدولي لحقوق الإنسان، وكما تعلمون فإنّ المساءلة تكتسب أهمية قصوى، كشرط قانوني وكعنصر أساسي في تحقيق السلام المستدام والمصالحة الحقيقية في سورية. ما رؤيتكم في (حدْس) لمسألة مساءلة ومحاسبة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في الجغرافيا السورية الممزقة؟ وما دوركم في توثيق الجرائم المرتكبة في كامل سورية، في ظلّ الوجود العسكري الروسي والإيراني والأميركي والتركي؟

في هذا الأمر، نعتقد أنّ من الضروري مراجعة وقراءة التجارب التي تشبه إلى هذا الحدّ أو ذاك الحالة السورية، وسنجد أنّ المحاسبة على الجرائم والانتهاكات كانت قليلة عمومًا، وفي كثير منها كان المقصود منها البعد الرمزي، للقطع مع الماضي. إن مسألة التوثيق مسألة مهمّة بلا أدنى شكّ، المحاكمات وآليّات المحاسبة وما يتّصل بها لن تكون واضحة قبل معرفة شكل الحلّ السياسي، فهو سيحدد إلى درجة كبيرة مسائل المحاسبة، ومن الناحية الموضوعية، فإنّ محاكمة كلّ مرتكبي الانتهاكات قد لا تكون واردة، لعدد من الاعتبارات، من بينها صعوبة محاكمة الجميع، خصوصًا إذا كنّا نتحدّث عن جميع الأطراف. من الناحية القانونية، لدينا رفاق في الحزب ما زالوا يعملون على ملفّ الانتهاكات، وهم أيضًا أعضاء في جمعيات مجتمع مدني متخصّصة بهذا المجال، ونعتقد أنّ مستقبل سورية مرهون بترسيخ مبادئ حقوق الإنسان، تحقيقًا لمبدأ حفظ الكرامة الإنسانية.

ليس من مصلحة روسيا دخول الصين على خط إعادة الإعمار

هل تتوقّعون انفتاحًا كبيرًا في النظام الرسمي العربي على التطبيع مع نظام الأسد؟ وما السبل لمنع حدوث ذلك، أو على الأقل للحدّ منه بالحدود الدنيا؟

في حال كان النظام السوري معنيًا بحدوث انفتاح عربي عليه، فذلك لأنّه يحتاج، إضافة إلى مسألة تعويم شرعيته، إلى الحصول على أموال نقدية، ضمن خطط لإعادة الإعمار، لكن قرار الانفتاح، من الناحية الواقعية، هو قرار يتمّ بالتنسيق بين دول عربية معينة وواشنطن والاتحاد الأوروبي، وليست هناك إشارات -حتى الآن- على خطوات قوية نحو تطبيع العلاقات العربية مع النظام السوري، خصوصًا أن أحد أهمّ الشروط، بل في مقدّمتها، الحدّ من النفوذ الإيراني في سورية، وهو أمر غير ممكن الحدوث ضمن المعطيات الراهنة.

برأيكم، هل يمكن أن يُقدِم الاتحاد الأوروبي على التطبيع مع دمشق في الوقت الراهن، بخاصّة بعد إرسال جمهورية صربيا سفيرًا جديدًا لها إلى سورية؟

موقف الدول الرئيسية في الاتحاد الأوروبي، أي ألمانيا وفرنسا، وخصوصًا ألمانيا، واضحٌ في هذا الموضوع، فكلّ التصريحات تؤكّد استمرار مقاطعة النظام السوري، وليست هناك شهيّة للتقدّم بخطوات تطبيعية، ولا يمكن أن يلبّي النظام دفتر الشروط الأوروبي.

هل من الممكن البدء بإعادة إعمار سورية، في ظلّ عدم تحقيق إنجاز سياسي؟ وهل يمكن لإيران وروسيا والصين القيام بذلك، من دون المجتمع الدولي وبقية الأطراف؟

روسيا وإيران بينهما حالة تنافس بمقدار ما بينهما من توافق وتعاون في الملفّ السوري، وروسيا على وجه الخصوص تريد أن يكون لها النصيب الأكبر من ملفّ إعادة الإعمار، فهي لن تضخ الأموال، بل تنتظر أن يضخ الآخرون أموالهم، وهذا مرهون، كما أشرنا سابقًا، بحدوث حلّ سياسي. وليس من مصلحة روسيا أن تدخل الصين على خط إعادة الإعمار، لأنّ هذا سيعني أنّ كلّ الجهود الروسية ذهبت في مهبّ الريح. إن ملفّ إعادة الإعمار مرهون بتوافق دولي على شكل الحلّ في سورية، وليس بإمكان روسيا وإيران البدء بأي خطوة جدّية، من دون حدوث توافق دولي، ومن دون وجود تعهدات أممية أو أوروبية أو خليجية بضخ الأموال.

لا يخفى على أحد أنّ الخلافات الدينية والطائفية والمذهبية أسهمت في تفكيك جسم الثورة وشتتت هدفها الأساسي ألا وهو إسقاط نظام الأسد. سؤالنا ما الأولويات حاليًا لرأب التصدّعات في المجتمع السوري لبناء سورية المستقبل؟

لا نعتقد في (حدْس) أنّ هدف الثورة الأساسي هو إسقاط نظام الأسد فحسب، بل بناء دولة ديمقراطية تعددية حديثة، وهي بالضرورة الدولة التي تتجاوز وتعلو فوق الانتماءات ما قبل الدولة الوطنية. رأب الصّدع بين السوريين مرهون بظروف موضوعية عديدة، إذ لا يمكن رأب الصّدع ما لم تكن الدولة القادمة دولة علمانية ديمقراطية محايدة تجاه جميع مكوّناتها، وإن نهوض الاقتصاد السوري، وبناء تنمية متوازنة، واعتماد اقتصاد حقيقي غير ريعي، من شأنه أن يدفع السوريين نحو عملية اندماج اجتماعي حقيقية.

كلمة أخيرة تقولها لأبناء وبنات سورية في الداخل السوري والشتات والمنافي البعيدة؟

نحن في “الحزب الدستوري السوري” ندعو جيل الشباب خاصّة إلى الانخراط في العمل السياسي، إذ لا يمكن فعليًا بناء سورية المستقبل من دون روافع سياسية، فالعمل السياسي -من وجهة نظرنا- هو من أرقى أعمال التنظيم الاجتماعي، وإدارة المصالح المتنوّعة.

السوريون في الشتات لديهم أزمات عديدة، وبعضهم يعاني صدمات ما بعد الحرب، بالإضافة إلى عقبات الاندماج، لكنّ نجاحاتهم الفردية وما يحقّقونه من إمكانات ستكون مستقبلًا -بشكل أو بآخر- رافدًا مهمًّا لبناء سورية. أما كلمتي الخاصّة فهي أن ما مرّت به بلادنا خلال العقد الماضي هو تجربة مؤلمة في كلّ مستوياتها، لكنّ القادر على منح هذه التجربة معنى متميّزًا وفريدًا هم السوريون، هم وحدهم القادرون على جعلها معبرًا تجاه أفق جديد، وبناء سورية مختلفة عن ماضيها المحكوم بالاستبداد وعدم العدالة، لكنّ هذا يحتاج إلى فكر وتنظيم وعمل وحوار والتعوّد على الاختلاف، وتكوين ثقافة حديثة، تحترم حقوق الإنسان، بل تنهض على تلك الحقوق، وهذه مهمّة يومية مستمرّة.

مركز حرمون

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى