أبحاثصفحات الشأن السوري

خرسُ الشارع السوري .. خيبةُ العائدين إلى القوقعة/ عبير نصر

للثورة السورية معطياتها الخاصة لفهم أسباب عدم كونها انتفاضةً عفويةً ضد حكمٍ تسلطي راسخ وقويّ، بقدر ما كانت، وبالآلية المرسومة لها، استحقاقاً تاريخياً لتحرير الصوت السوري من قمقم الجمود الذي ينطوي على شتّى أشكال الامتثال الزائفة، وإنعاش دور الشارع الباهت والمعلّب، بعدما سيطرت عليه حالةُ يأسٍ مزمنٍ تبدّلت على أثره السياسات والأولويات، فالشعب السوري الذي عاش داخل خليطٍ شاذّ قابل للتفجر في أيّ لحظة، من التعصّب الديني والانحطاط السياسي والفكري والتمزّق الاجتماعي، تشرّب قسراً، وعلى مدى عقود، ثقافةَ التلقين كأيديولوجية تلغي النقاش والندّية، بغرضِ بناء حياةٍ مقطوعة الصلة حتّى عمّا يحدث في الداخل. وليس أدلّ على هذا سوى أن معظم السوريين غير مطّلعين على دستور البلاد، ولا على حيثيات قانون الطوارئ “الخطير”، ولا يعرفون إلا أسماء عدد محدود من الوزراء وأعضاء مجلس الشعب. ثمّة فرضيةٌ تقول إنّ غيابَ صوت الشارع وإصابته بالشلل العام يعني غياب الآليات السلمية للماكينة السياسية الديمقراطية.

وكمقاربةٍ أولية لاستدلالٍ أكثر عمقاً دعونا نسرد التالي: “في عام 1936، غدت سورية مشلولةً تماماً تحت وطأة إضرابٍ عام بدأ عند إغلاق مكتب الكتلة الوطنية، فاجتمع طلابٌ وقادة كتلويون وعلماء دين لصوغ مطالبهم، وأبرزها إصدار عفوٍ شاملٍ عن مئات المعتقلين، وإلغاء قرارات طرد طلابٍ شاركوا في الاحتجاج، والأهم إعادة فتح مكتب الكتلة الوطنية. وحين رفض الفرنسيون المطالب آنفة الذكر، اندلعت مظاهراتٌ شاملة، وصلت حتّى دير الزور، ما أخضع “فرنسا العظمى” لاحقاً، وكان أكبر انتصارٍ حققته الكتلة الوطنية، مكّن قادتها من الاستئثار بحركة الاستقلال السورية، والعودة إلى سياسة العمل المشرّف، لكن من موقع أقوى وأصلب”.

بالتأكيد، ليست هذه الأحداث مشاهد سينمائية مستوحاة من فيلمٍ ساحرٍ يجيّش المشاعر الوطنية. نعم حدث هذا في سورية في زمنٍ كان الشارع فيه يخفّف من حدّة الادعاءات الذاتية، لأنه لا يعطي أيّ حزبٍ أو تيارٍ أو فردٍ حقّ التبجح بدورٍ استثنائي، يمكّنه من سلب الآخر حقّ الوجود والمشاركة، كما كان معنياً بتحديد آلياتِ اللعبة السياسية وتوزيع السلطة وصناعة القرار، كذلك هندسة الاختلاف في الرؤى والتصوّرات ليصار إلى تطويرها وتصويبها.

واذا ما عدنا إلى التاريخ مجدّداً، وحاولنا استقراءه والغوص في خباياه، نجد أنّ الشارعَ السوري مثّلَ المرجعية الأساسية في صناعة القرار السياسي، وفي الفصل في قضايا حسّاسة ومصيرية كثيرة. ولسنا نبالغ إذ نقول إنّ صوتَ السوريين كان قادراً على إسقاط حكوماتٍ وإعلاء شأن أخرى، فعلى سبيل المثال، أدّت المظاهرات السورية التي اندلعت عام 1948، عقب إعلان قيام دولة إسرائيل، إلى “هزّةٍ عنيفةٍ” في بنية النظام السياسي السوري، فرضت حالة الطوارئ، ثم استقالة الحكومة، كذلك شكلت الأساس الأول لانقلاب حسني الزعيم وخلع شكري القوتلي عام 1949. وأيضاً في خمسينيات القرن الماضي، وعندما كانت المشاعر الشعبية تناهض بشدة اشتعال الحرب الفرنسية ضد المقاومة الجزائرية، عمدت الحكومة السورية إلى رفع الحظر الذي فرضته الحكومة السابقة عن تصدير القمح إلى فرنسا. إثر هذا القرار، ثار السوريون، فسقطت الحكومة وتأسست حكومة ائتلافية جديدة عام 1956. في العام ذاته، وعندما كان جمال عبد الناصر يخوض معركةً سياسيةً ضد النفوذ البريطاني في مصر، أعلن تأميم قناة السويس، وسط تهديداتٍ دوليةٍ أشعلت المشاعر بين السوريين الذين انضمّوا بأعدادٍ كبيرةٍ إلى قوى “المقاومة الشعبية”، وأُعلن إضرابٌ عام لدعم مصر.

تحت هذا الضغط الشعبي، قطعت سورية علاقاتها مع فرنسا وبريطانيا، ورفضت عروضهما لبناء مصفاة نفط ومطار دولي جديد في دمشق. وباستحضار ما خفِيَ من أسباب الاختناق السوري للواجهة، سنكتشف، على الفور، أنّ التواتر الذي صعدت فيه الحكومات وسقطت، والانقلابات العسكرية المتتالية، والحملات الانتخابية المكثّفة للبرلمان، وانتشار الإضرابات والاحتجاجات، اجتمعت معاً لصرف النظر عن التغيرات الأعمق والأكثر خطورةً التي كانت تعيشها سورية آنذاك، والتي شكّلت حجر الأساس، لتمكين “البعث” من بناء نظامٍ استبدادي متجذّر، مفطومٍ على التكيّف على المدى الطويل، لم يتوانَ عن قصّ اليد الطولى للشعب السوري العنيد الذي كان يدير عتلة التطور السياسي بثقةٍ منقطعة النظير.

وبالمشروعية التي استحقها بجدارة، كان الشعبُ السوري في طريقه الطبيعي لبناء دولة العدالة والديمقراطية، مفضّلاً اتخاذ خطواتٍ بطيئةٍ ومدروسة، انتقائيةٍ بعيدةٍ عن المغامرة، لولا أنّ النظام الحالي، ومنذ البداية، رتّب علاقته بالشارع، ليكون متفرّجاً مباركاً لسياساته. لذا كانت خطته مدمّرة وقصيرة النظر. وعليه، طفت على السطح تناقضاتٌ صارخة جرّتِ البلاد إلى الانتحار الذاتي، جرّاء نشوء مجتمعٍ منهك ومستهلَك، مبني على النفاق والإذعان. ومن رحم هذا الواقع البائس الذي جعل السوريين عبيداً لحاكمٍ مستبدّ استقلّ برأيه غروراً واستعلاء، بدأت مخاضاتُ ثورةٍ متوقعة بطبيعة الحال في 17 فبراير/ شباط 2011، حين أغلق سوق الحريقة في دمشق، وتجمهر التجار والأهالي في المناطق المحيطة بعد إهانة رجلِ أمنٍ ابن أحد التجار، فصرخوا ملء الصوت “الشعب السوري ما بينذلّ”. بعدها اعتصم عشراتُ السوريين أمام السفارة الليبية تضامناً مع الثورة الليبية، وأطلقوا للمرّة الأولى الهتاف الشهير “خاين إللي بيقتل شعبه”. وفي 18 مارس/ آذار، كانت الانتفاضةُ الحقيقية للشارع السوري الذي قدّم مثالاً فاقعاً على الانحدار الأخلاقي الكبير في الساحة السياسية التي وصلت إليها البلاد اليوم، بعدما أثبت أنّ السلطة بنيةٌ مغلقةٌ عصيّة على التغيير، لا تتوانى عن المتاجرة بمعاناة شعبٍ بأكمله، كي تبقى، تاركةً للقوى الدولية مهمّة تقاسم الغنائم وأشلاء الضحايا الأبرياء. سلطة حوّلت الشارع المنتفض إلى ساحة لعبٍ استخباراتي، جرّب فيها الطامعون أسلحتهم بأنواعها، وتفاخروا بوقاحةٍ بذلك. بل أسوأ من ذلك تحوّل إلى صندوق بريد، تمّ من خلاله تبادل طرود المطامع المفخّخة ورسائل اللغز السياسي الملغّم.

وفي بلادٍ تديرها شبكة من الصفوة المتّسمة بالشخصنة والمحسوبيات والطائفية ما انفكّ الشارع السوري يبحث عن مناضلين وأنبياء بغض النظر عن الأثمان الباهظة أو الممكنات الواقعية. فالنبوّة والنضال لا يتوافقان إلا مع التبشير بالخلاص التام، وإعادة تطييب الجراح العميقة من خلال خطة إصلاح واضحة لا توفر حتّى رأس الهرم السياسي، الأمر الذي أخاف النظام السوري فاعتبر الانتفاضة الشعبية فعلاً تآمرياً فاجراً، واختار أن يناصب شعبه العداء، فحرف انتفاضته عن مسارها السلمي وأضفى طابعاً عسكرياً دموياً عليها لتحويلها إلى حربٍ أهلية، ثم إلى ساحةِ صراعٍ إقليمي. ومع دخول الثورة السورية عامها العاشر، وبغضّ النظر عن مآلاتها الراهنة، تبقى الحقيقةُ الوحيدة أنّ اغتيالَ حراك الشارع وتقويض مصداقيته، كثورةٍ وطنية ديمقراطية لكلّ السوريين، لم يكن سوى انعكاس لشتى الهزائم السياسية والعسكرية والأخلاقية، ونتيجة طبيعيةً للقمع الشديد الذي مورس ضد الشارع، وبخاصة طلائعه المثقفة، ليتحوّل صوته الواثق إلى همسٍ يتيمٍ مُثقلٍ بهمومه السياسية والمعيشية ومخاوفه الأمنية اليومية. وبانتظار صرخةٍ أخرى، لسانُ حال السوري يردّد ما قاله ذات يوم المسرحي سعد الله ونوس: “سأعود إلى قوقعتي وحياتي اليومية، وأوهامي التي أَنسجها وحيداً في غرفتي وبين كتبي، وهناك يبدو للعالم كثافة، وتتخذ الثقافة بُعداً مصيرياً، أما هنا فلا شيء إلا الكذب، والفساد، وموت الأمل”.

العربي الجديد

Show More

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button