مثقف لا يقرأ/ رائد وحش
من المخجل أن يلتقي المرء باستمرار أناسًا يعملون في حقول ثقافية وفنية متنوعة، من الكتابة إلى السينما والموسيقى والتشكيل.. ودائمًا ما يكون القاسم المشترك بين النسبة العظمى منهم أنهم لا يقرؤون!
لا نطالب الناس بأن يكونوا قرّاءً محترفين، مع أن هذه واحدة من أكبر الأمنيات، لكن حين يتعلّق الموضوع بكتّاب وفنانين فيجب أن يكونوا كذلك. خصوصًا أن جلساتهم الخاصة تحفل بالحديث عن المدارس الفكرية والفنية، وعن التجارب الفردية، التي غيّرت تواريخ الفنون والآداب.
ليست القراءة متعة وحسب. هي كذلك بالنسبة لحالة الجذب التي تأخذنا فيها، أو بالنسبة لبعض الكتب التي تبدو للشباب الحالم الباحث عن لحظات سحرية بمثابة انعتاق من هذه الحياة التي رُبطوا فيها بحبال قصيرة، إلى حرية مطلقة لا تعرف أي نوع من القيود.
ليست القراءة متعة. المتعة مفهوم مضلّل كليًّا. فثمة قراءات ليست سوى كوابيس ندخلها بكامل إرادتنا ووعينا. وهذا الأمر ينطبق على كتاب تاريخيّ بمقدار ما ينطبق على عمل أدبي. ثمة صفحات في كتاب “الحروب الصليبية كما رآها العرب” تثير الغثيان، مثلها مثل الصفحات التي تروي كيفية اغتصاب البطلة في رواية “فتاة لا يحبها الرجال”.
القراءة متعة، بالمعنى الإيجابي، حين نقرأ كتبًا مريحة وسهلة، لكنها عند المثقف صاحب المشروع الفكري أو الفني شكل من أشكال الشقاء، سواء لما تسبّبه المعرفة من حزن، أو لما في البحث عن أفكار وأساليب من ضنى ومكابدة. من أجل أن يستطيع هذا الفنان ترجمة ما يعانيه من مشاعر إلى مجال عمله بالشكل الفريد الذي يحلم به.
الفن والثقافة رحلات في المعرفة. تنقيب في الأسئلة التي تخصّ الحياة والموت. إقامة دائمة في القلق لأجل فهم الإشكاليات والظواهر الاجتماعية. استنطاق لتاريخ وجغرافيا الألم الإنساني. ولا يمكن أن يكونا مجرد سهرات وحفلات، أو ساعات مفتوحة من الاسترخاء وشرب البيرة والرقص. لو أنّ الأمر كذلك لما كانت هناك حاجة لأن يكتب الشاعر كلمة، ولا أن يضع الموسيقيّ جملة. فمن سوف يحتاج إلى فن وفكر في مجتمع قائم على الاستجمام؟
ربما لأجل هذه المسألة نرى الفنانين يرسمون اللوحة ذاتها. والشعراء يكتبون القصيدة عينها مرارًا وتكرارًا. بشكل يوحي أنهم يعتمدون بشكل أساسي على مواهبهم وليس على تنميتها، بل على إعادة خلقها من خلال البحث عن فكرة وتقنية.
الكاتب الذي يحكي عن نفسه، أو من خلال نفسه، دون رفد ذلك بقيمة فكرية ولمسة جمالية، هو كاتب مفلس. الفنان الذي يرسم ما يرسمه دائمًا تحت حجة أن هذا أسلوبي ولن أغيّره، هو فنّان مفلس أيضًا.
فكما تُقوّي عضلات جسمك بالرياضة فإنك تُقوّي عقلك وخيالك بالأفكار، وتقوّي إحساسك بجعله قادرًا على النطق عبر خطوط أو تكوينات مرسومة، أو عبر جمل مكتوبة. وكلاهما يحتاج إلى تجربة. فكما يمكن أن تدور في الشوارع والمشافي والمدارس والمنازل، لكي تحسّ بما يحدث في الحياة من حولك، يمكنك أن تقرأ عن ذات الأمور وستمنحك رحلاتك الفضولية تلك مقاربات جديدة، لأنك تضيف إلى ما قرأت في الكتب وما رأيت في الحياة لمسةً تتعلق بك، تكوينًا ومنطقًا. هذا هو السرّ.
حين يقولون إنه زمن انفجار المعلومات، وزمن تعدد مصادر المعرفة؛ عليك أن تضحك. فمهما قدّمت هذه الوسائل من تسهيلات لن يكون في إمكانها شرح نظرية كارل ماركس في فيديو قصير. هي تعطيك عناوين أو خطوطًا عريضة للموضوع الذي تبحث فيه. لكن المعرفة مسألة أخرى تمامًا. ربما لن تقرأ ماركس بكل صعوبته وغموضه، لكنك تحتاج إلى ساعات طويلة من قراءة دراسات عنه، ومشاهدة محاضرات أكاديمية لمتخصصين فيه. أما فيديو أو مقالة على شكل قائمة، فهذه مقبلات لكي تدعوك إلى الموضوع ذاته بوصفه وجبة رئيسية. لهذا حين يحتاج أحد أن يقرأ عن الكونفوشيوسية أو البوذية لأجل استلهامها في عمل فني ما فإنه يحتاج إلى الخوض في لجج ما كتَبَتْ وما كُتب عنها. وسوى ذلك لن يحصل من الإلهام الذي يحتاجه إلا على قشرة هشّة، تجعل النصوص تبدو قادمة مباشرةً من صفحات ويكيبيديا. محمود درويش حين كتب “خطبة الهندي الأحمر ما قبل الأخيرة” ما كان ليتحدث كواحد منهم لو لم يخض من رحلته الفكرية والروحية في عوالم تلك الشعوب، حتى استطاع أن يتحدث في آخر الأمر كواحد منهم. أو لنقل: جعل تلك الثقافة تتكلم العربية! ولعل من بين أهم ما يفعله الإبداع أنه يقرّب العالم ويزيل الحواجز والحدود.
لعل من يقرأ فعلًا هم المترجمون والباحثون نظرًا لطبيعة عملهم التي تتطلب ذلك. ولهذا نجدهم أكثر من يهتمون باللغة، لما يواجهونه من تعابير أو مصطلحات تحتاج إلى كلمات عربية تعبّر عنها، أو أن يخترعوها. وهكذا تتحول العلاقة إلى معاناة تُذكر بقلق كتّاب الأزمنة الخالية، الأزمنة التي توفر فيها الاستعداد لدى الإنسان لقطع الجبال والقفار من أجل معرفة معنى كلمة أو الإحاطة بقصة.
اليوم نرى من يسمون مثقفين لا يعرفون دور النشر حولهم. لا بل لا يعرفون كيف تجري عملية صنع الكتاب. ومنهم من لم يزوروا معارض كتب، اللهم إلا إذا كانت لديهم دعوة لكي يتكلموا فيها.
حين يجري الحديث عن دور المثقف وأهميته، قاصدين هؤلاء أو من يشبهونهم، فإن أول ما يشعره به أحدنا هو الأسف على هذا الخلط في المفاهيم، فهؤلاء ليسوا مثقفين لكي نرتجي منهم خيرًا.
الترا صوت