أثر العزلة في حياة الشاعرات… “أن نخرج رؤوسنا من النافذة دون أن تتهشم”/ آلاء حسانين
المقيل العالي للمخيّلة
“قد يقطع المرء نفقاً طويلاً مثقلاً بالتجارب ليعلم حقيقة نفسه، وربما بعد هذه المعرفة يصبح أقل شجاعةً من أن يفصح عن ذاته. خفت مراراً من الاعتراف بأنني شخصٌ محبٌ للعزلة، يؤلمني الضجيج ويربكني الحضور وأجد دائماً ملاذاً آمناً في الظل، في الغياب”.
العزلة المؤنسة
بهذه الكلمات تجيب الشاعرة المصرية آلاء فودة عند سؤالها عن علاقتها بالعزلة، وتتابع آلاء فودة: “وكما يقول فرناندو بيسوا: (العزلة تحزنني؛ الرفقة تخنقني. وجود الآخر بجانبي يضلِّل أفكاري) الآخر الذي يسرع لتصنيفك ثم لطرح ظله عليك ورغبته المستمرة لإفراغك من ذاتك وخلخلة روحك من كل هواجسها.
لا أحد يدرك كيف آنس بهواجسي، أخلق أشباحاً وعوالم وحكايات تخصني وحدي وتغذي عزلتي التي ربيتها معي منذ الطفولة، ربما كانت العزلة هي قدري؛ قدري الحلو والمر”.
“في العزلة ينمو السؤال ويتكاثر تتفاقم حولك العوالم التي ربيتها تكتشف العلاقات الخفية وراء الأحداث، تفكك أقدار الله لمقدمات ونتائج ودوائر متداخلة. في العزلة يبزغ الشعر كنجم يلوح لك في سماء مضطربة، تحاول الإمساك به فتغوص أكثر في عزلتك، أحياناً تتساءل: هل العزلة طريق نسلكه باحثين عن القصيدة أم أن القصيدة هي إفراز طبيعي لحياة العزلة، أظن أن الإجابة متشابكة تشبه المعادلة العكسية التي تسير في اتجاهين متضادين”.
ألعاب العزلة الطفولية
أما الشاعرة السورية مناهل السهوي فأجابت واصفة علاقتها بالعزلة: “لا أدعي معرفتي الكاملة بالعزلة، لكنني أشعر بها، أقترب منها وأبتعد، ألعب معها في أوقات أخرى، فقد اعتدت منذ طفولتي أن أعيش فترات من العزلة، راحت تصير أطول وأكثر تركيزاً مع التقدم بالعمر. أجدُ أن عيشي هذه الفترات لا تتعلق بالكتابة وحسب، إنما بتواصلي مع نفسي وقدرتي على الانفصال عن الخارج، والذي في لحظة عودتي إليه ألتصق به تماماً كأنما لا أعرف العزلة أو اللحظات الذاتية.
وأظن هنا النقطة الأهم، فالعزلة لا تعني الانفصال عن الواقع بقدر كونها فهماً جديداً له وقدرة على صياغته أدبياً بلغة مختلفة ومدهشة وإنسانية. في الشعر تحديداً أشعر متى يجب أن أكتب وأشعر حين لن أستطيع الكتابة حتى، أو كتابة قصيدة غير ناضجة، لا طقوس أو وقت أو مكان خاص لكتابة الشعر، قد يحدث في أي لحظة كولادة مبكرة، لا بد أن أفعلها على الفور وإلا فقدتها. كثيراً ما فقدت قصائد لأني أجّلت كتابتها ساعة أو للصباح، لحظة الكتابة كثيفة جداً وهي لحظة تندمج مع العزلة، لطالما تساءلت حين فروغي من الكتابة: أين كنت في تلك اللحظة؟”.
وتتابع الشاعرة العراقية روان سالم فتحدثت عن علاقتها بالعزلة والكتابة قائلة: “ما كتبتُ شيئاً لولا العزلة”، وعن مفهوم العزلة الذي تتعايش معه، وروان شاعرة وناشطة سياسية لم تتجاوز عامها الثامن عشر، وتقول: “وبالرغم من أن الكثيرين من الذين يحيطون بي يرونني ودودة واجتماعية ومحبة للعلاقات العامة، إلا أنني على العكس تماماً. فأشعر بأن التواصل مع أغلب الأشخاص أمر إجباريّ فُرض عليَّ لكوني كائناً بشرياً، ولو كان الأمر بيدي لاخترت ألّا أختلط بأحد سوى مع عدد محدود من المقربين مني، أولئك الذين لا يفسدون وحدتي باقتحامهم كل شيء في حياتي.
ومن المحتمل أن أختار البقاء بالقرب من يديّ أمي كي تمسّد بهما رأسي وتوشوش لي، وهي مستمرة بكذبها الذي يصف وجه الحياة الجميل -ذاك الذي لم أره حتى الآن- وهي تخبرني أن كل شيء سيكون على ما يرام”.
أما عن مفهوم العزلة لدى الشاعرة آلاء فودة: “ما أعتاد الناس على فهمه من مفهوم العزلة هو العزلة المادية أن تغلق على نفسك الأبواب ألا تمارس حياتك الطبيعية أن تهيم على وجهك في الصحراء كما ورد في الموروث المتراكم لشعراء الجاهلية. ربما يكلفك الأمر أن تبيت ليلة أو ليلتين وحيداً في وادي عبقر ليتلبسك جني الشعر ويسلمك مفاتيح الكتابة، العزلة التي تشبه ناسك على صخرة التيبت يتأمل العالم ثم يكتب القصيدة”.
“لكن ما أعنيه هنا ليس بهذا الترف، حياتي ليس بمقدورها أن تمنحني هذا الهدوء، ربما لو أردت وصف يومي لرسمت لوحة لشخص يصارع الثيران وهو يعزف على عود، هكذا بالضبط: يومي مكتظ. أشعر بأن العالم يمر فوقي بأحذيته الغليظة وعجلاته السريعة، فأنا أم وزوجة وموظفة حكومية تكتب الشعر، إن لم تهبط علي الفكرة داخل زحام اليوم لا أستطيع استجداءها، وحي الشعر يأتي من بين ركام الأطباق المتسخة بالأحواض، يأتي مثقلاً بأدوية السعال والرشح ومحاليل الجفاف التي أدسّها في فم ابنتي الرضيعة.
يأتي الشعر رائقاً بعد كوب الشاي الذي يلي نوم الصغيرات، يأتي معنفاً بعد شجارٍ عائلي ويأتي بائساً في كل مرة أشعر فيها أنني أنتمي لعزلتي أكثر من حياتي الحقيقية”.
العزلة والشعر: دنوّ وابتعاد
وعن الكتابة والعزلة، والرغبة في تجربة الحياة من أجل العيش والكتابة في آن، يحدث أن نعيش هذا التناقض بين الرغبة في الاختباء من العالم، والرغبة في الاندماج فيه، فتقول روان سالم: “أسألُ نفسي كيف لي أن أكتب دون أن أختلط مع الناس؟ سيسبب لي الألم الذي يدفعني للكتابة؟ ومن سيخدش آخر سنتيمتر سليم في قلبي؟ حتى من سيضمد الجرح سيخدشني أيضاً حين يزيل الضماد”.
ولأن مناهل السهوي شاعرة وصحفية في آن، وشخصياً أجدهما عملين متناقضين، لأن الذات الشاعرة تدور حول نفسها، بينما الذات الصحفية تدور حول الآخر، وهذا ما أكدته مناهل حين تحدثت عن أثر العمل في الصحافة عليها، شاعرة وإنسانة، منعزلة حيناً ومنخرطة في الحياة حيناً آخر: “في السنوات الأخيرة، ساعدتني الصحافة في فهم الآخر أكثر، وإدراك الحدود التي أستطيع فيها التنقل بين أجناس الكتابة، وأين يجب أن أترك عزلتي وأين لابدّ من اصطحابها.
أعتقد أن العزلة هي واحدة من أعقد المشاعر وأبسطها في الوقت ذاته، وهي لحظات نبيلة وملهمة بقدر كونها لحظات خطيرة ومؤذية، وقدرتي على فهم احتياجي لها، والوقت المناسب للخروج منها أو أخذ استراحة، تحكمت كلها في فهمي للشعر في داخلي، وكان هذا الأمر مطمئناً”.
أما تفاعلها مع العزلة الإجبارية الناتجة عن الحجر الصحي جراء تفشي فيروس كورونا، فتروي تجربتها قائلة: “للأسف، حتى خلال فترة الحجر الصحيّ كنّا في سوريا نعيش بطريقة أخرى، فالحجر لم يستمر أكثر من شهرين لأن الناس كادت تنهار من الفقر، ما اضطر الحكومة لإعادة فتح البلاد حين بدأ الانتشار الحقيقي للفيروس، وبطبيعة الحال يجب أن ندرك أن الأوضاع السياسية تؤثر في أشكال العزل الاجتماعي وحتى الفردي، فلم تشبه مثيلاتها في العالم، والسبب بالطبع الوضع الاقتصادي وآثار عشر سنوات من الحرب. فجاء الحجر الصحي كضغط إضافي وشعور جديد بانعدام الخيارات.
اعتقدت في البداية أنها ستكون فترة ملائمة لي، لكني سرعان ما أدركت أني لا أفضّل العزلة التي تأتيني من الخارج، وأفضّل صنعها بنفسي. في النهاية كانت فترة قاسية لكنها لم تكن مؤثرة بل بليدة، حيث قضيتها في مشاهدة الأفلام وتجريب صنع حلويات غير قابلة للأكل دون فعل شيء آخر. للأسف آثار ومشاعر الحرب تُغيّر من ردّات فعلك تجاه كلّ كارثة أو مشكلة جديدة، وتغيّر في طريقة تعاطيك معها، وكوفيد 19 في النهاية لم يكن يرقى لشكل الحرب وتعقيد مشاعرها ومخاوفها، فقد أثّرت الحرب على شكل كتابتي وفهمي للموت والحب والحياة، لذا أجد أن العزلة المتعلقة بكوفيد 19 كانت مرحلة طارئة بالنسبة لي، ولم تحدث أي تغيير على صعيد الكتابة، هي فقط أجبرتني على الدخول في الشعور الجمعي ومعايشة مخاوف من نوع جديد وتغيير في أسلوب الحياة”.
أما عن تجربة الشاعرة آلاء فودة مع العزلة الإجبارية، فتكتب: “لم أتأثر كثيراً بالعزلة الإجبارية التي فرضتها أزمة كورونا، أنا ضمن الفريق الطبي فلم يكن بمقدوري الاستراحة من صخب العالم. كتبت أكثر من قصيدة في هذه الفترة، أيضاً حياة الأمهات تنطوي على عزلة إجبارية تقتضيها الحركة اليومية والانشغال بمهام الأسرة، قد يصبح من الصعب بل من المستحيل أن أغلق على نفسي ساعة واحدة في اليوم لأستجدي قصيدة، وسط كل هذه الضوضاء من حولي.
يبدو الأمر مربكاً ولكن تنمو القصيدة في لحظات الزحام، لا تتشتت، لأنني مخلصة للعزلة داخلي، أحياناً أحس أن العزلة تمر بالتوازي مع حياتي الواقعية فتقلل من ضغط اليومي والاستهلاكي والمادي، وأحياناً أشعر أن عزلتي تتغذى على عالمي الخارجي وتتسلق على جداره رغم أنها لا تتقاطع معه، طوال حياتي لم أندم على شيء قدر ندمي على الخروج من العزلة الذي كلفني الكثير، لذا كلما هممت بالخروج من شرنقتي طرق أحدهم على رأسي فأعود ثانيةً”.
بينما تصف إحدى فترات العزلة المحببة إلى قلبها: “بين عامي 2015 و2019 مررت بعزلة محببة لنفسي إثر سفري للإقامة بمدينة الرياض. عشت وحيدة أنا وأسرتي الصغيرة في مدينة تشجّعك أكثر على الانعزال، فتترك لك مساحات بيضاء تلوّنها كما شئت. أتاحت لي هذه الفترة الكتابة بشكل منتظم ورائق. أظن أنني كتبت معظم قصائدي هناك. لكن لم تكن عزلتي عزلة الفارغ من عمل أي شيء، بالعكس يومي مكتظ بالمهام، وهنا تُولد القصيدة محملة بتفاصيل الحياة اليومية وفلسفتها التي تبدو بسيطة رغم شدة عمقها.
أحاول الإمساك بالنص رغم تشويش الأحداث من حولي ثم أكتبه على صفحة فيسبوك مباشرة، وأراجعه مرة أو مرتين قبل الضغط على زر المشاركة. النشر الإلكتروني أتاح لنا أن نخرج رؤوسنا من النافذة دون أن تتهشم، تتماس معي نساء كثيرات عبر النصوص المنشورة، ربات منزل لا يعرفن شيئا عن الحداثة أو مجانية قصيدة النثر، لكن يرسلون لي دائماً أنني أعبر عنهن أو أن قصائدي تصف أحوالهن. في مثل هذه الأوقات يصبح الشعر أكثر من يدٍ تربت فوق أكتاف هؤلاء النساء”.
العزلة والشعر مساحة النساء الوحيدات
وعن تأثير الشعر على النساء العربيات المعزولات إجبارياً، تتابع مناهل السهوي: “من جهة أخرى لا يمكن فصل وضع النساء العربيات عن كوفيد 19، فحياة الكثيرات صعبة والعزل في كثير من البلدان وضعتهن في مواجهة على مدار اليوم مع المعنّفين. في الواقع نعلم أن الشعر قد لا يستطيع إنقاذ النساء وحمايتهن أو تحسين وضعهن الاجتماعي، لكني وبداخلي أؤمن أن الشعر ضرورة لكلّ زمان، يستطيع أن يواسي ويشفي الجروح الداخلية. أعرف بعض نساء يعانين من التعنيف ويقرأن الشعر ليلاً، أليس هذا الأمر رقيقاً ومؤلماً في الوقت نفسه! لا أقول إن الشعر هنا يحلّ مكان تحسين وضع النساء، لكنه يشفي، وكثيراتٌ منّا بحاجة للشفاء في كلّ ليلة”.
وتختم روان سالم: “من سيخبر النساء اللاتي يعشنَ عزلة إجبارية بأن العالم الأكبر ليس سوى سجن آخر بقضبان بعيدة، ستصلن إليها ثم تبحثن مجدداً عن مساحة أكبر، وعندما تجدنها ستكتشفن بأن هناك قضبان أخرى وسور آخر لم يُعبر بعد؟ من يخبرهن بأن العالم سجن كبير لا نهاية له؟”.
رصيف 22