مراجعات الكتب

إرنستو ساباتو في «قبل النهاية»: بين الذاتي والعالم… والمعنى الزائف/ رامي أبو شهاب

لا تبدو السيرة أحياناً سوى محاولة اكتشاف الذات بعد أن تكون قد انقضت التجارب والفرص، أو ربما تكون رسالة للآخرين، أو القادمين من بعدنا، وقد تبدو شهادة أو إدانة للزمن والماضي، أو إنها محاولة أخيرة محاولة لاستلاب الحكمة من التجربة، وقد تمسي نزوة من نزوات الإنسان في محاولة تضخيم الأنا قبل الأفول.

الانطلاق من الذاتي للعالم

يخرج الروائي والكاتب الأرجنتيني إرنستو ساباتو (1911-2011) بكتابه «قبل النهاية» بوصفها سيرته التي تفتعل إحدى درجات الاصطدام، لا مع القارئ وحسب، وإنما مع المنظور الكلي لمعنى الأشياء، أو صيغة الحياة – العالم برمته كما يراه مؤلف روايات: «النفق» و«أبطال ومقابر» و«جحيم الملاك». في حين يأتي عنوان سيرته (قبل النهاية) باعثاً على شيء من التوجس، رغبة في تحفيز الاكتناه للوعي السردي السيري، الذي يخرج به أحد أهم الروائيين في العالم، ولاسيما في أمريكا اللاتينية، على الرغم من أن تكوين ساباتو الأكاديمي كان بعيداً عن مجال الأدب، ولكن مخاضه الروحي بدا غير قادر على التعامل مع أي أداة مغرقة في العقلانية، بهدف ترويض الأسئلة التي انبعثت في كيان هذا الوعي القلق والمتشظي، الذي يبدو للوهلة الأولى هشاً وليناً، غير أن دواخله تبدو أعمق مما نتوقع، ولاسيما في نقد وقائع الحياة، وتشوهاتها الأخلاقية، مع نقمة واضحة على كل ما يتنافى مع الطابع الإنساني.

صدر الكتاب عن دار مدارك 2020 بترجمة الأكاديمي الفلسطيني حسني مليطات، الذي تمكن من أن يضيف إلى النص عبر أحد مصادر تلقيه في لغة ثانية، كماً كبيراً من الوضوح، كما القدرة على المحافظة على الانسجام في الجملة، وعدم تهالكها، تبعاً لضعف تمكن بعض المترجمين من السياق أو المرجعيات الثقافية. لقد تمكن المترجم من تكوين منظوره القائم على تمثل بنية النص، وحدوده الثقافية، ولكن الأهم مراكز الثقل الشعوري، بالتجاوز مع شيوع الثقة في الترجمة، والأخيرة تعد أحد أبرز الصعوبات التي يواجهها المترجمون، حيث يجهدون في تبسيط المعنى، والإحاطة به، ولكن تعوزهم القدرة على تمثل النص بلغته الأصلية، كما إعادة تكوينه في لغة ثانية، وهنا نرى أن كثيراً من الترجمات تعلق في عدم القدرة على الإمساك بالدلالات، وروح النص، في حين ينتقل هذا القصور إلى النسخة المترجمة، التي تبدو مضطربة ومتهالكة، وهنا لا يمكن إلا أن نضيف إقراراً بخلو هذه الترجمة من تلك الإكراهات التي يعاني منها القارئ الذي ينتابه القلق، والضيق تبعاً لضعف بعض الترجمات التي باتت شائعة مؤخراً.

بعض الرؤى

يأتي الكتاب شديد الاختزال، غير أنه متخم برؤى هذا الأديب والروائي الذي يبدو ممتلكاً لحس نقدي شديد التشنج، تجاه أفول النموذج القيمي في عالمه، إذ هو يسعى إلى قراءة استشرافية لأفول القيم الإنسانية في عوالم الحداثة التي تتسارع وتيرتها، وما تستجلبه من تداعيات على الإنسان، وهكذا تتحول الكتابة إلى شكل من أشكال النقد لا للسياقات المحلية التي نشأ فيها الكاتب وحسب، إنما إلى العالم برمته؛ ضمن منظور متسع، حيث تمكن ساباتو من أن يضيء لنا الكثير من جوانب عوالمه المنقسم بين الذاتي والموضوعي، على الرغم من تعريف فيليب لوغون للسيرة، يأتي بوصفها حكياً استعادياً نثرياً يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص، ومن هنا تبدو لنا الصيغة أشبه بنموذج خارجي، لتمكين الفعل السردي، غير أن إرنستو ساباتو لا تبدو ذاته سوى اقتطاع من كيان كلي، ونعني العالم الذي يبذل جهداً كبيراً في محاولة تفسير تداعيه، ولهذا تمتلئ السيرة بأجواء تشوبها العواطف والكآبة، وإلى حد ما نوع من الرثاء الذي يتجاوز الذات، ليكون هجاء للعالم برمته، حيث يقول: «كان للتطور البسيط للتقنية والهيمنة الاقتصادية عواقب وخيمة على الإنسان، وكما في عصور أخرى من التاريخ، فإن السلطة التي بدت، في البداية أفضل حليف للإنسان، تحضر من جديد للقيام بالجرفة الأخيرة للأرض حول قبر إمبراطوريتها الضخمة». يرى ساباتو أن التقدم هو نهاية الإنسان، ويرى أن أي خطوات نتوهم بأنها مسيرة للأمام لا تعني حقيقة سوى ذلك التقدم نحو الهاوية، هكذا نلمح بين ثنايا جمل ساباتو هذا الرثاء الكوني للعالم، وعلى ما يبدو فإن هذا يكاد يفيض ليظلل كل الرؤى التي يحتكم إليها، وهنا نستشعر مقدار الألم الذي يضيق بجنبات روحه، وإحساس عميق باللاجدوى.

لعله إحساس مثقف يتوق للبحث عن خلاص، لا عبر تصور فردي إنما جمعي، وهكذا يتحول التاريخ ضمن منظوره إلى فعل تمثيل لهذا التراجع نحو الخلف، أو ذلك النكوص الحضاري الذي لا مفر منه، وفي ظني أن ساباتو بدا على قدر كبير من العمق في محاولة استشراف أزمة البشرية، ولاسيما أنه يكتب من موضع بدا كأنه بعيد عن النهايات التي وصل إليها الإنسان في عصرنا اليوم، ولكنه كان يراها قريبة، أو على وشك أن تتحقق، وهنا نرى كيف يمكن أن تؤدي تلك المنهجية العلمية التي هجرها ساباتو، بالتعاضد مع الرؤية الروحية التي يحتملها الأدب، وحساسية الأفكار لقراءة ما يكمن في المستقبل؛ فيصف التاريخ قائلاً: « التاريخ لا يتقدم، فقد قال عنه الكاتب جيامباتيسيا فيكو إنه: مساقات ودعوات. التاريخ يحكم بحركة من التقدم والتقهقر، الفكرة التي عاد إليها شوبنهاور، ومن بعده نيتشه.

التقدم هو الذي يصلح للتفكير النقي فقط» ولهذا لا ينفك من تكرار اضطرابه، وقلقه من التقدم التقني، بل إنه يحمل عليه أشد ما يكون؛ فيرى أن التقدم التقني كان يهدف للقضاء على التصورات الغيبية، التي قادت البشرية للتجرد من إنسانيتها؛ ولهذا تبدو ممارسات النهضة جزءاً من هذا الخطاب، فالمال والعقل قادا إلى تجريد لا معقول، أو ذلك الملخص الوهمي لإنسان سعى للسيطرة، ولكن يفقد حقيقته، أو تكوينه البسيط، والهش، كما تلك العاطفة التي تجعله مميزاً.

الخلاصة أن الإنسان على الرغم من التقدم الظاهري إلا أن روحه كما هي مكسوة بالحزن، ويغلفها الأسى والخيبة، وقدر كبير من الخذلان، ولكن تعليقات ساباتو لا تعلق فقط بالمنظور الكلي، إنما تذهب إلى قطاعات جزئية ذات تعالق فردي مع رحلته التي استمرت لعقود، وفيها نرى تلامسه مع بعض القضايا الفردية، ومنها وفاة ابنه، وما طرأ من تمكين بعض الجوانب القاتمة في حياة هذا الكاتب، التي تنطوي على شيء من الإحساس بالتمزق، ولاسيما حين قرر أن يحدث تحولاً عميقاً في مسيرته، حيث انتقل من العلوم إلى الآداب، مع أنه يحمل دكتوراه في الفيزياء، غير أنه سرعان ما عانى من هذا القرار حين قضمه العوز والفقر، ربما المسوغ يتأتى من ضغط الداخل ذلك الجانب الذي لا ندرك كنهه، الذي يبدو أعمق مما نتخيل، فذلك الانتقال من هيمنة العقل على حدود المتخيل، الروح، التوتر جعل ساباتو يدرك أن الحلول التي ينبغي أن تتشكل في ما يميز الإنسان، ونعني تلك الإنسانية التي أحيانا تعاني من قصور في التعرف على ذاتها، وهذا ما حاول ساباتو أن يتجنبه، حين قرر الانزياح نحو عوالم أكثر رحابة، فلا جرم أن يقيم حدوداً بين إنسان المادة، أو إنسان الطين كما دعاه، انطلاقا من تمييز «فيكو».

نظرة أخيرة للعالم

ينظر ساباتو إلى عصره عبر ما يعانيه من أحدات لا تشي إلا بمقدار الجنون والقسوة التي يعاني منها كالحروب، وظهور النازية الجديدة، وجرائم الأطفال، والإرهاب، والقائمة تطول فلا يجد أمامه إلا الاستعانة بمقولة حنة أرندت التي ترى أن القسوة في هذا العصر بات من الصعب التغلب عليها، وهذا يتعاضد من نقد النظم الرأسمالية التي أحدثت شروخاً في الجسد الكوني لا يمكن ترميمها، فقد بات العالم يرتهن بالكلية لهذا الفيض من التفكير القائم على التوحش، والاستهلاك والغائية التي أمست تفتك بالأكثرية لصالح نخب قليلة.

لقد أمسى الإنسان عدو نفسه، بل بات يتقبل معنى العبودية ضمن تمثلات مخاتلة، أو عبر ذلك الاقتناع بأن هذا العالم، كما هو… لا يمكن إلا تقبله شئنا أم أبينا، وأعتقد بأن هذه الرؤية تنطوي على أهمية شديدة، لأنها تعني أن معظمنا بات مقتنعا بإلغاء حدود التفكير لصالح النظام القائم، ما يعني أن الوعي توارى للخلف في مواجهة آلة ضخمة أو هائلة أشبه بالوحش «بسيربيروس» الأسطوري في الثقافة الإغريقية، فسيرة ساباتو تضيق لتمسي عالقة في حدود الإنساني، بما في ذلك حقوق الآخرين، كالسكان الأصليين، والملونين، والمهجرين من أوطانهم، فضلاً عن البيئة، وتشرد الأطفال، وغير ذلك… كما تلك الإدانة التي ما فتئت تستعيد تموضعها في السيرة، حيث تتراجع قيم الذاتي مقابل الموضوعي أو العالم، ولا شيء أعمق من هذا النص الذي يختزل الكثير من معاناة ساباتو حيث يقول: «الآن أصبح الإنسان على وشك أن يصبح نسخة واحدة: العيون الزرقاء، اللطافة، الجسارة، تخدير الألم أو الفاجعة، الاستعداد من أجل العبودية. تروس الماكينة، عوامل النظام».

حين يقترب ساباتو من مشارف نهاية سيرته يكتب لابنه الغائب، كي يرى العالم من خلال هذا الغياب، فالابن لن يشهد هذا العالم بما يحمله من رعب، مع طرح طيف من الأسئلة الوجودية التي تفرضها قيم تحمل الكثير من الشقاء، والخسران، والخيبة إلى حد فكرة الانتحار، ولكنه لا ينسى أن يوجه رسالة للشباب – مصدر همه الأول – فينص على أن الأدب هو الخلاص، أو تلك الكلمات التي ربما تجنبنا الكثير من الألم، ما يعني تحقيق الإيمان بقدرة اللغة على تجاوز تراكم النموذج المادي لصالح قيم الحب والجمال، فيبدو قول دوستويفسكي مبرراً، حين يرى أن روح الإنسان باتت مجالاً للتنافس بين الإله والشيطان، غير أن ساحة المعركة هي قلب تلك الكآبة، لنلمح شيئاً من الصوفية المتصلة بالإيمان.

وفي الختام نواجه الفصل الأخير بعتبة تقول لقد فشلنا، بالتجاور مع عنوان «ميثاق المقهورين» ولا شيء يختزل آثار هذا الكتاب سوى الأبيات التي يستشهد بها ساباتو للشاعر مانريكي، على الرغم من بساطتها الظاهرية، ولكنها تبدو على قدر كبير من الاختزال والعمق للمعنى الزائف للوجود.

كيف تمضي الحياة

كيف يأتي الموت

بهدوء جداً

كاتب أردني فلسطيني

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى