أبحاث

الدور السلبي للبرجوازيّة الدمشقيّة في سياق الثورة السوريّة/ مصعب قاسم عزاوي

أطلت البرجوازيّة الدمشقيّة بخبراتها التجاريّة التاريخيّة التي تراكمت خلال قرون من قيام تلك البرجوازيات المدينيّة بدورها التجاري المحض في محيطها الاقتصادي ذي المرجعيّة الزراعيّة الفلاحيّة، لتقوم بالتعريف عن نفسها للطغمة المافيويّة الأمنيّة في سوريا على أنّها الشريك الأصلح لغسيل وتبييض عوائد فساد وإفساد تلك الطغمة، واستثمار تلك الثروات وتعظيمها من خلال تلك الشراكة المأفونة التي يلتقي فيها “السحت بالوصوليّة الذرائعيّة المحضة”. هنا دراسة موّسعة للدكتور مصعب قاسم عزاوي حول طبيعة العلاقة بين البرجوازية الدمشقية ونظام الاستبداد والمصالح التي تجمع بينهما.

على مرّ التاريخ كانت الثورات والانتفاضات الشعبيّة حركات يقوم بها المظلومون مطالبين بحقهم في تحسين ظروف حيواتهم وحيوات أبنائهم، وقلّما تجد في التاريخ ذكرًا للفئات الميسورة والمنتفعة من واقع اجتماعي ما طالبت بتغيير ذلك الواقع إلّا في حالات نادرة ارتبطت بمجموعات مستنيرة في تلك الفئات كان محرّكها الأساسي وعيها وليس واقعها الاقتصادي والاجتماعي الذي طالما كان المحرّك والزناد القادح للمطالبات بتغيير ذلك الواقع والانقلاب عليه.

بمقاربة عقلانيّة موضوعيّة، لا يمكن استثناء الثورة السوريّة وكلّ ثورات الربيع العربي الموؤودة من ذلك التوصيف السالف الذكر، إذ أنّ كلّ تلك الثورات مجتمعة كانت ثورات لجحافل المظلومين المفقرين المهمشين المهشمين على امتداد عقود طويلة بمفاعيل النظم الأمنيّة الاستبداديّة وآليّات النهب والتهشيم المافيوي الشامل للمجتمعات والبشر المظلومين المفقرين الذين تغوّلت على كلّ تفاصيل حيواتهم وأحلامهم ولقمة عيشهم.

تشكيل دولة الأسد

بشكل أكثر تبئيرًا، في الحالة السوريّة ومنذ صعود عائلة الأسد إلى قمة هرم السلطة في العام 1970، جرت عملية ممنهجة لتحويل النظام الهش العسكرتاري المتخبّط في سعيه للبحث عن نهج خاص به لبناء الدولة جرّاء هشاشة أرضيته المعرفيّة والفكريّة، وانحشارها في خانة الخطابات الإيديولوجيّة المستقاة من هنا أو هناك، والتي تراوحت بين خطابات القوميّة الاشتراكيّة على الطريقة البعثيّة السالفة لحقبة آل الأسد بخلطتها العجائبية بين فكر القوميّة الاشتراكيّة المستورد من فكر حزب العمال الألماني الاشتراكي القومي، والذي عرف شيوعًا بالحزب النازي، أو أقرانه في الحزب القومي الفاشي الإيطالي، والذي كانت تعني فيه الفاشية اتحادًا لبعث القوميّة وحضارة روما الآفلة، وهو ما قام باستجلابه “على علّاته وعواره” مؤسسو حزب البعث العربي الاشتراكي، وظلّ عماد أيديولوجيتهم الشموليّة حتى انقلاب حافظ الأسد “البعثي الخُلّبي” على رفاقه في العام 1970.

أعاد انقلاب الأسد تعريف حزب البعث بأنّه شخص حافظ الأسد نفسه، قائد “الأمة السوريّة إلى الأبد”، ومحوّلًا نظام الدولة السوريّة إلى نظام أمني بامتياز تحكم فيه الأجهزة الأمنيّة كلّ حركات وسكنات المجتمع، بالتوازي مع تحويل الجيش من جيش وطني مهمته الدفاع عن حدود وكرامة الدولة، إلى مليشيا عسكريّة تتبع لأوامر النظام الأمني، واجبها الأوحد الحفاظ على تماسك وهيبة النظام الأمني حتى لو اقتضى ذلك إبادة مدن بأكملها كما كان في حالة إبادة مدينة حماة في سياق وأد انتفاضة الشعب السوري المعتم عليها إعلاميًا في العام 1982، والتي كانت المقدمة لإظهار الوجه الحقيقي البربري للنظام الأسدي الذي لم يعد يخجل من إبراز ذلك الوجه بعد أن  أصبح مرادفًا لرعب مقيم ومتأصل في المجتمع السوري، ومقدمة لتوطيد الخط الأقلوي الذي اختطه أسلاف حافظ الأسد من البعثيين “البدائيين” الذين انقلب عليهم حافظ الأسد في العام 1970، ليقوم بعد ذلك بإعادة تعريف نظامه الأمني بعد تلك المرحلة بأنّه نظام يعمل من أجل “إنصاف الأقليّات المذهبيّة والدينيّة”، وخاصة “أبناء الطائفة العلويّة” ذات المرجعيّة الفلاحيّة من منطقة جبال العلويين في ساحل بلاد الشام، والتي كانت بالفعل مجموعة مظلومة ومهمشة اقتصاديًا واجتماعيًا على امتداد قرون طويلة لعدم رضى الحكام العثمانيين لبلاد الشام عن عقيدة أولئك الذين ظلوا محصورين ومقيدين بشروط الزراعة في مناطقهم النائية الجبليّة حرصًا على عدم التماس مع عسف الحكام العثمانيين المدن السوريّة السهليّة.

هذا الواقع لم يختلف كثيرًا في مرحلة ما بعد استقلال الدولة السوريّة عن مستعمريها العثمانيين في العام 1918، ومن ثم مستعمريها الفرنسيين في العام 1947، والذي تمخض عنه سيطرة للبرجوازيات المدينيّة “السنيّة” على مفاصل الدولة الناشئة، والتي لم تعر انتباهاً للظروف الاقتصاديّة الكالحة التي كان يعاني منها “أبناء الطائفة العلويّة” في جبال الساحل السوري، وهم الذين التقطوا المهنة الصالحة الوحيدة التي يمكن من خلالها أن يدخلوا إلى جسم الدولة الناشئة هو تكثيف انخراطهم في جهاز الجيش السوري المستحدث.

ذلك الواقع التاريخي المؤوف لأسباب متعرجة ومتداخلة فيها الكثير من عناصر العطب الذاتي والموضوعي كان المقدمة التي دخل منها “حافظ الأسد” إلى جسم الجيش السوري، وهي الحقيقة التي قام باستغلالها “بخبث مريع” لإقناع أبناء الطائفة العلويّة في سوريا بأنّه “المخلّص” لهم من شرور “الجوع والفاقة” وتغوّل أثرياء المدن عليهم، وأن لا سبيل لهم لتحقيق ذلك سوى بالانخراط في جهازه الأمني الذي أصبح بمثابة “الصنبور الذي لا ينقطع صبيبه” من خلال إطلاق يد كلّ العاملين في الأجهزة الأمنيّة، والذين أصبح جلّ الممسكين بمفاتيح الحل والعقد فيها من أبناء الطائفة العلويّة، ومن لف لفهم من انتهازيين من التركيبات المجتمعيّة الأخرى في كيان الدولة السوريّة، وخاصة ذات المرجعيات الفلاحيّة التي وجدت في ذلك الانخراط أسهل الطرق لانتشال نفسها من واقع ظروف الحياة الزراعيّة الريفيّة الشاقة، والانتقال إلى حياة المدن الأكثر يسرًا من الناحيّة النسبيّة، مستقين من قاعدة النظام الأسدي الأمني الأسمى في عمل أجهزتها الأمنيّة، والمتمثلة في إطلاق يدها بكلّ أشكال الفساد والإفساد في المجتمع السوري عمقًا وسطحًا و عموديًا وأفقيًا مقابل التزامها الحديدي الذي لا توان فيه بالحفاظ على استقرار النظام الأسدي، وعدم ظهور أيّ تهديد حتى لو كان جنينيًا مضمرًا في خلد أيّ نفس سرًا أو أحلامًا أو ثرثرة في مقهى أو جلسة عائليّة تحول فيها كلّ المواطنين إلى مخبرين “بالقوة” خشية اتهامهم بجريمة “كتم المعلومات” إن لم يقوموا بالإخبار عن تلك “النفس الآثمة الأمّارة بالانعتاق”، أو حتى تخيّل شكله ولونه وطبيعته.

أفضى ذلك الواقع إلى تحويل الدولة السوريّة إلى دولة أمنيّة بامتياز منذ العام 1970، وإلى تغيير النظام الأمني ليصبح نظامًا مافيويًا فاسدًا مُفسدًا يعمل وفق قوانين المافيات وأنهاجها واشتراطاتها. وترتب عن ذلك تراكم ثروات هائلة جراء عملية النهب المنظم لمقدرات الوطن السوري بأكمله في يد طغمة من الفاسدين المفسدين الذين يشكلون لحمة الأجهزة الأمنيّة، والذين كان يعوزهم الخبرات في استثمار الأكداس الهائلة من الثروات المنهوبة التي راكموها خلال صيرورة شفطهم لمقدرات الشعب السوري، خاصة أن مرجعياتهم “الفلاحيّة والريفيّة الزراعيّة” لم تكن لتقدم لهم حلولًا ناجعة في أيّ استثمار يتسق مع «جشعهم الهذياني» لتعظيم ثرواتهم، والتي لم تكن الزراعة ومتطلباتها الشاقة لتحقق لهم ذلك.

التزاوج مع البرجوازيّة الدمشقيّة

أطلت البرجوازيّة الدمشقيّة بخبراتها التجاريّة التاريخيّة التي تراكمت خلال قرون من قيام تلك البرجوازيات المدينيّة بدورها التجاري المحض في محيطها الاقتصادي ذي المرجعيّة الزراعيّة الفلاحيّة، لتقوم بالتعريف عن نفسها للطغمة المافيويّة الأمنيّة في سوريا على أنّها الشريك الأصلح لغسيل وتبييض عوائد فساد وإفساد تلك الطغمة، واستثمار تلك الثروات وتعظيمها من خلال تلك الشراكة المأفونة التي يلتقي فيها “السحت بالوصوليّة الذرائعيّة المحضة”.

فعليًا لم يكن للنظام الأمني الفاسد من شريك محتمل للقيام بتلك المهمة سوى البرجوازيّة الدمشقيّة إذ أنّها كانت الأنسب من بين أقرانها من البرجوازيّات السوريّة، وخاصة الحلبيّة، نظرًا لأنّ مركز ثقل النظام ومركز إدارة آلته القمعيّة وسلسلة فروع أجهزته الأمنيّة التي لا تعد ولا تحصى، كانوا في العاصمة دمشق، وهو ما خلق تقاربًا جغرافيًا ومكانيًا بين موئل الثروات المنهوبة، وبين الجارة البرجوازيّة الدمشقيّة الجاهزة للقيام باستثمار تلك الثروات لصالح شركائها الجدد من النهابين الفاسدين.

لم تكن أيّ من البرجوازيّات السوريّة الأخرى في الحواضر السوريّة العريقة الأخرى وخاصة حلب وبدرجة أقل حمص وحماة مؤهلة للقيام بذلك نظرًا لبعدها الجغرافي عن مركز ثقل السلطة الأمنيّة في دمشق، بالإضافة إلى تجربة الهلع التاريخي التي عانتها تلك المدن في سياق حرب الرعب والإبادة الجماعيّة التي خاضها النظام الأسدي على شعبه في العام 1982، وأفضت إلى تدمير مهول في مدن حماة وحلب، وإبادة جماعيّة لعشرات الألوف من سكان مدينة حماة و تغييب عشرات الألوف من أبناء تلك الحواضر السوريّة؛ بالإضافة إلى سبب محوري يتمثل في أنّ البرجوازيات في المدن السوريّة الأخرى، هي وليدة سياقات اقتصاديّة تكونت تاريخيًا بشكل وثيق مع تكوين المجتمعات الناهضة فيها، والذي أساسه الجوهري زراعي- قبلي- عشائري، يعرف فيه الكلّ أصل الكلّ إلى جده السابع وما بعده في كثير من الأحايين، وهو ما كان يقتضي تحرك تلك البرجوازيّات مع نسيج المجتمعات الموجودة فيها كجسد واحد في ظروف الشدّة، وهو ما تمثل في انخراط البرجوازيّات الحمويّة، والحلبيّة، والحمصيّة، والديريّة (نسبة إلى دير الزور) في الإضراب العام الذي كاد أن يسقط النظام في العام 1982 لولا عدم انخراط البرجوازيّات الدمشقيّة فيه، ورفض رموزها من “شيوخ الكار”، وكبار التجّار فيها الانسياق مع متطلبات الرهط الساحق من مواطني سوريا، مفضلين آنذاك الحفاظ على شراكتهم “الآثمة المربحة” مع رموز النظام السوري، وهي الشراكة التي كانت في بواكيرها آنذاك، وأخذت بُعدًا استثنائيًا عميق الوشائج فيما بعد مرحلة توثق النظام السوري من قدرته على سحق شعبه كليانيًا إن اقتضت الضرورات “الأمنيّة” ذلك دون أن يرف جفن لأيّ كان في شرق العالم وغربه.

تكوين البرجوازيّة الدمشقيّة

على المستوى التاريخي فإنّ تكوين البرجوازيّة الدمشقيّة بطابعها الحِرْفِيِ والتجاري يتفارق عن تكوين البرجوازيّات المدينيّة الأخرى في بلاد الشام، المرتبطة عضويًا قبليًا وعشائريًا وإنتاجيًا واجتماعيًا بنسيج البنى الاجتماعيّة والتاريخيّة الناشئة في ضمنها، إذ أنّ البرجوازيّة الدمشقيّة، والدمشقيون عمومًا، على اختلاف النسيج التاريخي لأبناء بلاد الشام، جلهم من «الجَلَبِ» إلى دمشق الحاضرة التجاريّة والحرفيّة من أصحاب المهن من كلّ حدب وصوب من أصقاع المعمورة، وعلى امتداد قرون طويلة قد يكون أبرزها قرون حكم المماليك ومن بعدهم العثمانيين لبلاد الشام، مفضيًا إلى تشكل نسيج اجتماعي من “البشر المجتمعين في نفس الزمان والمكان”، والذين لا يربطهم في الواقع أيّ نمط من العلاقات الاجتماعيّة السائدة في مجتمعات المنطقة الأخرى، حيث تتأسس علاقاتهم فيما بينهم على شكل من “المصالح التجاريّة والحرفيّة المشتركة” القائمة أساسًا على استغلال حاجات كلّ المجتمعات المحيطة بها في بلاد الشام لخدماتها التجاريّة والحرفيّة وما كان على شاكلتها.

من الناحية الأنثروبولوجيّة يمكن توصيف الأطروحة السالفة بالنظر إلى كنيات وألقاب العوائل الشاميّة المرموقة، والتي قلّما تجد في أيّ منها نسبة إلى مكان جغرافي أو قبيلة وإنّما في غالب الأحيان إلى حرفة أو صنعة بعينها. ذلك التكوين الهجيني للمجتمع الدمشقي وبرجوازياته التجاريّة تاريخيًا، وتفارقه عن نسيج المجتمعات المحيطة به، دفع بأبناء ذلك المجتمع لمحاولة استنباط “بديل تلفيقي” عن نسق الروابط القبليّة والعشائريّة التي تربط عُرى مجتمعات الجوار الأخرى، تمثل في تخليق منظومة سلوكيّة عمادها “التديّن الظاهري” لتعميّة “الجوهر التجاري المحض” الناظم لسلوكها اليومي المشخص بالمقولات الكبرى الناظمة لعقليّة “الشامي القح”، والمعبرة عن ذلك “النهج السلوكي الريائي” المستبطن في جلّ حركاته وسكناته، والتي قد يكون أهمها مقولات “اليد التي لا تستطيع كسرها، قَبِّلْها وادع عليها بالكسر”، و”إذا رأيت أعمى فأبطحه أرضًا فلست أرحم من ربه الذي ابتلاه بالعمى”، و”الذي يأخذ أمي يصبح عمي”، و”ألف أم تبكي ولا أمي تبكي”، والقياس على ذلك كثير في عقل ووجدان من خبر نهج “الشوام الريائي الانتهازي المخاتل الموارب”.

ذلك النموذج من تكوين البرجوازيات الدمشقية بنيويًا ووظيفيًا واقتصاديًا وسلوكيًا، وشراكتها العضويّة مع نظام عائلة الأسد اتخذ بعدًا جديدًا في مرحلة ما بعد انخراط نظام الأسد في نسيج “الأتياس المستعارة” التي استجلبتها الولايات المتحدة لتلمّع بها “شرعيتها الدوليّة الخلبيّة” إبان حربها لتهشيم العراق في العام 1991، وانخراط جيش حافظ الأسد “القومي العقائدي” مع الجيوش المُعَرَّفة بـ”الإمبريالية” وفق القاموس البعثي النفاقي، و على رأسها الولايات المتحدة، بعد أن استشعر حافظ الأسد بقرون استشعاره الخبيثة أفول ولي أمره السالف في الاتحاد السوفيتي بعدما رأى تخلخله وتداعي قبضته الأمنيّة على من كان يهيمن عليهم في منظومة حلف وارسو خاصة بعد انهيار جدار برلين في العام 1989، ووجد بأنّ الانخراط في لفيف أتباع الولايات المتحدة أجدى له، وهو ما استتبعه تغيير بوصلة نظام الأسد من “الاشتراكيّة الأمنيّة”، على طريقة نظم حلف وارسو الآفلة إلى انفتاح اقتصادي وحشي على طريقة الليبراليين المستحدثين، لاستدامة رضا السادة أصحاب الحل والعقد في واشنطن على سلوكه، وهو ما كان لا بدّ له أن يفضي إلى “زلزال اقتصادي” في المجتمع السوري عمومًا لم يكن جاهزًا أو مستعدًا له. تمثّل هذا التحول في خلق فئات مستحدثة من تجار الكمبرادور والوساطة والاستيراد غير المبرمج، وعملية نهب سعاري لمدخرات الفئات الوسطى المحدودة في سوريا عبر استنزافها في قطاعات استهلاكيّة غير إنتاجيّة محولًا إياها إلى سيارات مستوردة، وهواتف جوالة، وصحون التقاط للبث الفضائي وما كان على شاكلة ذلك.

التحوّل الاقتصادي وآثاره

في الواقع لم يكن للقطاع الأمني الأسدي في تلك الحقبة خير من البرجوازيّة الدمشقيّة الانتهازيّة الوصوليّة لتقوم بدور الشريك “المجرب” في عملية النهب المنظم لمدخرات الفئات الوسطى السوريّة، إذ أنّ البرجوازيات الدمشقيّة التجاريّة التقليديّة التي أصبحت بين عشيّة وضحاها كمبرادوريّة من العيار الثقيل، كانت تعرف تمامًا الحصة الواجب دفعها كإتاوة إلى جهاز الفساد والإفساد الأسدي مقابل إطلاق يدها بمهمات شفط الرمق الأخير من مقدرات الاقتصاد السوري الإنتاجي والذي كان زراعيًا بشكل شبه كامل، وتحويله إلى مستهلكات من نتاجات اقتصاد الانفتاح، وتحويل أكداس هائلة من المنتجين فيه من “مزارعين” إلى “سائقي تكاسي” يحلمون بأنّ ريع العمل كسائقي سيارات مأجورة سوف ينقلهم إلى حيز حياة المدينة وبحبوحتها، دون أن يلتفتوا إلى أن جلّ دخلهم كان لا بد أن يذهب لسداد أقساط سياراتهم و ترقيع اسهتلاكها وقطع غيارها، والأهم من ذلك الرشاوى التي لا بد من دفعها لشرطة وعسس ومخبري الدولة الأمنيّة الطفيليّة القائمة على معادلة إطلاق يدها فسادًا وإفسادًا شرط حفاظها على ديمومة النظام الأمني الذي يوفر لها ذلك.

هذا ما حوّل جلّ الفئات الوسطى السوريّة التي كانت بالكاد تُقيت أبناءها سالفًا إلى فئات من البروليتاريا الهامشيّة التي تجاهد لإيجاد عمل لها يُمكّنها من سداد الديون والفوائد التراكميّة التي أُوقعوا في شباكها في حقبة ائتلاف النظام الأمني الأسدي والبرجوازيّات التجاريّة الشيطانيّة الكمبرادوريّة المستحدثة في سوريا، والتي كان دائمًا على رأس قائمتها الطويلة من الانتهازيين والوصوليين وقناصي الفرص، لفيف البرجوازيّة التجاريّة الدمشقيّة الخبير بفن تحليل السحت والحرام، والضحك على ذقن ذاك الذي في السماء بفتاوى وعقود خلبيّة يتم من خلالها تحويل “الربا المحرم” والذي لا يمكن لمؤمن طاهر من أبناء الشوام أن يقربه إلى “حلال زلال مصفى” تلفيقًا وتزويرًا، فيما هو في حقيقة الأمر استغلال وحشي بربري لا يقل في بربريته عن وحشية “شايلوك اليهودي” في مسرحيّة تاجر البندقية لشكسبير.

عهد الأسد الابن

في سياق الحركة الوطنيّة في سوريا التي اشرأبت قليلًا بعد موت مؤسس حكم عائلة الأسد في العام 2000، وفي المرحلة التي سبقت توطيد هيمنة خلفه وابنه بشار الأسد على كلّ مقاليد الدولة الأمنيّة السوريّة التي رسخها أبوه من قبله بالحديد والنار، وهي حقبة النهوض المؤقت الذي عُرف مجازًا وشيوعًا بأنّه “ربيع دمشق”، فقد انحصرت مشاركة الدمشقيين- الشوام الأقحاح في الحراك الاجتماعي والثقافي والمدني آنذاك من خلال عدد من المخبرين والبصاصين المنمقين بلبوسات ثقافيّة وإبداعيّة واهية وشفيفة لا يمكن أن تخفي عوارهم وبؤسهم الحضيضي فكريًا ومعرفيًا، بالإضافة إلى مجموعة من الشخصيّات التي كان من الممكن أن تُعدّ على أصابع اليد الواحدة أو اليدين الاثنتين كحد أقصى من المستنيرين الفنانين أو الأكاديميين الذين كانوا على الرغم من مرجعيتهم الشاميّة غير منخرطين في البنية التجاريّة السمساريّة الريائيّة للبرجوازيّة الدمشقيّة المتداخلة عضويًا مع منظومة الفساد والإفساد للدولة الأمنيّة السوريّة.

عندما اندلعت الثورة السورية في آذار من العام 2011 لم يكن من البرجوازيّات الأخرى في المدن السوريّة الطرفيّة خارج العاصمة دمشق إلّا الانخراط التدريجي في جسد ولحمة الانتفاضة الشعبيّة الكليانيّة في الجسد الوطني السوري لكون تلك البرجوازيّات لم تكن قادرة على الانسلاخ عن مفاعيل تأثرها وتعشق مسنناتها الاقتصاديّة والاجتماعيّة مع نسيج المجتمعات الزراعيّة العشائريّة التي تكوّنت في رحمها وظلْت تعمل تاريخيًا تحت مظلتها، وهو ما كان الحال في سيرورة الانخراط التتابعي لكلّ البرجوازيّات المدينيّة في نسيج الثورة السوريّة بدءًا من درعا ودير الزور وحمص وحماة وصولًا إلى آخر محطاتها النوعيّة في حلب، دون أن يَقْرَبَ ذلك الطوفان من حياض وسور “قلعة البرجوازيّة الشامية” في العاصمة السوريّة، إذ وجد الدمشقيون أنفسهم حينئذٍ أنّهم مستفيدون ومشاركون ومنخرطون في بنيان الفساد والإفساد، ومتنفعون من مفاعيل الدولة الأمنيّة التي انتفض في وجهها أبناء الشعب السوري من “الفلاحين” كما يروق للشوام تسميتهم، وهو ما يعني انتفاء أيّ محفز ذرائعي انتهازي يمكن أن يحضهم على التضحية بمكتسباتهم من أجل الانخراط في ثورة هدفها الأساسي تهشيم بنيان الفساد والإفساد الذي يمثل أحد أهم مداخلهم لتعظيم تجارتهم وثرواتهم وعقاراتهم وما كان على شاكلتها من أهداف البرجوازيّات بأشكالها الكبيرة والصغيرة.

بناء على ذلك كان هناك قرار جمعي غير معلن اتخذته البرجوازيّة الشاميّة يتمثل في لعب دور المتفرج الصامت على مخاض الثورة السوريّة وصراع الأفرقاء فيه دون التضحية بأيّ من مكتسباتهم وثرواتهم وليراتهم وواجهات محلاتهم وشركاتهم التجاريّة التي ظلّت مفتوحة على مصاريعها بينما أغلقت كلّ نظائرها في المدن السورية الثائرة، والأهم من ذلك كلّه عدم المساهمة بأيّ قطرة دمع أو دم في سياق انتفاض الشعب السوري المظلوم انطلاقًا من البديهيّة الشاميّة الخالصة، التي تقول: ألف أم تبكي ولا تبكي أمي.

خذلان متكرّر

في الحقيقة فإنّ خذلان الشوام لباقي أطياف الشعب السوري المظلوم لم تكن المرة الأولى في خيانتهم للثورة السوريّة العارمة في العام 2011، فقد سبقتها خيانة لا تقل عن خليفتها خزيًا تمثلت في خيانتهم للشعب السوري الذي انتفض في مطلع الحقبة الأسديّة السوداء على سوريا في العام 1982، ووقفتهم متفرجين على جحافل النظام السوري ومرتزقة جيشه وهي تذبح وتنكل وتغتصب وتقطع أجساد أبناء مدينة حماة أساسًا، وبدرجة أقل في حلب ودير الزور، على الرغم من أنّ المحرّك الأساسي للثورة آنذاك كانوا “الإخوان المسلمين”، والذين لا يبتعدون كثيرًا في نهجهم الفكري الظاهري عن نموذج الوعي الديني الانغلاقي القروسطي التزويقي الناظم لنهج و سلوك الشوام أنفسهم.

في سياق تغريبة مئات الآلاف من السوريين عن أرضهم المحروقة وبيوتهم المهدمة أو المستولى عليها من قبل مليشيات ومرتزقة الولي الفقيه هاربين إلى دول الجوار ومنها إلى أوروبا إن استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، والتي كان من المحتمل أن يبحثوا في بلدانها عن مستقر لهم بدل التحول إلى نموذج جديد من اللاجئين الفلسطينيين المظلومين في مخيمات مزمنة أصبح عمرها عقودًا طويلة، لعبت الطبقات الوسطى الميسورة من الشوام، والتي لم تكن في قمة الهرم الاقتصادي التجاري الشامي دوراً معيقًا وسلبيًا أعاق إمكانيّة وصول الكثير من السوريين المعذبين إلى برّ أمان حقيقي يستحقونه في أوروبا، عبر تدفق أعداد كبيرة من تلك الطبقات الوسطى الشاميّة، والتي تلمست بقرون استشعارها الذرائعيّة، بأن محصلة خسائرها بما سوف تتركه وراءها إن قررت الارتحال عن سوريا، والتلبس والتنكر على صورة المعذبين السوريين الأحقاق في تغريبتهم ولجوئهم إلى القارة الأوروبيّة، سوف تنتج ربحًا على المدى البعيد من خلال إدراك مستقبل أفضل لأولادهم في أوروبا، على حدّ التعبير الشائع لكلّ الأرذال الذين لم يناهضوا النظام السوري مرة في حياتهم، ولم يخرجوا في مظاهرة سلمية أبدًا، ولم يهتفوا بكلمة حق تنفي عنهم صفة الشيطان الأخرس اللصيقة بهم، ولم ينكل بهم في دهاليز وسراديب الفروع الأمنيّة، ولم يصفع خدودهم المتوردة وكروشهم المنفوشة سحتًا ورياءً كرباج جلاد أمني في عديد الفروع الأمنيّة السوريّة التي لا تعد ولا تحصى. وهو الخيار الذي سخر له الكثير من أبناء الطبقات الوسطى الشاميّة مدخراتهم الوفيرة، والتي لا يمكن مقارنتها بمدخرات “الفئات الفلاحيّة” المظلومة في باقي نسيج الحطام السوري، ممّا أدى إلى كارثة إنسانيّة بكلّ ما تحمل الكلمة من معنى تمثلت في زيادة صاروخيّة وفلكيّة لتكاليف الهجرة والارتحال من الهشيم السوري إلى القارة الأوروبيّة، جعلت من تلك الرحلة حلمًا مستحيلًا على الملايين من الذين يستحقون حق اللجوء في أوروبا وتركتهم عالقين في مخيمات مزرية بائسة في دول الجوار السوري، بينما تمكنت الطبقات الوسطى الشاميّة، ومن كان على شاكلتها من إدراك أهدافها من خلال تحويل مسارب الهجرة والتهريب إلى أوروبا إلى مزادات بازاريّة، البقاء والنجاح فيها للأكثر مالًا ومداهنة، وليس الأكثر استحقاقًا لحق اللجوء والإعانة.

أغلب الظن الذي يمليه استقراء التاريخ واستبصار مآلاته بسوابقه أنّ الشوام سوف يستمرون بلعب دور سلبي وانتهازي وصولي في سياق مآلات الوضع السوري الكالح لحرصهم الأوحد على تجارتهم دون أن يعنيهم أن تكون خاسرة بالمنظار الأخلاقي كحد أدنى، وأن يكون ارتكاسهم تجاه جلجلة ومعاناة أبناء الوطن السوري الذبيح وصمة عار بحق أيّ من المتفاخرين بالانتساب إلى عديدهم لا بدّ أن تبقى راسخة وموثقة في عقل ووجدان وخاطر أيّ مراقب حصيف متعقل موضوعي وقارئ للتاريخ السوري الأليم، ومخاضات وقروح شعبه المستضعف المظلوم المقهور.

طبيب استشاري في علم الأمراض. كاتب في العديد من الدوريات الناطقة بالعربية والإنجليزية منذ العام 1991. مؤلف ومحرر لمئات الكتب والأبحاث والدراسات باللغتين العربية والإنجليزية.

* تعبر المادة عن رأي كاتبها، وليس بالضرورة عن وجهة نظر موقع حكاية ما انحكت.

حكاية ما انحكت

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى