نقد ومقالات

في ذكرى رحيلها: تتّبع أثر أغاثا كريستي في سورية/ أوس يعقوب

19 فبراير 2025

في 12 يناير/ كانون الثاني الماضي حلّت الذكرى الـ 49 لرحيل الروائيّة الإنكليزيّة أغاثا كريستي (1890 – 1976)، التي تتصدّر قائمة الكُتّاب الأكثر مبيعًا في العالم في كلّ العصور، بحسب “موسوعة غينيس للأرقام القياسيّة”، إذ بيع ما يقدر بنحو ملياري نسخة من رواياتها مترجمة إلى عشرات اللغات العالميّة. كذلك حلّت في مطلع الشهر الجاري، الذكرى المئويّة لصدور قصّة كريستي القصيرة “شاهد إثبات” (witness for the prosecution)، التي نُشرت لأوّل مرّة في 31 يناير/ كانون الثاني عام 1925، وكان عنوانها في بادئ الأمر “أياد خائنة” (Traitor’s Hands)، والتي لا تزال مصدرًا للتشويق والإثارة بما فيها من مفاجآت ومنحنيات سرديّة لأحداث تتعلّق بمحاكمة في جريمة قتل.

في هذه المقالة، نستعيد مع القرّاء مذكرات صاحبة “موت على ضفاف النيل” في سورية، ذلك لأنّه مع كلّ ذكرى ومناسبة تخصّ كريستي يتذكر السوريّون أنّها عاشت رفقة زوجها عالم الآثار الإنكليزيّ، السير ماكس مالوان (1904- 1978)، في سورية والعراق في ثلاثينيات القرن العشرين، حيث كان مالوان ينقّب عن الآثار في هذين البلدين. كذلك لأنّ كليهما خلد تفاصيل رحلتهما إلى سورية والعراق، حيث وضعت كريستي مذكراتها، التي نشرت لأوّل مرّة عام 1946، بعنوان “تعال قل لي كيف تعيش: مذكراتها في سورية والعراق”، فيما نشر مالوان مذكراته بعنوان “مذكرات مالوان: عالم الآثار وزوج أغاثا كريستي”، والتي ترجمها سمير عبد الرحيم الچلبي، وصدرت عن دار “الجمل” عام 1977.

يسرد السير مالوان في مذكراته ما مرّ به من حياة تفصيليّة وشائقة وهو ينقّب في سورية والعراق عن آثار حضارة “أوركيش القديمة” في “تل موزان” أو مدينة “أوركيش الأثريّة” (1)، التي بنيت في الألف الثالث قبل الميلاد، وكذلك سردت كريستي في مذكراتها تفاصيل رحلتها الممتعة في سورية والعراق بنفس روائيّ شيق واصفة المكان والزمان وتفاصيل كثيرة عن الحياة التي عاشتها في تلك الأماكن الأثريّة الساحرة البديعة.

بحسب مصادر تاريخيّة، فإنّ كريستي “التقت بعالم آثار مدينة أور السومريّة ماكس مالوان عام 1930، وهناك تعرّفت عليه بين الأطلال والخرائب التاريخيّة لحضارة أولى، حيث كان ثمرة هذا اللقاء الزواج التاريخيّ أيضًا بين باحث وعالم آثار، وبين روائيّة وكاتبة مسرحيّات ومذكرات، شهرتها حينها كانت تطبّق الآفاق”.

زارت كريستي، المولودة في مدينة توركاي جنوب غرب إنكلترا عام 1890، من أب أميركيّ وأم إنكليزيّة، الجزيرة السوريّة الواقعة في الجهة الشرقيّة من سورية، على مرحلتين بين عامي 1935-1937 وبقيت فيها لعدّة شهور، سجّلت خلالها عدّة ملاحظات وانطباعات عن المناطق التي سكنتها أو مرّت بها، ورصدت شكل الحياة التي يعيشها سكّان المنطقة، وطريقة تفكيرهم ونظرتهم إلى الحياة، وعلاقة الرجال بالنساء، كاشفة عن الاختلاف في العادات والتقاليد بحسب الاختلاف العرقيّ والدينيّ لدى مكوّنات المجتمع السوريّ.

“هكذا عشت في سورية”…

في كتابها الموسوم “تعال قل لي كيف تعيش: مذكراتها في سورية والعراق”، الذي وضعته غداة الحرب العالميّة الثانية، أخذت كريستي القرّاء إلى تفاصيل رحلة التنقيب عن حضارات الشرق القديمة في سورية والعراق، خاصّة تلك التي أمضتها صحبة زوجها وفريق بعثته في الجزيرة السوريّة، المحصورة بين نهري الفرات غربًا ودجلة شرقًا (والتي تضمّ ثلاث محافظات سوريّة هي دير الزور والرقة والحسكة)، وكذلك في مدن حلب، وتدمر، وحمص، ودمشق.

تبدأ كريستي مذكراتها منذ لحظة “توضيب” الحقائب حتّى التّوجه إلى محطّة قطارات فيكتوريا اللندنيّة، بوابة البريطانيّين إلى العالم، ثمّ بيروت حتّى مدن وبلدات الساحل السوريّ، ثمّ المثلث العراقيّ التركيّ السوريّ، وأبعد من ذاك.

وبين حملات التنقيب وزياراتها إلى هذه المدن قضت كريستي أيامًا قليلة في بلدة عامودا الواقعة على الحدود السوريّة التركيّة، والتي تُعدّ من أقدم بلدات محافظة الحسكة في الشمال السوريّ، ولا يزال أبناء عامودا يتذكرون زيارة كريستي ويتناقلون أنباء قصّة شرائها لتمثالين أثريّين صغيرين من أحد حوانيت البلدة كتذكار، قدّمتهما فيما بعد إلى المتحف البريطانيّ في برلين.

من عامودا اتّجهت كريستي إلى حلب، التي اتّخذتها محطّة للراحة والاستجمام، وهناك زارت حمامات المدينة وأسواقها ومتاجرها من أجل شراء احتياجاتها قبل الذهاب إلى المناطق الصحراويّة. وكانت إقامتها في حلب في فندق “البارون” الشهير، وتحديدًا في الغرفة رقم (213)، التي كتبت فيها بعضًا من فصول روايتها الشهيرة “جريمة في قطار الشرق السريع”.

أبدت كريستي في مذكراتها إعجابها بمدينة تدمر في البادية السوريّة عند وصولها إليها، قائلة: “ها هي ذي تدمر، في هذه النقطة يكمن سحرها على ما أظن. في جمالها القشدي الأهيف الذي ينتصب بسحر وسط الرمال المحرقة، إنّها مدينة فاتنة رائعة لا تصدق، مشهديّتها الساحرة تلك الجديرة بأن تكون جزءًا من حلم، بلاط ملكيّ ومعابد وأعمدة خربة… لم أستطع يومًا اتّخاذ قرار حاسم حول ما أظنه في تدمر، إنّها تتمتع على الدوام بذلك الطابع الحلميّ الذي تكتشفه فيها من النظرة الأولى، وقد جعلها الألم في رأسي وعيني تبدو، أكثر من أيّ وقت مضى، خيالًا محمومة! إنّها ليست حقيقيّة – ولا يمكن أن تكون حقيقيّة”.

في عام 1946، دفعت صاحبة “الجريمة النائمة”، مذكراتها إلى المطبعة حاملة عنوان “تعال قل لي كيف تعيش”، وبعد أكثر من ستّة عقود على نشرها، صدرت عن دار الزمان السوريّة، في عام 2007، ترجمة عربيّة بعنوانٍ مغايرٍ للأصل الإنكليزيّ، هو “هكذا عشت في سورية: في شاغربازار وتل براك وتل أبيض”، بترجمة أنجزها الأديب السوريّ الكرديّ الراحل توفيق الحسيني.

يقول ناشر الكتاب إنّه “بخلاف رواياتها البوليسيّة المعتمدة على الدراما التخيليّة، تتحدّث أغاثا في هذا الكتاب عن جزء من المجتمع والوطن السوريّين من خلال مشاهداتها العيانيّة لأماكن حقيقيّة، ومعايشتها لأشخاص حقيقيّين، أبطالها أناس حقيقيّون من لحم ودم من أبناء جلدتنا ومواطنينا، وأماكنها حقيقيّة قائمة حتّى أيامنا هذه، هي قرانا ومدننا في الجزيرة السوريّة”. ويتابع: “وهي (أغاثا) في رصدها لطريقة تفكير وحياة الأشخاص، الذين تعمل معهم، إنّما تعكس التباين الصارخ بين عقليتين في تلك الحقبة من الزمان (وربّما الآن أيضًا)، عقليّة الشرق ونظرة الشرقيّين إلى الحياة والموت، والاقتصاد والعمل والمرأة والسياسة، وعقليّة الغرب، ونظرة الغربيّين إلى تلك الأمور نفسها”.

دوّنت كريستي تفاصيل رحلتها إلى سورية، راصدة بحسها الروائيّ الكثير من تفاصيل الجزيرة السوريّة الجغرافيّة والعمرانيّة والاجتماعيّة، مميّزة بين خصوصيّة الحياة الاجتماعيّة والعادات والتقاليد في القرى والبلدات العربيّة والكرديّة.

جاءت مذكرات كريستي في شقّها السوريّ في نحو عشرة فصول، وضعت في كتاب “هكذا عشت في سورية…”، وهي تغطي مساحات جغرافيّة موزّعة على فترات زمنيّة متقطّعة تربط بينها بأسلوب السرد المباشر، وفيها تروي تفاصيل تجوالها وإقامتها في الجزيرة السوريّة في المرحلة الأولى من نشوء الدولة السوريّة التي كانت تتشكّل في ظلّ الانتداب الفرنسيّ، وتحديدًا خلال السنتين 1934- 1935.

تذكر كريستي أنّ أهم المواقع التاريخيّة والتلال التي عمل فيها زوجها السير ماكس مالوان رفقة البعثة الأثريّة في منطقة الجزيرة السوريّة، هي تل وموقع “شاغربازار” الأثريّ الذي يقع جنوب مدينة القامشلي وشمال مدينة الحسكة في منطقة عامودا، وكذلك “تل براك” الواقع شمال شرق مدينة الحسكة، و”تل أبيض” في شمال محافظة الرقة.

ووفقًا للمذكرات فإنّ صاحبة “البيت المائل”، تبدأ بتدوين رحلتها منذ وصولها إلى المنطقة رفقة زوجها، وباقي طاقم البعثة الأثريّة المكوّن من السائقين الأرمنيّين “أريستيد” و”ميشيل”، والمهندس “ماك” للتنقيب في تلال الجزيرة بين أنهار البليخ والخابور والجغجغ (المعروف تاريخيًّا بنهر الهرماس)؛ في مدن القامشلي والحسكة وعامودا، والتلال الأثريّة في “شاغربازار” و”تل براك” و”تل موزان” و”تل أبيض”، والقرى المحيطة بها.

تروي كريستي في فصول الكتاب قصصًا كثيرة عن علاقتها مع محيطها الريفيّ الجديد، وكيفيّة التعامل مع العمال والخدم والنساء، مكرّرة معاناتها من عدم معرفتها اللغة العربيّة، واستعانتها دائمًا بزوجها السير مالوان الذي كان يُلم بالعربيّة.

وبقلمها وعدسة كاميرتها سجّلت كريستي انطباعاتها عن طبيعة الحياة في المنطقة، إثر تجوالها رفقة زوجها للبحث عن أماكن مناسبة للحفريّات والتنقيب. تقول: “كان منظر الطبيعة يخلبني ويأسر مشاعري”.

وفي الوقت الذي تعلن فيه لهفتها وشغفها بـ “تل سوار” لجمال طبيعته، تخبرنا كريستي كيف اختار زوجها مالوان قرية وتل “شاغربازار” كمكان مناسب لأشغال الحفر والتنقيب لقدمه التاريخيّ من ناحية، ولإقامة رجل دين ذي نفوذ في القرية يدعى “الشيخ أحمد القادري”، الذي وفّر له وللبعثة الأثريّة الأمن والحماية وما يحتاجونه من عمال.

مع مرور الأيّام أعجبت كريستي بالمكان المختار “شاغربازار” (وأصل التسمية: شكر بازار، أيّ “سوق السكر” بالكرديّة)، تقول: “أتجوّل بعيدًا عن أماكن العمل… أتجوّل في الأماكن البعيدة المحيطة بالتل… أجلس بين الأزهار. أتطلّع في اتّجاه الشمال إلى الروابي والهضاب. ثمّ أغفو واستسلم لسبات عذب. مجموعة من النسوة آتية من بعيد باتّجاهي. إنهنّ نسوة كرديّات وهذه الألوان المبهرجة تدل عليهنّ، إنهنّ ينهمكنّ بين الحين والآخر في الحفر عن جذور بعض النباتات والبقول وقطف أوراق من الكلأ والأعشاب… إنهنّ يأتين إليّ من طريق النحل “من أقرب” المسالك، وها هنّ الآن جالسات حولي في دائرة”.

وعن انطباعاتها عن سكّان الجزيرة السوريّة كتبت قائلة: إنّ “القرى الكرديّة والعربيّة في هذا الجزء من العالم متماثلة عددًا، وهم يعيشون الحياة نفسها وينتمون إلى الدين نفسه”، مضيفة أنّ “النسوة العربيّات متواضعات على الدوام ومنكمشات على ذواتهنّ ويشحنّ بوجوههنّ بعيدًا عندما تتحدّث إليهنّ وإن نظرنّ إليك، فعن بعد، وإن ابتسمنّ، فبخفر ثمّ يلتفتنّ بعيدًا. ملابسهنّ المتواضعة سوداء أو ذات ألوان قاتمة. ولا يمكن لامرأة عربيّة أنّ تتقدّم من رجل وتخاطبه!”.

وتقارن كريستي المرأة العربيّة بالكرديّة قائلة: “أمّا المرأة الكرديّة، فلا ريب أنّها كالرجل تمامًا، إن لم تكن أفضل! فهنّ يغادرنّ بيوتهنّ ويمازحنّ أيّ رجل ويتمتعنّ بودّ كبير. ولا تتردّد المرأة الكرديّة في مخاشنة زوجها الأمر الذي يصدم بعض عمالنا القادمين من “جرابلس” الذين لا يعرفون الأكراد جيدًا”، وتتابع: إنّ “النساء الكرديّات يتميّزن بأثوابهنّ ذات الألوان الفاقعة، ويتمتعنّ بوجوه برونزيّة ملامحها منتظمة ووجنات حمراء وعيون زرقاء عادة”.

تتحدّث كريستي كذلك، عن العاملين في بعثة زوجها، متبرّمة من عدم السيطرة على انفعالاتهم وإدمانهم المناكفة والتشاجر وردّ الصاع صاعين: “عمّالُنا زمرٌ من العرب والأكراد والأرمن”، “عيبهم نزقهم وأمزجتهم الحادّة، سرعان ما يثورون ويهتاجون ويستفّز بعضهم بعضًا”. وأشارت إلى صعوبة إقناع القرويّين بالعمل مع البعثة في الحفريّات، قائلة: “إنّهم يردّدون: ما حاجتنا إلى المال؟ فقد كان موسم الحصاد خصبًا والغلال وفيرة، ولبساطة أولئك الناس اعتقدتُ جازمة بأنّ هذا المكان هو الجزء السعيد من العالم”.

وعن سكّان المنطقة تقول: إنّهم “أصحاب ملل ونحل وأديان شتّى، مفرطون في التعصّب، منقسمون طوائف وكلّ طائفة تودّ أن تطبق أسنانها على حنجرة الطائفة الأخرى”. وتأتي على ذكر تجمّعات الأرمن، واصفة أحوالهم وبؤسهم ومآسيهم من جرَّاء المذبحة التي تعرّضوا لها على أيدي الأتراك، وتعرّج على أوضاع المسيحيّين الآخرين، من غير الأرمن، لتصل إلى أحوال الأزيديّين، وطقوسهم وعقائدهم والمظالم والمضايقات التي يتعرّضون لها من قِبَل المتعصّبين الإسلاميّين من الكرد والعرب.

إنّ كتاب “هكذا عشت في سورية: في شاغربازار وتل براك وتل أبيض” فعلًا، “مليء بالطرائف الممتعة، والنوادر الشيقة والمؤسفة في آن واحد التي لا تخلو من الألغاز والإشارات المرمّزة إلى التناقض لدى العقليّة الشرقيّة”، كما يذكر الناشر، الذي يلفت أيضًا إلى أنّه “ربّما يعتبر البعض أنّ الكتاب يندرج في سياق الرؤية الاستشراقيّة الغربيّة الى شعوب العالم الثالث، وهي قائمة على اعتبار أنّ هذه الشعوب تبقى دائمًا تعيش بثقافة الماضي ولكنّه شهادة حيّة، يصوّر لنا جوانب هامّة، من حياة أجدادنا، وأهلينا وجيراننا ومواطنينا، ويمكّننا من فهم جوانب هامّة من مآسينا ومعاناتنا، وينبئنا بغنى وثراء بلادنا تاريخيًّا وحضاريًّا وإنسانيًّا”.

هامش:

تقع مدينة أوركيش الأثريّة على بعد عشرة كيلومترات شرق مدينة عامودا الواقعة غرب مدينة القامشلي، وإلى الشمال من مدينة الحسكة بنحو 100 كم. وقد حيّرت هذه المدينة علماء الآثار بموقعها، ووصفها بعضهم بـ “الضائعة”، ليتبيّن بعد اكتشافها أنّها تقع شمال شرق سورية، وهي عاصمة الحوريّين أو الهوريّين الميتانيّين.

مراجع:

1)   أغاثا كريستي، كتاب “هكذا عشت في سورية: في شاغربازار وتل براك وتل أبيض”، ترجمة توفيق الحسيني، دار الزمان، دمشق 2007.

2)   أغاثا كريستي، كتاب “تعال قل لي كيف تعيش: مذكراتها في سورية والعراق”، ترجمة: أكرم الحمصي، دار المدى، بيروت 2017.

3)   هاشم شفيق، مقالة “أغاثا كريستي في سورية والعراق”، صحيفة “القدس العربي”، 28/05/2019.

4)   عمرو مجدح، مقالة “حين زارت أغاثا كريستي سورية وتعرفت إلى أرستيد”، موقع “سناك سوري”، 04/03/2021.

5)   لامار أركندي، مقالة “آثار القرية السوريّة التي زارتها أغاثا كريستي”، موقع “صالون سورية”، 17/11/2022.

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى