جميل بايك الصريح/ بكر صدقي
في المقابلة التي أدلى بها جميل بايك لصحيفة «النهار العربي» اللبنانية أكد القائد البارز لحزب العمال الكردستاني عمق علاقة منظمته المسلحة بـ«عائلة الأسد». بالنسبة للأوساط المعارضة لم يكن ذلك إلا من قبيل «تأكيد المؤكد» أو إشهار المعروف. فلطالما تحدثت تلك الأوساط عن «عمالة» هذا التنظيم، وفرعه السوري حزب «الاتحاد الديمقراطي» للنظام السوري. بايك المعروف على أنه «رجل طهران» في قيادة الحزب الأوجلاني، أو يمثل التيار المقرب من طهران، يناقض نفسه، في المقابلة المذكورة، حين يتحدث عن استقلالية «الاتحاد الديمقراطي» من جهة، ويملي عليه ما ينبغي أن يفعله للتوافق مع نظام الأسد من جهة أخرى.
وجاءت المقابلة بالتزامن مع أخبار غير مؤكدة، إلى الآن، عن عزل القائد العسكري لـ«قوات سوريا الديمقراطية» المقرّب من الأمريكيين، مظلوم عبدي، من موقعه هذا وتعيين شخص آخر محله أكثر طواعية لقيادة قنديل، ولجميل بايك بالذات.
بصرف النظر عن صحة هذا الاستبدال من عدمه، يبقى أن المقابلة جاءت في توقيت حرج بالنسبة لمناطق «الإدارة الذاتية» المهددة باجتياح عسكري تركي جديد يستكمل ما بدأه الأتراك في تلك المناطق في السنوات السابقة. وتشهد مناطق «شرق الفرات» بالذات حالة من الحراك العسكري النشط بسبب المحاولات الروسية لملء الفراغات، والحشود العسكرية التركية واستعدادات الفصائل السورية الموالية لها، وسط تخوفات كردية من انسحاب عسكري أمريكي يترك المنطقة بلا حماية في مواجهة تركيا وفصائلها السورية من جهة، وروسيا والنظام الأسدي من جهة أخرى، في زمن ما بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان.
صحيح أن الأمريكيين كرروا تطميناتهم لممثلي الإدارة الذاتية بأنهم لن ينسحبوا من مناطقها، لكن التوجس يبقى في محله ما دام الميل الغالب لدى الأمريكيين ـ العابر للحزبين الديمقراطي والجمهوري ـ هو لمصلحة التخلص من أعباء الصراعات في منطقتنا، ومنها ذلك الوجود الرمزي في مناطق الإدارة الذاتية. فالحوار «المتقطع» الدائر بين موسكو وواشنطن بشأن سوريا، قد يؤدي في أي لحظة مقبلة إلى تفاهم بشأن انسحاب تلك القوة الرمزية، بما يدفع إلى الواجهة مجدداً مطلب النظام الأسدي بوجوب انسحاب جميع القوات العسكرية الأجنبية (عدا الروسية والإيرانية طبعاً) من الأراضي السورية، وهو ما يعني القوات التركية فقط، في حال حصل التفاهم الروسي ـ الأمريكي المشار إليه.
كل من واشنطن وموسكو تعترضان على أي عملية اجتياح تركي جديدة في شمال سوريا، وقد لمس الرئيس التركي هذا الاعتراض المزدوج في اجتماعيه المتتاليين مع كل من بوتين وبايدن في الأسابيع الماضية، وهذا ما خفض مستوى التوقعات بشأن العملية التي كانت تركيا تهدد بها في الشهرين الماضيين.
واستثمرت موسكو التهديدات التركية والمخاوف الكردية المقابلة للضغط على «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) لكي تنخرط في الحوار مع نظام دمشق بلا شروط مسبقة. وكانت الاستجابة واضحة في تصريحات مسؤولي قسد والإدارة الذاتية، لكن نظام الأسد هو الذي يبدي تصلباً بشأن الحوار ويطالب برضوخ الطرف الآخر لجميع مطالبه. من المحتمل أن تقود موسكو بصورة مباشرة أي حوار مقبل بين الطرفين، وتدور التكهنات الرغبوية للجهات المعارضة لنظام الأسد حول احتمال نسخ «نموذج درعا» للمصالحات في مناطق شرق الفرات. في حين أن الشروط مختلفة هنا، على الأقل بسبب وجود العامل الأمريكي الذي لم يتجه بعد إلى الانسحاب، وستكون له كلمته ـ بالتفاهم مع روسيا ـ بشأن نموذج «المصالحة» الكردية مع النظام. الواقع أن الأمريكيين لا يعترضون على حوار «الإدارة الذاتية» أو «قسد» مع النظام، لكنهم يشكلون جدار استناد لهما في مواجهته أو ظهيراً يستقويان به على طاولة الحوار مع النظام.
في هذا الإطار إنما جاءت تصريحات جميل بايك الصحافية بشأن علاقة منظمته مع «عائلة الأسد» ودعوته تلك العائلة إلى أخذ المطالب الكردية بعين الاعتبار، مقابل «تفهّمه» لرغبة النظام في بسط سيطرته على كامل الأراضي السورية. و«المطالب» المذكورة هي وجوب اعتراف النظام بالإدارة الذاتية في مناطق سيطرتها الحالية إضافة إلى المطالب الكردية التقليدية الثقافية وغيرها.
ولكن يبقى حديث بايك عن عمق العلاقة مع عائلة الأسد، بدلاً من قول «القيادة السورية» مثلاً، مثيراً وغريباً على اللغة السياسية، حتى لو كان يعكس شيئاً حقيقياً. إن أشد الجهات السياسية التصاقاً بالنظام، كحلفائه اللبنانيين مثلاً، يقولون «الرئيس الأسد» في أبعد الأحوال، ولا يقولون «عائلة الأسد». ففي استخدام هذا التعبير إساءة حتى لنظام الأسد، بالإقرار بعائلية الحكم أي مافيويته، مع العلم أن علاقات حزب العمال الكردستاني مع النظام كانت دائماً من خلال قادة الأجهزة الأمنية، وليس من خلال رأس النظام أو حكومته. أما عائلة الأسد، فنعم، هناك معلومات غير موثقة لكنها متواترة عن علاقات الحزب بجميل الأسد، عم بشار، وآخرين. هل كان بينهم رفعت الأسد العائد إلى سوريا حديثاً، أو بعض أبنائه أو أتباعه أيضاً؟
على أي حال، وبصرف النظر عن حقيقة ما قاله بايك، يبقى أن هذه الصراحة ليست مما يشرّف الناطق بها. فعائلة الأسد التي يغازلها متورطة في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، بما في ذلك استخدام السلاح الكيماوي مراراً ضد السكان المدنيين. ومهما بدا النظام مرتاحاً اليوم من الضغوط الدولية، ومنتشٍ بموجة تطبيع عربية جارية بصورة متسارعة، فالجرائم المذكورة ستلاحقه ولن تزول بالتقادم.
كاتب سوري
القدس العربي