سكك حديد منسيّة: عن وسيلة اتصال مفقودة بين سوريا ولبنان، ما الذي خسرته بلاد الشام بعد أن فقدت قطاراتها؟/ أليسيا ميدينا
ترجمة دلير يوسف
منذ ما يقرب قرنًا من الزمان، ربطت شبكة سكك حديديّة مزدحمة بالناس، سوريا ولبنان بالعالم. اليوم ووسط أعمال العنف والانهيار الاقتصادي على جانبي الحدود، هل يمكن لبعض المبادرات الخياليّة إحياء القطارات المفقودة؟ نُشرت الحكاية في موقع حكاية ما انحكت، أولًا باللغة الإنجليزيّة، وهذه ترجمتها العربيّة.
مدينة رياق- لبنان. تنمو أشجار الأكاسيا بين خطوط السكك الحديديّة غير المتّجهة إلى أيّ مكان. عربة قطار وحيدة تتموضع في الحقل القريب، مهجورة على عجل، منذ نصف قرن. لم يتبق سوى بقع من طلاء القاطرات الأخضر. ثقوب رصاص وكتابات الجيش السوري داخل إحدى العربات تشير إلى أيام سابقة مظلمة.
في سهل البقاع اللبناني، وعلى بعد خمسة كيلومترات من الحدود السوريّة، تبدو محطة قطارات رياق وكأنّها هيكل عظمي مهيب. في العهد العثماني، كانت أكبر ورشة لإصلاح السكك الحديديّة في الشرق الأوسط، وقامت بإصلاح القاطرات التي قام توماس إدوار لورانس والثوّار العرب بتخريبها أثناء محاربة السلطنة العثمانيّة. في عصرها الذهبي، كانت محطة قطارات رياق تودّع المسافرين المتجهين نحو بيروت واسطنبول ودمشق وبغداد، ومن ثمّ أصبحت قاعدة استخباراتيّة للجيش السوري، ولمدة 47 سنة كانت المحطة موطنًا لأسعد نمرود.
في صباح خريفي دافئ، ينشغل أسعد الذي يبلغ من العمر 94 عامًا، بتقطيع البصل من أجل صناعة حساءٍ في بيته المتواضع في رياق، على بعد خطوات قليلة من بقايا محطة القطار. الزينة الوحيدة المعلّقة على جدران منزله هي لوحة لمسار سكّة حديد، وصورة قديمة لقاطرته ورخصته لقيادة القطار.
في العام 1976، وبعد عام من بداية الحرب الأهليّة اللبنانيّة، والتي ستستمر لعقد ونصف، قاد أسعد القطار من بيروت نحو الحدود السوريّة. “أحضرتُ 800 رأس ماعز من بيروت إلى رياق. تلك كانت رحلتي الأخيرة”، يتذكر أسعد قائلا لحكاية ما انحكت. وعند خروجه من قاطرته، توقفت المحركات البخاريّة عن الهدير على طول خط بيروت- دمشق، وأشارت تلك الرحلة إلى نهاية عصر السكك الحديديّة.
كان الانحدار قد بدأ منذ وقت طويل. انطلق أول قطار على خط دمشق- بيروت في الثالث من آب من العام 1895، مدشّنًا بداية حقبة السفر بالقطار عبر بلاد الشام. وفي العام 1911، افتتحت في مدينة طرابلس في شمال لبنان، محطة قطارات تربط المدينة بمدن حمص وحلب السوريّة. في النصف الأول من القرن العشرين، تنقّل المسافرون/ات من بيروت واصلين إلى دمشق واسطنبول وبغداد، وأبعد من ذلك وصولًا إلى مدينة مكّة بعد الاتصال بخط طريق الحجاز. لكن وبعد اندلاع الحرب الأهليّة اللبنانيّة في سبعينيات القرن المنصرم، تُركت السكك الحديديّة اللبنانيّة كي تتعفّن. الشيء نفسه حصل لقطارات سوريا المتقادمة بعد العام ٢٠١١.
الآن، وبعد أن أصبحت مهجورة وتُركت لتصدأ، تروي السكك الحديديّة التي عبرت سوريا ولبنان يومًا ما، قصة ما كان يُمكن أن يكون. إنّها حكاية حنين إلى الماضي، وحكاية اتصالات ضائعة، ولكنّها أيضًا معركة خياليّة تحاول ربط منطقة منفصلة ببعضها البعض.
سائق القطار الأخير
عندما أعلن المراهق أسعد أنّه سيترك المدرسة من أجل العمل في خطوط السكك الحديديّة، صفعه والده على وجهه. بعد فترة قصيرة، وجد أسعد نفسه يلاحق مهندسًا فرنسيًا يعمل في محطة رياق. “كان ذلك في وقت الجنرال ديغول، وكانت فرنسا هي المسؤولة عن السكك الحديديّة” كما يقول لحكاية ما انحكت. في ذلك الوقت، في أوائل أربعينات القرن العشرين، كانت سوريا ولبنان واقعتان تحت سلطة الانتداب الفرنسي.
بعد أربع سنوات من تعلّم المهنة، أصبح أسعد سائق قطار رسمي. كانت الأردن وجهته الأولى، وكانت في ذلك الوقت محميّة بريطانيّة تُعرف باسم إمارة شرق الأردن. “استغرقت الرحلة يومين، غادرتُ لبنان، ونمتُ في دمشق، وفي اليوم التالي اتجهتُ نحو الأردن ثمّ عدتُ إلى دمشق، ومن هنالك إلى ميناء بيروت، حيث أفرغوا البضائع التي كنتُ أحملها، مثل الخزف”، يتذكر أسعد.
“كنتُ أرى قطارًا يحمل حمولة أو ركابًا كلّ عشر دقائق”، يقول أسعد. في الشتاء وبسبب تراكم الثلوج، لا تستطيع القطارات العبور عبر مضيق جبل ضهر البيدر، وهو جزء من الطريق الذي يفصل الساحل اللبناني عن سهل البقاع في الداخل. بدلًا من ذلك، كان يضطر المسافرون لأخذ قطارات تعبر نفقًا، “كنّا نبقى تحت الأرض لمدة عشرين دقيقة، والجبل فوقنا، وكان الظلام في النفق دامسًا”. في ذلك الزمن، كانت يدا أسعد تحترقان من أجل إشعال النار في المحرّك البخاري.
أصبحت حياته معلّقة بالسكك الحديديّة. يقول أسعد: “سافرتُ إلى درعا وحمص ودمشق وتركيا وطرابلس وبيروت وصولًا إلى حدود إسرائيل”. يذكر المسافات بين المحطات وكأنّه درس مدرسيّ محفوظ: “من رياق إلى حمص 85 كم، ومن رياق إلى دمشق 80 كم، ومن دمشق إلى الأردن 70 كم، ومن حلب إلى تركيا 75 كم”.
رحلاته كانت تستمر في بعض الأحيان لمدة شهر، ما يبعده عن زوجته وأطفاله الستة. “كلّما وصلت إلى محطة رياق، أطلقتُ صفيرًا، كان بالإمكان سماع صفير القطار من الجبال وحتى البحر. هكذا كانت تعرف زوجتي بوصولي”.
في بدايات القرن العشرين، ارتبط خط بيروت- دمشق بالخط الحديدي الحجازي بإدارة عثمانيّة، والذي كان يمر عبر ما يُسمّى اليوم بالأردن، ومن ثمّ عبر الصحراء جنوبًا وصولًا إلى المدينة المُنوّرة. خط طوروس ربط بيروت باسطنبول عبر طرابلس وحلب. ومن اسطنبول نقل قطار الشرق السريع الركّاب إلى أوروبا. عبرت القطارات الفرنسيّة والبولنديّة والألمانيّة والأمريكيّة والسويسريّة المنطقة. في أوقات الذروة عَمِل في محطة رياق 2500 عامل، كما يوضّح إلياس معلوف، مؤلف كتاب “لبنان على السكّة” (Lebanon on Rail). بيروت ودمشق كانتا مرتبطتين بالعالم.
نظرًا للقوة الاقتصاديّة والعسكريّة للسكك الحديديّة، قاتلت القوى الاستعماريّة، فرنسا وبريطانيّة، من أجل تصميمها. مع ذلك، ووفقًا لمعلوف، كان يوسف مطران، وهو رجل أعمال ينحدر من منطقة قريبة من بعلبك اللبنانيّة، أول من حصل على امتياز بناء خط بيروت- دمشق سنة 1891، وبعد ذلك باع امتيازات البناء للفرنسيين.
“كانت رياق أفضل من لندن، كثير من الناس كانوا هنا” يقول أسعد، وبحذر يفتح صندوقًا من الصور القديمة. في صورة ملتقطة في العام 1973، يقف أسعد مع امرأة شقراء، “إنّها ابنة رئيس السكك الحديديّة في لندن، وقد طلبت أن تركب معي في القاطرة، أخبرت المساعد أن ينظف المقعد وقد أعطيتها معطفي”. ومن ثمّ يتصفح أسعد صور كتاب “لبنان على السكّة”. في الصفحات الأخيرة، سائق شاب يحدّق في الكاميرا برزانة، واسمه “فارس قره بات”.
رحلة شروق الشمس
يعيش حفيد فارس قره بات، واسمه أيضًا فارس، في ألمانيا بعد رحيله عن بيته في دمشق منذ ست سنوات.
الجدّ فارس، وهو من أصل أرمني وعاش في دمشق، التحق بالعمل في السكك الحديديّة عندما كان مراهقًا، مثل أسعد، وقد قام بتزوير هويته رافعًا رقم عمره عامين كي يتمكن من الالتحاق بالعمل. نجحت خطته. قاد القطارات انطلاقًا من رياق في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي. لاحقًا، صار ابنه سائق قطار أيضًا.
مع نهاية الانتداب الفرنسي واستقلال سوريا ولبنان، انقسمت شركة الخطوط الحديديّة “داماس- حماة” (Damas Hama and Prolongement – DHP) على طول الحدود بين البلدين. استولت الحكومة السوريّة على حصتها من خط السكّة الحديديّة، واشترى اللبنانيون نصيبهم، وتقاسم البلدان القطارات والعمّال.
“واجه جدي خيار البقاء في لبنان أو في سوريا” يقول الحفيد فارس لحكاية ما انحكت، والذي تحدّث عبر السكايب من ألمانيا. “لقد فضّل الذهاب إلى دمشق والعمل في خطوط السكك الحديديّة السوريّة في السبعينيات الثمانينيات، وبعد ذلك توظّف رئيسًا لأحد المخازن”. لكن بعض أقارب جدّه بقوا في لبنان، وهكذا أصبح جزء من العائلة لبنانيًا والجزء الآخر سوريًا. توفي الجدّ فارس في العام 2017 في سوريا.
غادر معظم أفراد العائلة السوريّة إلى كندا وفرنسا وألمانيا وأستراليا، فيما بقيت عمّة واحدة فقط في لبنان. يكافح الحفيد فارس من أجل الحفاظ على العائلة التي كانت موحّدة يومًا ما.
“في الصيف كنّا نذهب إلى بيت عمّتي في بيروت. كانت أجمل أيام حياتي، ففي الوقت الذي كانت فيه سوريا بلدًا مغلقًا، كان لبنان مفتوحا على العالم”.
تحقّق سعيّ الجدّ في الحفاظ على تراث السكك الحديديّة في سوريا في العام 2000، حين اقترح على وزير النقل آنذاك، والذي صادف أن كان صديقًا، إنشاء متحف في دمشق للقطارات البخاريّة القديمة. أصبح المتحف فيما بعد حقيقة واقعة تعيد إحياء الذكريات القديمة. “اعتاد والدي أن يريني آثار الرصاص على القطارات التي كان جدي يقودها، والتي هاجمها الثوّار السوريون”.
أكثر ذكريات الحفيد فارس المحبّبة هي الرحلات ما بين دمشق وسرغايا، وهي بلدة جبليّة هادئة وتشكّل المحطة الأخيرة قبل الوصول إلى الحدود اللبنانيّة. كان والده يتركه جالسًا في القاطرة على المقعد المجاور لمقعد السائق. كانا يقودان القطار لمدة ثلاث ساعات انطلاقًا من دمشق إلى سرغايا، ينامان هناك، ومن ثمّ يعودان في الصباح الباكر إلى دمشق. “اعتاد والدي أن يوقظني في الرابعة صباحًا، وحينها يكون القطار باردًا كالثلج”، وبمجرد أن يتم تسخينه يغادر القطار في الخامسة صباحًا، من أجل إيصال العمال والتجّار إلى دمشق في حوالي الثامنة صباحًا. “أتذكر مشاهدة المزارعين يعملون في الأرض، والطيور تغني، ورائحة البخار تتبخر بعيدًا، وصوت صفير القطار… كان السيناريو جميلًا، ولن أنساه في حياتي”.
أكثر ذكريات ناصيف المرّ حيويّة خلال أيامه كسائق قطار هي الموسيقى التصويريّة للمحرّك. يقول سائق القطار البالغ من العمر 93 عامًا من منزله في طرابلس: “كان صوت البخار المتصاعد في الجبال أجمل من أفضل موسيقى”.
بدأت قصة ناصيف مع خطوط السكك الحديديّة في العام 1947. بعد ذلك بعام واحد، في الحرب التي أعقبت إعلان قيام دولة “إسرائيل”، قصفت القوات الإسرائيليّة خط السكة الحديديّة الرابط بين الناقورة في جنوب لبنان وحيفا في فلسطين، والذي تمّ بناؤه قبل ذلك بست سنوات فقط. أنذر القصف بحدود عنيفة من شأنها أن تحطّم تطلعات خطوط السكك الحديديّة.
بقي حلم ناصيف بأن يصبح سائق قطار منتظرًا اثني عشر سنة، عمل خلالها كمساعد في مستودع. ثمّ، وفي أوائل الستينيات، أصبح سائق قطار على خط بيروت- حمص. يحتفظ ناصيف بتفاصيل الطريق في ذاكرته حتى اليوم. “كان القطار يتجه نحو حمص ليلًا، ونحو بيروت خلال النهار. قد تستغرق الرحلة حوالي أربع ساعات، ويتراوح الحدّ الأقصى للسرعة ما بين 30 و35 كيلومترًا في الساعة الواحدة”.
اعتاد ناصيف قيادة قاطرات G8 الألمانيّة، والتي كانت جزءًا من “هدية مسروقة” للبنان من قبل الحلفاء بعد خسارة ألمانيا في الحرب العالميّة الثانيّة، وفقًا لنبيل دوماني، أحد المتحمّسين لقطار طرابلس ونائب رئيس منظمة غير حكوميّة تهدف إلى إحياء السكك الحديديّة في لبنان. ثلاث من هذه القاطرات العملاقة تنام في محطة طرابلس المهجورة، وقد تحوّلت إلى خلفيّة “كلاسيكيّة” لصور الزفاف. ناصيف لا يستطيع زيارة المحطة لأنّ الضرّر مؤلم للغاية. لقد قاد قطاره الأخير في العام 1971، ثمّ أصبح مشرفًا في مكتب السكك الحديديّة في طرابلس.
يتذكر الأوقات العصيبة في سوريا، حين كان يقود القطار إلى هناك. “كان هناك انقلاب عسكري كلّ أسبوعين. في عهد أمين الحافظ، علقتُ في سوريا مع القطار خلال إحدى الانقلابات”. كان الحافظ رئيسًا لسوريا، وأُطيح به في العام 1966. منذ استقلال سوريا وحتى استلام حافظ الأسد للسلطة في العام 1971، كانت الانقلابات العسكريّة حدثًا متكرّرًا في البلاد.
عقّد الانقسام على طول الحدود بين سوريا ولبنان رحلات ناصيف. “عندما كانت شركة السكك الحديديّة واحدة، كان الأمر سهلًا، كان هناك موظفون سوريون في لبنان، وموظفون لبنانيون في سوريا”. بعد الاستقلال كان على ناصيف التوقف عند محطة على بعد خمسة كيلومترات داخل سوريا، وتبادل القاطرة مع نظيره السوري. “كان هناك أمن عام في الجانبين اللبناني والسوري، وكان تفتيش القطار والركّاب والبضائع يستغرق وقتًا”.
لا تتذكر آردا كاشكاشيان عمليات التفتيش على الحدود، فقد كانت طفلة صغيرة عندما استقلت القطار الواصل بين طرابلس وحلب، ولأنّ عائلتها كانت مقسّمة بين المدينتين، فقد كان أفرادها مسافرين منتظمين على الطريق.
استقرت عائلة آردا ذات الأصول الأرمنيّة في حلب منذ أكثر من قرن. في أواخر الستينيات، وبعد واحدة من انقلابات سوريا العديدة، توقّفت المدارس عن تدريس اللغتين الفرنسيّة والإنجليزيّة، فقرّرت العائلة الانتقال إلى طرابلس. تقول آردا إنّ “لبنان كان أكثر انفتاحًا وديمقراطيّة من سوريا”.
آردا البالغة من العمر 59 سنة، تعمل طبيبة نفسيّة، وقد عاشت في طرابلس حتى قبل عامين، عندما عادت إلى حلب (2019) بعد أن فقدت مدخراتها بسبب الأزمة الماليّة التي تعصف بلبنان.
كان والدها، جان كاشكاشيان، يعمل في تجارة السجّاد في حلب وطرابلس، لذلك كانت العائلة تتنقل كثيرًا. تتذكر آردا قائلة لحكاية ما انحكت إنّ “الرحلة كانت طويلة حقًا، لقد كانت مُمّلة جدًا بالنسبة لي، كنت أشعر دائمًا بالغثيان”، ومن ثمّ تضيف “لقد كنت مجرّد طفلة”.
تضحك آردا عندما تتذكر حادثة الغطاء (البطانيّة). لقد اعتادت العائلة على قضاء الصيف في “حدث الجبة”، وهي بلدة تقع في الجبال اللبنانيّة. في أحد الأصياف حلّت كارثة: لقد نسوا غطاء آردا المفضّل في حلب. “لم أنم لمدة ليلتين أو ثلاث ليال، كنتُ أبكي باستمرار”. لم يكن لدى والدها أيّ خيار سوى أن يطلب من سائق القطار، مانويل، إحضار الغطاء معه من حلب إلى طرابلس، “ذهبت أمي لاحقًا إلى طرابلس، وأحضرت الغطاء حتى أنام وأتوقّف عن البكاء”.
يرتبط تاريخ العائلة أيضًا بمحطة القطار الرئيسيّة في حلب، والتي تُسمّى بمحطة بغداد، بسبب توجّه قطاراتها شرقًا نحو العاصمة العراقيّة البعيدة. حين كان والدها في السادسة من عمره، كان جده يرسله إلى محطة القطار كي يجذب المسافرين القادمين إلى فندق العائلة الصغير.
بعد سنوات سيصبح والدها مدير فندق البارون الطابقي (المكوّن من طوابق قياسا بالبيوت آنذاك) تقول آردا. لقد كان فندقًا راقيًا، مشيّدًا لجذب السيّاح الأجانب في وقت كانت فيه حلب مركزًا تجاريًا مزدحمًا. أقامت أجاثا كريستي في الفندق وكتبت جزءًا من رواية “جريمة في قطار الشرق السريع” هناك، وتدور أحداث المشهد الافتتاحي لرواية الجريمة الكلاسيكيّة تلك في محطة قطار حلب.
وداعًا للقطارات… مرحبًا بالسيّارات
ركوب القطار البخاري عبر الأرض الثلجيّة تشكّل ذكرى عزيزة لوليد قمريه. لمدّة 42 سنة كان والده يقود القطارات من بيروت وصولًا إلى الحدود السوريّة، ومن هناك كان أعمامه يقودون القطار عبر سوريا وصولًا إلى تركيا. عائلة قمريه، مثل عائلات أخرى كثيرة، تبعثرت على أطراف الحدود المختلفة. ولد أجداد وليد في تركيا، أما والداه فقد وُلدا في حلب، فيما وُلد هو في لبنان.
يتذكر وليد ركوب القاطرة مع والده “أكثر من عشر مرات” عندما كان طفلًا. “أخبرَني كيف تعمل هذه الآلة. لقد كانت أيامًا حلوة، ولا سيما خلال فصل الشتاء حين كنتُ أرى الثلج”. كانوا يسافرون كثيرًا إلى حلب من أجل زيارة الأقارب. يتذكر وليد الأشياء القديمة (الأنتيكا) والأطعمة التي كانت تُرسل من حلب إلى بيروت، “كان هناك الكثير من الركّاب. لقد اعتاد السوريّون زيارة الثلوج في جبال لبنان”.
يقول إنّ رحلته الأخيرة على متن القطار كانت في العام 1969، وكان حينها في الخامسة عشرة من عمره. بعد ذلك أخذت السيارات مكان وسائل النقل الأخرى.
المرة الأولى التي استقل فيها جورج القطار، كانت بسبب انقلابٍ على الحكم في سوريا. كان مراهقًا صغيرًا في حلب، وقد “دُعي” إلى جانب شباب آخرين من المدينة لحضور مهرجان نظّمه في دمشق الرئيس السابق أديب الشيشكلي. “لقد أراد أن يظهر وكأنّه يتمتع بشعبيّة جماهيريّة”، يقول جورج، “استغرق الأمر منّا 30 ساعة. لقد قطعنا مسافة 350 كم، ونمنا في المدرسة. بقينا هناك لثلاثة أيام، وشاهدنا المهرجان، ومن ثمّ عدنا إلى حلب راكبين القطار”.
في وقت ما بعد تلك الحادثة، غادرت عائلة جورج سوريا، وانتهى بهم الأمر في بيروت، “لبنان كانت الأفضل في ذلك الوقت. لقد كانت سويسرا الشرق”.
كانت العائلة تستقل السيّارة، قطار من نوع آخر يعمل بالديزل، بين حلب وبيروت في كثير من الأحيان، حتى امتلكوا سيارتهم الأولى في العام 1963، وكانت من ماركة أوبل. كانت تلك آخر سنة يزور فيها سوريا. يبلغ جورج الآن 84 سنة، ويمتلك متجرًا لبيع الأجهزة في حيّ مار مخايل في بيروت.
“لم أعد إلى سوريا، لستُ مع أيّ حزب سياسي، لكنّني لا أحبّ النظام السوري، أحبّ الحكومات الحرّة”. ويضيف أنّ أقرباءه السوريين يزورونه في بيروت، وليس العكس.
رياق والكون
وُلد إلياس معلوف في الإكوادور، مع “باب افتراضي يصل لبنان”. كان والداه قد هربا من رياق في وقت مُبكر من الحرب الأهليّة اللبنانيّة، وعرّضا أولادهما إلى جرعات كبيرة من الحنين إلى الماضي في لبنان، “لقد غسل أهلنا أدمغتنا بحبّ لبنان. كلّ ما كنّا نحلم به كان العودة إلى لبنان، إلى رياق، المدينة التي تضم أكبر محطة قطار وقاعدة جويّة دوليّة”، يحكي إلياس من منزله في رياق. عندما كان طفلًا، غالبًا ما كان يتخيل دور السينما والأسواق القديمة في المدينة، وبالطبع محطة القطار.
عادت عائلة معلوف إلى رياق في العام 1991، بعد انتهاء الحرب، وكانت 15 سنة قد مرت على صمت القطارات هناك. “رأينا فقط الغبار والماعز وكبار السن الحزينين الذين يحلمون بالماضي”.
إلياس، وعندما كان يبلغ من العمر الحادية عشرة، سأل والده عن دور السينما القديمة، والتي تحولت إلى مستودعات للبطاطا. بقيت آثار الأسواق القديمة ومصنع المثلّجات (الآيس كريم) فقط، ولكن حين سأل عن محطة القطار، قال والده “لا يُسمح لك حتى أن تنظر إلى محطة القطار”.
تجاوز الجيش السوري فترة “استضافته”، بعد دخوله إلى لبنان في العام 1976 بدعوة من الرئيس سليمان فرنجيّة وبعد انتهاء الحرب. صارت محطة قطار رياق، والقاعدة الجويّة المجاورة لها، قاعدة لاستخبارات الجيش، حيث “اعتادوا العبث بالناس” يقول إلياس. كان المحتجزون عراة ومحشورين في عربات القطار الصدئة “خلال الصيف والشتاء” حسب قول إلياس، الذي جمع عشرات الشهادات من عمّال السكك الحديديّة السابقين ومن سكّان رياق. يضيف “في كلتا الحالتين كان الأمر سيئًا”.
في عام 2005، وبعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، انسحب الجيش السوري، وتعمّقت الانقسامات السياسيّة في لبنان. في ذلك العام كان إلياس ينهي دراسته في صناعة الأفلام الوثائقيّة، فقرّر توثيق انسحاب الجيش السوري من لبنان. يقول لحكاية ما انحكت إنّ “رياق كانت آخر مكان غادروه في لبنان”.
تسلّل إلى ورشة إصلاح السكك الحديديّة، “كان يشبه عالم ديزني: قطارات قديمة صدئة، ومبانٍ فرنسيّة استعماريّة جميلة، ومئات العربات!”. فجأة بدت له حكايات والده الحزينة عن الوطن حقيقيّة. “أدركت أنّ والديّ كانا يقولان الحقيقة عندما أخبرانا عن مدينة رياق. لأول مرّة صدقتهم حقًا”.
يقول إلياس إنّه رأى ثلاثة جنود سوريين يحرسون عربة قطار. كان الدخان يتصاعد منها عندما غادروا. توجّه نحو مصدر الدخان. “رأيتُ أرشيفات قديمة جميلة تحترق، وقد حاولتُ حفظ بعضها”، وعندما فعل أحرق يديه، وصرخ لا إراديًا. لاحظ الجنود وجوده وأطلقوا النار في الهواء. يقول إنّه أختبأ وشاهد الجنود وهم يعودون إلى عربة القطار ليراقبوا الوثائق تحترق بشكل كامل. أمكنه فقط أن يحفظ حفنة من الأوراق.
شكّل هذا اليوم، بالنسبة إلى إلياس، بداية 15 عامًا من النشاط للحفاظ على تراث السكك الحديديّة وإعادة القطارات إلى لبنان، بما في ذلك تأسيس منظمة غير حكوميّة (Train/Train)، ومحاولة بناء متحف في رياق مثل متحف دمشق، لكن السلطات اللبنانيّة لم تهتم بذلك.
تواصل إلياس مع محبّي القطارات في سوريا ولبنان، “لفترة ما دار هذا الجدال المضحك حول من يملك أفضل محطة قطارات، رياق أم طرابلس؟” من ثمّ قاموا بتوحيد جهودهم، “لقد وقعت في حبّ جميع محطات القطار في لبنان. كان صوتنا عاليًا، وكتبت صحف من حول العالم حول مهمتنا، وقرأ الجميع عنها باستثناء السياسيين في لبنان” يقول إلياس.
يُمنع إلياس من دخول أيّ محطة قطار في لبنان منذ العام 2012، بسبب خلاف عام مع رئيس هيئة السكك الحديديّة الحكوميّة اللبنانيّة، زياد نصر. “لم أسمح لهم ببيع الأجزاء القديمة من القطار كخردة معدنيّة” يوضّح إلياس، وعندما سُئل عما إذا كان حظره مرتبطًا أيضًا بالوقت الذي تسلّل فيه إلى محطة قطار وتمكّن من قيادة قاطرة لبضعة أمتار، تجاهل الفكرة بابتسامة.
“يضحكون عليك أولًا، ثم يقاتلونك، ومن ثم تفوز” يردّد إلياس هذا الاقتباس الذي يُنسب، ولو خاطئًا، إلى غاندي. عندما تحدّث لأول مرّة عن عودة السكك الحديديّة في لبنان “اعتاد الناس على السخريّة مني، كنت سانشو بانثا، ثم حاربوني، وأصبحت دون كيشوت”. بعد 15 عامًا من النشاط تراجع إلياس، وهو يقضي الآن معظم وقته مع عائلته في كرمه في رياق.
“لم أصل بعد إلى الجزء الذي أفوز فيه”.
فصل الاضمحلال
ست قاطرات، ثلاث فرنسيّة، وثلاث ألمانيّة، باقية في المحطة غير المسوّرة. يقول نبيل نائب رئيس منظمة (Train/Train) إنّ “هذه ليست القاطرات الأصليّة التي وُجدت هنا في العام 1911 عندما افتتحت المحطة، ربما تكون تلك القاطرات موجودة في سوريا”.
زوجين يلتقطان صورة العرس في محطة قطارات طرابلس، تصوير أليسيا ميدينا، خاص حكاية ما انحكت
كان جدّ نبيل واحدًا من رجال الأعمال الذي قدّموا التمويل اللازم لبناء المحطة في طرابلس. رحلة نبيل الوحيدة على متن القطار في لبنان كانت في منتصف الستينيات، حين طلبت والدته من سائق قطار شحن السماح لأطفالها بالاستمتاع بالركوب في آخر عربات القطار المتجه من طرابلس إلى بلدة شكا القريبة. لقد استمتع الأطفال بالرحلة فعلًا، يقول نبيل إنّ “القطارات ليست هواية، إنّها شغف”.
من نافذة المستودع المهجور، تُترك مجموعة من خطوط السكك الحديديّة كي تضمحل، “تمّ شراء هذه القضبان من قبل الحكومة اللبنانيّة في العام 2002، سكك حديديّة جديدة تمامًا” حسب قوله. في العام 2002 كانت هناك محاولة لإعادة ربط سوريا بلبنان عن طريق السكك الحديديّة، وخُصّصت أموال لبناء 35 كم من مسار السكك الحديديّة بين طرابلس والحدود السوريّة، لكن في العام 2005، اغتيل رفيق الحريري، و”توقّف المشروع برمته”.
مرة أخرى، أوقفت السياسة السكك الحديديّة عن العمل. لكن الاضمحلال في الجانب اللبناني يُمكن أن يُعزى أيضًا إلى السياسات الداخليّة. “منذ العام 1961 وحتى نهاية الحرب الأهليّة، لم تقم الحكومة اللبنانيّة بإضافة متر واحد من السكك إلى شبكة الخطوط الحديديّة”، يشرح نبيل لحكاية ما انحكت “لقد أداروها في البداية ثم تركوها تموت”.
في البداية، شهدت سنوات الستينيات “ثورة السيارات”، فبدا أنّ القطارات قد عفا عليها الزمن. في لبنان على وجه الخصوص، كانت لدى السلطات شهيّة للقيمة العقاريّة لممتلكات السكك الحديديّة. “السياسة الاقتصاديّة الأساسيّة في لبنان هي الاستثمار في الأرض وفي الخدمات. عندما تنظرون إلى الأرض كسلعة، فإنّكم ستفعلون أيّ شيء لإعطاء الأولويّة للربح العقاري، وقد جاء ذلك على حساب الفضاء العام والمواصلات العامة”، توضّح المخططة العمرانيّة عبير سقسوق.
في أوائل السبعينيات، عندما أعلنت الحكومة قرارها بإغلاق السكة الحديديّة، قام عمال السكك الحديديّة، وهي إحدى أقوى النقابات، بشلّ الحركة في بيروت وقطع الطرقات الرئيسيّة، “أدركت الحكومة حينها أنّها لا تستطيع إيقاف حركة السكك الحديديّة، لذلك قرّرت تركها تموت. في كلّ مرة تقاعد فيها أحد العمال، لم يتم توظيف أيّ أحد في مكانه”، يقول إلياس لحكاية ما انحكت.
هل يمكن أن تعود القطارات مرّة أخرى؟
يروي كارلوس نفّاح متحمسًا للكاميرا عن كيفيّة قيادته لقاطرة تاريخيّة (من العام 1948) بين مدينتي زيساخ (Sissach) وجنيف في سويسرا. بجانب مقطع الفيديو الذي نشره على حسابه الشخصي في موقع فيسبوك يكتب “معًا سنعيد لبنان إلى السكة”.
يعرّف كارلوس نفسه بـ”مهووس القطار”. يقول إنّه لم يغفر بعد لطفل الحيّ الذي كسر لعبة القطار الخضراء ذات البطاريات الستة. يتذكر كارلوس أنّه في العام 1995، وأثناء وجوده في المدرسة في حي الدورة في بيروت، مشاهدته لقطار أخضر وأصفر يذهب ويجيء عددًا من المرات. “لقد كان قطارًا بولنديًا من نوع SU45، وتمّ طرحه في لبنان في العام 1971”. وعلى الرغم من توقف القطارات في بداية الحرب الأهليّة إلّا أنّه وفي العام 1984 كانت هناك طرق شحن متفرقة بين بيروت وجونية والجيّة والزهراني. وبعد الحرب، بين عامي 1994 و1996 نقلت بعض القطارات مادة الاسمنت من بلدة شكا، بالقرب من طرابلس، نزولًا إلى بيروت.
في العام 2018، أصبح كارلوس رئيسًا لمنظمة (Train/Train) غير الحكوميّة. “لقد وقعتُ في حبّ تراثنا. أستطيع أن أرى إمكانيّة إعادة اتصال البلاد ببعضها البعض”.
مع سوريا المدمّرة بعد عقد من الحرب، ومع انزلاق لبنان في دوامة من الانحدار الاقتصادي، يبدو الحديث عن القطارات في غير محله بعض الشيء، لكن ومع ذلك، فإنّ حلم كارلوس بإحياء خط السكة الحديديّ يتجاوز خدمة النقل.
يقول إنّ “لبنان مُدمّر ليس فقط اقتصاديًا، ولكن اجتماعيًا أيضًا”. يرى كارلوس إنّ لبنان هو تجمّع لمجتمعات منفصلة اجتماعيًا، “لم يسبق لأهل الجنوب أن تواجدوا في الشمال، وسكان الساحل لم يسبق لهم التواجد في سهل البقاع”.
“الشيء الذي سيربط اللبنانيين ببعضهم البعض، ويربط لبنان بالجميع سيكون القطار”. يضيف كارلوس.
من ناحية أخرى، فإنّ إعادة ربط بيروت بدمشق أمر صعب، لكن كارلوس يجادل قائلًا إنّ البلدان ذات التاريخ المعقّد قد تمكنت من المحافظة على قطاراتها.
“كانت الحدود مغلقة بين الاتحاد السوفيتي سابقًا والنرويج، لكن القطار استمر بالربط بينهما ضمن إجراءات أمنيّة خاصة. ينبغي أن يكون من الممكن إعادة ربط دمشق ببيروت، أو حمص بطرابلس، حتى لو احتجنا إلى تطبيق إجراءات أمنيّة معقّدة”.
“يُمكن للقطارات أن تبني السلام بين المدن لأنّ الناس ستُتاح لهم الفرصة للتنقل والتواصل” يضيف كارلوس.
إلياس يملك مشاعر مشابهة. يقول لحكاية ما انحكت “يمكنني الذهاب بسيارتي إلى جبيل، لكن الأمر مختلف عند الجلوس مع شخص من “النوع الآخر” والحديث معه والعمل والسخرية والوقوع في الحب”.
إلى أين ستذهبون إن عادت القطارات؟
إن استطاع فإنّه سيركب القطار وصولًا إلى حلب، يقول وليد، فيما سيتتبع فارس خطوات جدّه وأبيه، ويركب القطار من دمشق إلى رياق، بينما سيزور ناصيف، سائق القطار، بيروت.
جورج، صاحب متجر الأجهزة في مار مخايل، يفكر في رحلته الخياليّة، في الوقت الذي تتجوّل فيه جارته نورما إيراني في الشارع. والدها فؤاد كان يبيع تذاكر خط بيروت- دمشق في أوائل الأربعينيات، لذلك تدخّلت في الحديث قائلة إنّه “من المهم جدًا أن يُوجد خط سكة حديد، تخيّلوا الذهاب من هنا إلى سوريا أو العراق، يمُكن أن تكونوا في دمشق خلال نصف ساعة”.
“وما شأنك بدمشق؟ أنا مهتم فقط بالقطارات داخل لبنان” يقول جورج.
“إنّه مجرد مثال. أرغب في القيام بأشياء سياحيّة في دمشق أو حمص أو حلب. اعتدت على جلب الشنكليش من سوريا. لقد كان مذاقه جيدًا جدًا.” تقول نورما، مشيرة إلى نوع من الجبن المعتّق الشائع في بلاد الشام.
“أنتِ تذهبين إلى سوريا، وأنا أبقى في زحلة” يقول جورج منهيًا المحادثة. تقع مدينة زحلة في سهل البقاع اللبناني.
الطبيبة النفسيّة، آردا، والتي ركبت خط حلب- طرابلس عندما كانت طفلة، ستسلك الطريق نفسه مرة أخرى و”ترى ما سيعود” إلى ذاكرتها. لكنها تضيف “هذا حلم، وبعض الأحلام لا تتحقق أبدًا”.
“العقبات كبيرة جدًا، ولكن من المهم جدًا أن نكون قادرين على تخيّل إمكانيّة حياة مختلفة” تقول عبير، المخططة العمرانيّة.
بدا أنّ هذا الاحتمال، ولو للحظات، قابلًا للتحقّق في شهر آب من العام 2019، عندما قدمت منظمة (Train/Train) خطتها الوطنيّة الرئيسيّة المقترحة للسكك الحديديّة في لبنان. سيربط نظام القطارات لبنان بسوريا عن طريق الوصول إلى دمشق وحمص. “سيتمكن الأشخاص في دمشق من التواجد في بيروت خلال 40 دقيقة لقضاء عطلة نهاية الأسبوع، ويُمكن للناس في عمّان أن يصلوا بيروت في غضون ساعة ونصف لعقد اجتماع ما ومن ثمّ يعودون إلى عمّان”، يشرح كارلوس الخطة لحكاية ما انحكت.
بعد شهرين فقط، تحوّل الغضب من خطة حكوميّة لفرض رسوم إضافيّة على استخدام تطبيق واتسآب إلى احتجاجات حاشدة في جميع أنحاء البلاد ضدّ حالة النظام السياسي والاقتصادي في كامل لبنان، وطالب المتظاهرون والمتظاهرات بتشكيل حكومة جديدة. بدأت بعدها البلاد تغرق في أسوأ أزمة ماليّة منذ أكثر من قرن. بعد مرور عامين، فقدت العملة المحليّة معظم قيمتها، أصبح من الصعب على الناس توفير الاحتياجات الأساسيّة مثل الكهرباء والأدوية. يقول كارلوس إنّ منظمة (Train/Train) قد اجتمعت مع مستثمرين محتملين من الشركات الإسبانيّة والفرنسيّة والألمانيّة والإيطاليّة والصينيّة والسويسريّة لكن الآفاق كانت قاتمة، “لا يمكننا استثمار أيّ شيء إذا ما استمرت الفوضى، فنحن بحاجة إلى الإصلاح والمساءلة”.
مع ذلك، وبطريقة ما، يبدو أن الحلم/ الخيال ما زال مثابرًا، فكارلوس ما زال متفائلًا: “سينطلق قطارنا من الناقورة في الجنوب إلى العبوديّة في الشمال، وسيمر بجميع المدن اللبنانيّة على طول ساحل البحر الأبيض المتوسط، سيكون أحد أجمل خطوط القطار في العالم” يقول كارلوس.
أسعد، آخر سائق على خط بيروت- دمشق، ما زال يحتفظ بشغفه للقطارات بعد كلّ هذه السنوات. عندما سُئل من أين يأتي بكل هذا الحبّ، سرعان ما أجاب “القطارات هي الطريق إلى الحريّة، فهي تمضي دائمًا إلى الأمام”.
أليسيا ميدينا
صحافيّة مستقلة مقيمة في لبنان. نُشرت أعمالها في وسائل إعلام دوليّة مختلفة، وهي حاصلة على درجة الماجستير في الصحافة والإعلام والعولمة من برنامج إيراسموس موندوس (Erasmus Mundus).
حكاية ما انحكت