في آفاق التوصل إلى اتفاق حول النووي الإيراني/ حسن نافعة
أعلنت إيران، أخيرا، موافقتها على استئناف المفاوضات المتعلقة ببرنامجها النووي يوم 29 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، فهل يعني ذلك أن الطريق بات ممهدا للتوصل إلى اتفاقٍ يسمح بعودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق الأصلي، المبرم عام 2015، انسحبت منه إدارة الرئيس الإيراني السابق، ترامب، بشكل منفرد عام 2018؟ ما زال الوقت مبكرا للإجابة عن هذا السؤال، خصوصا في ظل التكتيكات التفاوضية المستخدمة حاليا في التعامل مع هذا الملف، سواء من جانب إيران أو من جانب الولايات المتحدة.
معروف أن جو بايدن كان قد أعلن إبّان حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية التي جرت في نوفمبر/ تشرين الثاني من العام الماضي اعتزامه العمل على عودة الولايات المتحدة إلى هذا الاتفاق، إذا ما قدّر له أن يصبح رئيسا للولايات المتحدة. والواقع أنه ما إن وضع الرجل قدميه في البيت الأبيض، حتى شرع في التعامل بهمة مع هذا الموضوع، ومن ثم راح ملف البرنامج النووي الإيراني يتصدّر جدول أعمال السياسة الخارجية الأميركية اعتبارا من 20 يناير/ كانون الثاني الماضي. لكن، وأمام رفض إيران القاطع الدخول في مفاوضات مباشرة مع الولايات المتحدة حول هذا الموضوع، لم يكن هناك بد من رضوخ الأخيرة لفكرة الدخول في مفاوضات غير مباشرة مع إيران، لتحديد شروط العودة إلى هذا الاتفاق وطريقتها، وهي المفاوضات التي انطلقت في فيينا، برعاية كل من الاتحاد الأوروبي وروسيا الاتحادية، وشهدت ست جولات، قبل أن تتوقف مؤقتا بسبب الانتخابات الرئاسية التي جرت في إيران خلال شهر يونيو/ حزيران الماضي، وأسفرت عن فوز التيار المحافظ بقيادة إبراهيم رئيسي.
على الرغم من صعوباتٍ عديدة شهدتها جولات المفاوضات الست، أجمع المراقبون على أن مفاوضات فيينا أحرزت تقدّما كبيرا، بل وصل الأمر إلى حد توقع بعضهم إمكانية التوصل إلى اتفاق قبل انتخابات الرئاسة الإيرانية، على أمل أن تؤدّي الأخبار الخاصة بقرب رفع العقوبات إلى تعظيم فرص فوز التيار المعتدل في انتخابات الرئاسة الإيرانية، وهو ما لم يحدث، إما بسبب عجز الأطراف المشاركة في مفاوضات فيينا عن التغلب على العقبات المتبقية، وربما لأن إيران والولايات المتحدة فضلتا التريث إلى ما بعد الانتخابات الإيرانية، تحسّبا لاحتمال تعرّض أي اتفاق محتمل إلى هزّة في حال فوز التيار المحافظ.
ليس من الواضح بعد ما إذا كان موقف الإدارة الإيرانية الجديدة، بقيادة إبراهيم رئيسي، من مفاوضات فيينا قد تغير من حيث الجوهر، أم أن التباينات الراهنة لا تخرج عن كونها مجرّد تغيير تكتيكي، يعود إلى تغيير الجياد في العملية التفاوضية، وإلى حاجة الأطراف المعنية إلى وقفة تعبوية، قبل استئناف معركة دبلوماسية صعبة وغير مضمونة النتائج. مع ذلك، يلاحظ أن هذه الإدارة لم تكن في عجلةٍ من أمرها، ولم ترغب في تحديد موعد سريع لاستئناف مفاوضات فيينا. وفي تقديري أن هذا التباطؤ، والذي يبدو لبعضهم مبالغا فيه، وربما يعكس قدرا من سوء النية، يعود إلى سببين رئيسيين:
الأول: موضوعي، فرضته حاجة هذه الإدارة إلى الاطلاع على تفاصيل ما جرى في جولات التفاوض السابقة، وتقييم نتائجها في ضوء قناعاتها ورؤيتها الفكرية والسياسية المختلفة عن رؤية الإدارة السابقة، خصوصا أن الفروق الأيديولوجية والسياسية تبدو واضحةً بين تياري المحافظين والمعتدلين حول كيفية التعامل مع مختلف ملفات السياستين، الداخلية والخارجية، ومنها الملف النووي الذي يتسم فيه موقف التيار المحافظ بقدر ملحوظ من التشدّد.
الثاني: ذاتي أو ظرفي، فرضه اندفاع إسرائيل نحو التصعيد في مواجهة إيران، خصوصا عقب الانتخابات التشريعية التي أتت بنفتالي بينت رئيسا للوزراء، فلكي يثبت الأخير أن موقفه من ملف إيران النووي ليس أقل تشدّدا من موقف سلفه نتنياهو، راح يمارس ضغوطا هائلة لحمل الإدارة الأميركية الجديدة على عدم العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، من خلال التصعيد على جبهتي حرب الناقلات والحرب السيبرانية. ولأنه كان من الصعب على إيران أن تقتنع بجدّية الإدارة الأميركية في التفاوض معها في ظل استمرار التصعيد الإسرائيلي. يبدو أن ضغوطا أميركية مورست على إسرائيل التي لم تهدأ نسبيا إلا بعد صدور تصريح من وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، أن كل الخيارات ما تزال مطروحة على الطاولة، ما يعني بوضوح أن الولايات المتحدة لا تستبعد القيام بعمل عسكري ضد إيران، في حال عدم التوصل إلى نتيجة مرضية، ليس بالنسبة لها فقط وإنما بالنسبة لإسرائيل أيضا.
معروف أن إيران اتخذت إجراءات هدفت إلى تحسين موقفها في مفاوضات فيينا، في حال توفر الشروط الملائمة لاستئنافها، من أهمها: وقف العمل بالبروتوكول الإضافي لمعاهدة الحد من الانتشار النووي، تنفيذا لقرار سابق أصدره البرلمان، والشروع في تخصيب اليورانيوم بمعدّلات تتجاوز تلك المنصوص عليها في الاتفاق النووي. ويلاحظ هنا حدّة الذكاء الإيراني في التكتيك التفاوضي المستخدم عقب الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي، فإيران لم تعلن انسحابها من هذا الاتفاق، ردّا على الانسحاب الأميركي منه، خصوصا في ظل استمرار التزام الأطراف الأخرى به، لكنها حرصت، في الوقت نفسه، على إثبات أن لديها أوراقا أخرى تستطيع أن تلعبها، فوقف العمل بالبروتوكول الإضافي لمعاهدة حظر الانتشار النووي لا يشكّل خرقا للاتفاق النووي، لأن العمل به لم يكن شرطا، وإنما كان بادرةً إيرانيةً لإثبات مزيد من حسن النية، فضلا عن أن هذه الخطوة بدت إجراء دستوريا واجب النفاذ، بعد صدور قرار بذلك من السلطة التشريعية، لكنه شكل عنصرا نفسيا ضاغطا بشدة على الإدارة الأميركية. وعلى الرغم من إخطار السلطات الإيرانية الوكالة الدولية للطاقة النووية بوقف العمل بهذا البروتوكول، إلا أنها لم تمانع، في الوقت نفسه، من إبرام اتفاق مؤقت معها، يسري لثلاثة أشهر فقط، كي يكون تجديده مشروطا بتغير الموقف الأميركي من مسألة المفاوضات والعقوبات! أما قرار إيران بإنتاج اليورانيوم المخصب بنسبة 20% ثم بنسبة 60%، والذي يشكّل خرقا واضحا للاتفاق النووي، فقد حرصت إيران على أن يبدو وكأنه رد مباشر ومشروع على عمليات التخريب المتكرّرة التي قامت بها إسرائيل لتعطيل أجهزة الطرد المركزي الإيرانية. كما يلاحظ هنا أن إيران بدت شديدة الحرص على أن تكون خططها الخاصة بزيادة نسب التخصيب علنية وشفافة، حتى لا تتيح لأي طرفٍ فرصة للتشكيك في وجود برنامج نووي إيراني سرّي بخلاف البرنامج المعلن. وقد وصلت الجرأة بإيران في هذا الصدد إلى حد إقدام المتحدث باسم هيئة الطاقة النووية، بهروز كمالوندي، على أن يعلن بنفسه أن لدى إيران حاليا 210 كغم من اليورانيوم المخصب بنسبة 20%، بالإضافة إلى 25 كغم من اليورانيوم المخصّب بنسبة 60%، وإنه “ليس بإمكان أي دولة إنتاج هذه الكمية عدا الدول التي تملك السلاح النووي”!
في ضوء ما تقدّم، يرجّح أن تبدأ بالفعل جولة سابعة من مفاوضات فيينا يوم 29 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، غير أن فرص التوصل إلى اتفاق، في هذه الجولة أو في جولات أخرى مقبلة، ما تزال ضئيلة، نظرا إلى البون الشاسع الذي ما يزال يفصل بين الموقفين، الإيراني والأميركي، بشأن تفصيلاتٍ عديدة، فإيران تصرّ على أن على الولايات المتحدة أن ترفع جميع العقوبات التي فرضت عليها بعد الانسحاب الأميركي من الاتفاق، قبل أن تبدأ هي في اتخاذ إجراءات العودة بالتزاماتها إلى الوضع السابق على هذا الانسحاب. وحتى بافتراض أنه يمكن لإيران جدلا أن تقبل بعودة متزامنة ومتدرّجة بالتوازي مع رفع العقوبات، فليس من المتصوّر عقلا أن تقبل بإدخال أي تعديلات على اتفاق 2015. وأقصى ما يمكن أن تذهب إليه في هذا الصدد وعد بالتفاوض بحسن نية حول كل قضايا المنطقة في المستقبل، إذا حصلت على ضمانات قاطعة باحترام الاتفاق النووي هذه المرّة، وعدم تكرار ما جرى في عهد ترامب. ولأنها تعتقد أن الولايات المتحدة لن تغامر بالدخول معها في حرب شاملة ومفتوحة، مهما حاولت إسرائيل جرّها، بالنظر إلى تكلفتها المحتملة الباهظة لكل الأطراف، وربما عدم اليقين من إمكانية حسم الملفات ذات العلاقة بالحرب، فلن يكون أمام الأخيرة سوى العودة إلى اتفاق 2015، ورفع العقوبات كاملة عن إيران، خصوصا أن الوقت يلعب لصالح إيران، ويقرّبها كل يوم من القدرة على الحصول على المعرفة العلمية الكافية لتصنيع القنبلة النووية.
لكن هل ترضخ الولايات المتحدة وتستسلم لهذا المأزق الذي وضعت نفسها فيه؟ سؤالٌ تحتاج الإجابة عنه إلى معالجة منفصلة.
العربي الجديد