مايكل أنجلو أنطونيوني: بين «الأبيض والأسود» والألوان!/ سليم البيك
الانتقالات التقنية في السينما قد تحمل وزراً على أعمالٍ غطت عليها أخرى كان مخرجُها قد كرس اسمه من خلالها، يمكن أن يكون ذلك لأسباب تخص المُخرج ذاته، إذ لم يتكيف تماماً مع الصيغة الجديدة من الأفلام، مثالنا هنا هو تشارلي تشابلن حين دخل الصوت إلى السينما، وقد كان متمنعاً عن مواكبة التقنية الحديثة، وأتت أفلامه مترددة وبمستوى أقل من سابقاتها الصامتة. خلاف ذلك نجده لدى ألفرد هيتشكوك الذي صنع اسمه من خلال أفلامه الملونة وقد شكل بها نقلة (ببعضها) عن أفلام متواضعة بالأبيض والأسود. بخلافه كان السوفييتي سيرغي أيزنشتاين الذي فاقت أفلامه بالأبيض والأسود أهميةً وجودةً أفلامَه الملونة.
بخلاف ثلاثتهم، نجد تجربة خاصة لدى الإيطالي مايكل أنجلو أنطونيوني الذي أبدع في الحالتين، في أفلامه بالأبيض والأسود وفي تلك الملونة، لكن، لأسبقية الأولى، وقد تكرس بها اسمُه كمخرج عالمي من الصف الأول، كان الدخول في شكل جديد، الدخول في صور جديدة، لأفلامه، تحدياً لم يكن في صالح أفلامه التالية، مهما علت جودتها.
لدى أنطونيوني ثلاثية بديعة هي: «المغامرة» 1960، و«الليلة» 1961، و«الكسوف» 1962. في ثلاث سنوات متتالية صنع أنطونيوني واحدة من أجمل الثلاثيات في تاريخ السينما، وكانت الأفلام الثلاثة تكفيه ليكون أحد أكثر المخرجين استثنائية في القرن العشرين، لكنه ألحق ثلاثيته بأفلام بديعة أخرى، كان لتكريس اسمه من خلال الثلاثية المصورة بالأبيض والأسود، تأثير غير سوي على تلقي وتقييم أفلامه التالية تلك، إذ لم تنل حقها في مسيرة أنطونيوني كما في مسيرة السينما الإيطالية والعالمية.
هنا، أشير إلى اثنين من أهمها، وقد صورا بالألوان، هما أول فيلمين بعد الثلاثية. سوء حظهما الوحيد كان تأخرهما، كان في حضورهما بعد تكريس اسم أنطونيوني في ثلاثية رائعة بالأبيض والأسود. هنا، نشير إليهما مفصلاً:
«الصحراء الحمراء» 1964
هو الفيلم الملون الأول للمخرج الإيطالي، وفيه احتفاء جمالي بالألوان وتوظيف بارع لها، لقد تم صبغ حتى الأشجار والفاكهة في العربة، وبعض الأجزاء الداخلية في المصانع والبيوت، بعضها بالرمادي، كأنه استثقل هجرَ الرمادي الذي صور فيه ثلاثيته، وبعضها بالبرتقالي والأحمر وغيرها، كأنه تقصد التحكم بالألوان لتسيدها، مبرزاً تبايناً بين ما يمكن أن يمثله كل منها، وهو موضوع الفيلم الأساسي: التناقض بين رمادية الحداثة والصناعة، وألوان الحياة الطبيعية.
ومع الألوان وتبايناتها يوجد الضباب في مشاهد عدة، ودخان المصانع، والبقع على الألوان حيث كانت. الضباب في إشارة إلى الحالة النفسية للبطلة. وكان المكانُ في الفيلم منطقةً صناعية منعزلة عن العالم، تزدحم بمصانع ضخمة، وكان الزمانُ هو المرحلة الانتقالية إلى الحياة الصناعية الحديثة. والبطلة هنا، بأزمتها النفسية والمعطف الأخضر الذي تجول به بين الإسمنت والممرات الرمادية، تائهة في الضباب، تمثل هذا الانتقال الآدمي إلى الحياة الصناعية، وما يمكن أن تسببه من عزلة وأزمة نفسيتين.
مشهد من فيلم أنطونيوني «بلُوْ آب»
جوليانا (الجميلة وبطلة أنطونيوني في اثنين من ثلاثيته، مونيكا ڤيتي) امرأة هشة وتعاني من أزمة نفسية وقد حاولت الانتحار مراراً، لم تستطع التأقلم مع الحياة الحديثة الخانقة، بضخامة مصانعها وكثافة دخانه السام، تزور زوجها المهندس في الموقع، تلتقي بأحد مساعديه، يتقرب منها مستغلاً اضطرابها النفسي، تزداد حالتها تعقيداً بين زوجها وزميله وابنها، وكذلك انفصالها عن العالم الذي تعيش فيه هي وهؤلاء.
الفيلم، في جانب منه، تجريبي.. لم يقدم حكاية بقدر ما قدم حالة، وهي هنا جوليانا وعالمها الذي حكته مرة لابنها قبل أن ينام، وكانت جزيرة بمياه زرقاء نقية وسماء صافية، العالم الذي يشبهها.
اغتراب جوليانا عن مكانها وزمانها يمتد على طول الفيلم، في نقد واضح لبشاعة وكآبة الحداثة الصناعية وأثرها في نفسية الخاضعين لها، مجاوراً بينها وبين جمالية الطرف الآخر: جوليانا وبراءتَها أولاً، والألوان حيث تكون ثانياً، الألوان التي تريد أن تدهن بها الجدرانَ الرمادية لمتجر تريد أن تفتحه، والألوان الداخلية لكوخ مهجور على الميناء، هناك حيث يترك الناسُ الحياة القاسية في الخارج ليشربوا ويضحكوا ويحبوا ويتدفأوا، هناك فقط نشاهد جوليانا تضحك وترقص، وتقول بأنها تود أن تمارس الحب. الفيلم تصوير تنبؤي وأبوكالبتي للأزمنة الحديثة في حينه، وأتى بشاعرية امتاز بها أنطونيوني في ثلاثيته. نال الفيلم جوائز أهمها الأسد الذهبي في مهرجان فينيسيا السينمائي.
«بلُوْ آب» 1966
سؤال أساسي يطرحه الفيلم من خلال حكايته كلها، وبشكل أكثر تكثيفاً من خلال مشهده الأخير، حيث تلعب مجموعة من المهرجين التنس بكرةٍ متخيلة، البطل يتفرج عليهم، تبتعد الكرة فيطلبون منه جلبها، ويدخل معهم في اللعبة، يحمل الكرة المتخيلة ويرميها باتجاههم.
السؤال هو أين تكون الحقيقة؟ هي في ما نشاهده وفي ما وراء الصورة الواضحة والمباشرة. وهذا السؤال أساسي لدى المخرج الإيطالي وفي هذا الفيلم تحديداً.
توماس (ديفيد هيمينغز) مصور محترف لعارضات أزياء، له استديو خاص به، يعمل كمصور في أكثر من مجال، نزق ولامبال، يجد نفسه مرة في حديقة في جو عاصف خالية إلا من رجل وامرأة يتلاعبان، يلتقط صوراً خلسة، تراه الامرأة (الرائعة فانيسا ريدغريف) وتطلب منه الصور، تلحقه إلى بيته، هناك تصر أكثر على ذلك، يستفزها ويخدعها، فيبقى شريط النيغاتيف عنده ويحمض الصور ويكبر بعض تفاصيلها ليكتشف أن الرجل الذي كان معها ظهر في واحدة من الصور مقتولاً.
رغم ذلك، ليس الفيلم بوليسياً أو معنياً بالتحري عن الجريمة، بل هو فلسفي بالدرجة الأولى، ينقل معنى الإدراك للشيء إلى السينما الفنية، إدراك ما نراه بشكله المباشر، ما يمكن تلخيصه بالسؤال: هل أرى ما أراه؟ (كرة التنس مثلاً). ينقل الفيلم من خلال الموضة في لندن الستينيات، عالم التصوير الفوتوغرافي آنذاك، من خلال لقطات مكرسة للبطل في الاستديو ومع صوره، مع قليل من الكلام وكثير من موسيقى الجاز.
يطرح أنطونيوني سؤاله دون إلزامه بإجابة حاسمة، مجاوراً بين الخيال والواقع، بين الصورة والحقيقة، مدى العلاقة بين الاثنين، فلاحقاً، حين عاد إلى المكان حيث ظهرت الجثة في صورته، لم يجدها مكانها، ولم يكن هنالك أثر للدماء، لكنها كانت في الصورة، وإن بشكل غير واضح، وتوجد أسباب تدعم كلا الظنين: جريمة أم لا جريمة. ظنان على طرفَي المسافة بين ما نراه وما لا نراه، ما تلتقطه الصورة وما هو خلف ذلك، أو ما لم تلتقطه. في مشاهد طويلة صامتة آسرة اكتشف فيها، بروية، الجريمة وقد التُقطت في صوره.
هو الفيلم الأول بالإنكليزية لأنطونيوني، ونال السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي.
كاتب فلسطيني سوري
القدس العربي