معالجة العالم بالثقافة/ بروين حبيب
كشفت أزمة كورونا بطريقة مروعة الحاجة المُلِحة إلى التفكير بطريقة مختلفة، كون حياة الفرد لم تعد محصورة داخل الحدود القومية، بل تخطتها لتشمل كوكب الأرض بأكمله. من هذا الباب تولدت أفكار جديدة لمواجهة التحديات البيئية والصحية والاقتصادية والاجتماعية بسلاح واحد حفاظا على المصلحة العامة.
وإن كانت المشكلة الأساسية هي أن الحل يكمن في قرارات الدول، فإن بسط السلطة العامة لا يتم سوى بمفتاح واحد، هو الثقافة بكل أوجهها المختلفة والمتنوعة.
لقد لعبت السياسة دورا سلبيا جدا في مواجهة الأزمة، ونحن نعيش نتائجها الكارثية المستمرة على مدى سنتين تقريبا، لأن نوعا من «العَدَاء الثقافي» انتشر بين الأفراد المختلفين في الهوية والدين والأفكار الجيوسياسية الخفية، على حساب المصالح الفضلى للبشرية. هكذا تعاملت الدول مع بعضها بعضا بمسار مشتت في حجب الإمدادات الصحية والمعلومات، حتى بات الوضع مأساويا. كان كل تأخير في مداراة الحقائق وإخفائها تدميرا مباشرا للإنسان، وكما قال أمين معلوف في كتابه «غرق الحضارات» أي انهيار مفتعل في جانب من العالم له عواقبه على بقية العالم. وأعتقد أن الصورة اليوم واضحة لمشهد الانهيار العام العالمي، وإن كان البعض لا يزال يرى الأوضاع عند حدود أنفه.
أما الحديث عن عظمة الدول الحديثة وعالميتها وسيادتها وقوتها، من وجهة نظر فلسفية، حتما سيفتح بابا واسعا على هشاشتها أيضا، تلك السيادة و»العظمة» تشكلان قطبين متعارضين لها. وليس من قبيل المصادفة أن تصطدم المعلومة العلمية بجدار حقوق المواطن، والحقوق الجماعية التي تكفلها الدول لشعوبها.
منطقيا انطلق فيروس كورونا من منظومة تتعارض مع حرية الفرد، ما جعل الأزمة تتوسع وتتخطى حدود دولة واحدة، ولنتذكر جميعا كيف تعاملت الشعوب مع الفيروس ومنبعه، كان تعاملا عنصريا لم يهتم بقضبان نظام ديكتاتوري أخفى قدرا كبيرا من الحقائق بقدر ما اهتم بأمور ثانوية جعلت بعضها يعتقد أنه فوق أي وباء محتمل، وفق معطيات ثقافية مرتبطة باختلاف الدين، والجنس والهوية، وهذا ما ضرب به الفيروس عرض الحائط، منبها إلى كيان جديد يجب أن يقبل التنوع الثقافي ويتصالح معه.
أن تكون مع المحرقة أو ضدها، أو مع حرب إبادة أو ضدها، أو مع مقابر جماعية أو ضدها، فإن الإنسان واجه المحنة عاريا هذه المرة، سقطت أسماله الثقافية الواهمة، مختزلة الحياة إلى تجريدها البيولوجي الأساسي، وتوضحَ لنا أن الأزمة «كوكبية» وأن تضخيمها من قبل وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، لم يكن أمرا مأساويا كما قد يعتقد البعض، لقد كان هناك جانب تنويري، سلط الضوء على التقاطعات الإنسانية المشتركة، وعلى أهمية ثقافة أي دولة كمعطىً أساسي لحماية الفرد والجماعة. علينا أن نتذكر المقولة العظيمة لجان مونيه أحد آباء الاتحاد الأوروبي: «إذا كان عليّ أن أبدأ من جديد، فسوف أبدأ من جديد بالثقافة» فمنذ بدأ الإنسان بالتفكير كانت الثقافة نقطة توازن بين الدفاع عن المصلحة العامة، وعن حقوق أخرى أساسية في كل دولة. أما عن الإخفاق الذي سجلته أقطاب دولية كثيرة، منها ما هو سيادي في الظاهر، خوفا من انتهاكات العولمة، فهو سبب آخر قوي لانحسار مجتمعات بأكملها خلف حدود عنصرية فاصلة بينها وبين غيرها، تنامت فيها الكراهية نحو الآخر، وهذا ما جعلها تتآكل بين قضبانها بشكل ذاتي، كما حدث لأغلب المجتمعات التي كانت تعتقد أن التدين الزائد أو تمسكها برايتها الوطنية كاف لنهوضها وانتصارها على كل مشكلات العالم الجديدة، بدءا بهذه الجائحة غير المفهومة إلى أزمة الطاقة والكساد الاقتصادي العالمي.
التحدي الكبير اليوم هو فهم دور الثقافة لتجاوز حدود المكان والخوف من الآخر، بما يتماشى مع عصر التنوير، و»القرية المعولمة» التي ننتمي إليها. فعلى ما يبدو أن اتفاقيات اليونيسكو بشأن تعزيز وحماية التنوع الثقافي ظلت في أغلبها مجرد حبر على ورق، سواء بالنسبة للدول المتقدمة أو لدول العالم الثالث، لأنها حُصِرت في استعراض الاختلاف في محافل بقيت حبيسة النخب، وظلت بعيدة عن ذوبانها في مفاهيم المواطن العادي، الذي يعتبر جاره الافريقي أو الصيني أو المسلم أو المسيحي أو غيره مصدر قلق وازعاج بسبب ثقافته.
أريد أن أوضح فقط أن تناولي لفيروس كورونا هنا مرتبط بالأزمة الثقافية العالمية، كونه أعطانا درسا عظيما للتعامل مع الذكاء الجماعي بالطريقة المثلى، سواء كنا مستقلين أو غير مستقلين، للحفاظ على توازننا الهش والمعقد بالورقة الرابحة الوحيدة: «الثقافة». أضخم الشركات الصناعية في العالم فهمت متلازمة «الثقافة والثروة» وهي متلازمة بقيت عصية على الفهم بالنسبة لرؤساء الدول، الذين يمنحونها دائما نصيبا هزيلا من ميزانيتهم، وهي القطاع الذي غالبا ما يتم الاستهزاء به، لكن لنكن واقعيين ونترك لغة الأرقام تتحدث:
«تسعة وعشرون ونصف مليون شخص في العالم يعملون في القطاعات الثقافية مثل الفنون البصرية، الإعلام، العمارة، الكتب، الألعاب، الموسيقى، السينما، الألبسة، مصممي السيارات، ومركبات التنقل، إلخ، وهم يمثلون أكبر نسبة من الأيدي العاملة في مصانع السيارات نفسها في القارات المنتجة لها» هذا غير عمليات التسويق التي تحتاج دوما لرؤية موضوعية وشاملة لثقافة أي مجتمع قبل إغراقه بسلعة معينة.
تعطينا إحدى المنصات الإحصائية رقما خياليا لمداخيل المتاحف في العالم، إذ عبر 280 متحفا تم مسحها، كان عدد الزوار قبل كورونا يتجاوز الـ 230 مليون زائر، تراجع هذا الرقم بسبب الإغلاق وليس بسبب الخوف من الجائحة، لأن المتاحف ظلت أماكن آمنة للزيارة مقارنة مع غيرها، أما مداخيلها فتعتبر ممتازة رغم هذه الإجراءات التي طالتها. غير ذلك فإن التلفزيون والمنصات الرقمية تحقق مداخيل مذهلة، رغم كل الأزمات العالمية بما فيها أزمة كوفيد 19، ونتاجها يفوق دوما نتاجات قطاعات أخرى، لسبب بسيط وهو أن القطاعات الثقافية تعتمد على المواهب والأدمغة، وهي الثروة الدائمة والضرورية خلافا لثروات أخرى في الطبيعة.
وهذا الاستنتاج هو نفسه الذي خلص إليه الموسيقي الشهير جان ميشيل جار سفير اليونيسكو للنوايا الحسنة: «تساعد صناعاتنا الإبداعية في بناء اقتصاد مستدام، وخلق فرص محلية تؤمن دخلا ومصادر للضرائب، وتسمح لملايين الأشخاص معظمهم من الشباب بتحقيق العيش من خلال مواهبهم». وقد أشرف على دراسة أتْبعها بنداء لصانعي السياسات في جميع أنحاء العالم لحماية المبدعين لأنهم الحماة الحقيقيون للاقتصاد.
تبدو المصالحة الثقافية اليوم من الأولويات الضرورية لتصحيح مسار أعضاء المجموعة البشرية ببعضهم بعضا في قريتهم العالمية المشتركة، والاستفادة من تدفقات أفكارهم ومعارفهم وطقوسهم المتعددة، دون المساس بمعتقداتهم وخيالاتهم وقواعدهم المتحكمة في علاقاتهم الخاصة على المستوى الداخلي بدلا من الاستسلام للكراهية القومية، التي تُمَرر تحت ستار الوطنية على رأي ليو تولستوي، ما يجعل أجيالنا الشابة رهينة الخوف من الآخر، فتندفع نحو المهن العسكرية التي تعمل على تقسيم الرجال، وتعليمهم أصول الوحشية… إن ذبح غرباء مجهولين دون أدنى ذريعة هو أفظع جريمة يمارسها الإنسان ضد نفسه، وهذا طرح بديهي ندركه طالما نحن محافظون على استقلالنا التعبيري، فالمسألة الثقافية كلها مبنية على هذه القاعدة المهمة. استقلال أو حرية التعبير متى ما توفر للفنانين والمبدعين تفشى تأثيره بين الشعوب والمجتمعات. من غير المنطقي أن نعتبر هذا التنوع دافعا لاندلاع معركة، لأن انتصار طرف من الأطراف لا يعني أبدا انتصارا للحق، بل مجرد عملية تدمير للآخر المسالم أو الضعيف. وبقاء نوع ثقافي واحد يستحيل أن يكون أبديا، فكل ثقافة تشهد تغيرات مستمرة حتى إن ظلت معزولة عن غيرها لآلاف السنين، والدليل أننا في البيت الواحد نمتلك عدة ثقافات بيننا كأفراد من الجيل نفسه ومن أجيال مختلفة وهذا ما يجعل حياتنا جميلة ومتميزة ولها نكهة خاصة، تحديدا عند توقفنا عند عتبات تنوعها.
شاعرة وإعلامية من البحرين
القدس العربي