الفقراء الفائضون عن حاجة العالم/ بلال خبيز
لنفترض أن كل فقراء شنغهاي ومعوزيها تظاهروا في ساحاتها وانتظموا في حزب سياسي. فما الذي يمكن أن يحققوه؟ على الأثر سيهرّب المتمولون الكبار أموالهم ويصفّون شركاتهم وينتقلون إلى أماكن أخرى في العالم أكثر ترحيبًا بهم وأقل ميلًا لإحداث قلاقل وأعمال شغب. وفي الأثناء ستتأثر دورات الإنتاج سلبًا، وتعجز المصانع والمزارع ومشاغل الخياطة عن تسليم منتجاتها في الوقت المناسب. وأكثر من ذلك، سيصبح توصيل السلع الأساسية إلى المحال التجارية أمرًا معقدًا، ما يؤدي إلى تزايد الطلب على المعروض منها، وتاليًا ارتفاع أسعارها.
هذا الوصف لا يأتي بجديد. الجائحة أيضًا تترك الأثر نفسه للاضطراب العام. وهذه الأحوال الموصوفة هي الأحوال التي فرضتها جائحة كورونا على نحو لم يكن يرغب به أحد، لا فقراء العالم ولا أغنياؤه. لكن هذا الوصف يؤشر من جهة ثانية إلى استحالة الانتقال من صعيد الاحتجاج إلى صعيد صناعة السياسة والشأن العام. ما إن تبدأ الاحتجاجات في بلد ما حتى يصبح سياسته واقتصاده موقوفان، واستمرار الاحتجاجات يؤدي إلى خروج البلاد التي تجري فيها الاحتجاجات أو الحروب الأهلية من التداول على كل المستويات. وتحولها إلى أرض للكارثة. والنتيجة التي يمكن أن يتوصل إليها المرء وهو ويراقب صعوبات النضال السياسي والطبقي في أيامنا لا تتعدى الحكم التالي: لم يعد للطبقات الدنيا أي وظيفة في العالم، ولأول مرة في التاريخ، يبدو أمر اختفائها مرحبًا به، ومطلوبًا. الطبقات العاملة في معظم دول العالم باتت اليوم غير ضرورية، بل وتكاد تكون في الدول الغنية مضرة ومكلفة على نحو متعاظم. ناشطو السترات الصفر في فرنسا يتظاهرون منذ دهر تقريبًا. ويبدلون مواقفهم السياسية والأيديولوجية كل فترة من الزمن. لكنهم لا يحققون شيئًا يذكر. بل إن فرنسا التي تعدّ واحدة من الدول العشر الأوائل في العالم على المستويات كافة، تضيق بهم إلى الحد الذي تعجز معه عن تلبية أي من مطالبهم.
أثر التظاهرات وإقفال الأحياز العامة وبث الاضطراب في أرجائها يشبه كثيرًا الأثر الذي تركته الجائحة في الصين. حيث يؤدي انخفاض إنتاج الطاقة إلى تراجع في إنتاج السلع وتأخير في تصديرها ونقلها. وتاليًا إلى تضخم في حجم اليد العاملة وتناقص في أجورها. ذلك أنه حتى الصين نفسها، وهي الطامحة لقيادة العالم من دون امتلاك ما يؤهلها لاستلام الدفة، تعتمد في معظم المجالات على تصدير صناعاتها للعالم الخارجي مستفيدة من تدني أجور يدها العاملة. فلا تصدّر الصين للعالم أي سلعة يمكن اعتبارها مما لا يمكن الاستغناء عنه أو استبداله. ذلك أن مثل هذه السلع التي تصنع السلطة اليوم، تكاد تكون محتكرة من قبل الولايات المتحدة، مع هوامش ضئيلة أوروبية وآسيوية وأسترالية.
السلع التي لا يمكن استبدالها هي السلع الوحيدة التي تملك هوية قومية. كأن نقول إن فيراري إيطالية، ومرسيدس ألمانية، وشانيل فرنسية، وسامسونج كورية جنوبية، وسوني يابانية، وتسلا أمريكية. ما عدا ذلك لا يعدو كونه صناعة متوسطة التقنية ومتواضعة السمعة يمكن لأي بلد تقليدها على نحو يؤدي عاجلًا أم آجلًا إلى خسارتها وتهديدها.
والحال، إذا أردت أن تتظاهر في هامبورغ عليك أن تكون عاملًا في مرسيدس حتى يمكنك أن تحقق مطالبك. أما إذا كنت مراقبًا على خطوط سكة الحديد، أو عامل بلدية فإن تظاهرك لا يحقق مطالبك آنيًا، ويضر بمستقبلك حكما، لأنه يضر بمستقبل البلاد التي تخوض منافسة عالمية لا تملك معها ترف انتظار تحقيق مطالبك أو حتى الاستماع إليها.
في الولايات المتحدة الأمريكية اضطرت شركات الخدمات المتنوعة إلى رفع معدل الأجور لعامليها من دون أن يطالبوا بذلك أصلًا، أو أن يتظاهروا في الشوارع لتلبية مطالبهم. المسألة كانت بسيطة إلى حد مذهل ومعقدة إلى حد مذهل أيضًا: الشركات تعرض وظائف شاغرة ولا يتقدم إليها أحد، ما دفعها إلى رفع الأجور لترغيب القادرين على العمل ودفعهم للتقدم إلى تلك الوظائف. هذا ما يتعلق بالبساطة المذهلة. من جهة ثانية، فإن جائحة كورونا جعلت من هذه الوظائف تحديدًا وظائف خطرة، لأن العاملين فيها مضطرون للاحتكاك بالزبائن طوال الوقت. وعليه، رأى هؤلاء أن حجم المخاطرة في ساعات العمل يفوق بأضعاف المردود المادي. فتمنعوا عن التقدم لتلك الوظائف. وحيث إن هذه الوظائف يشغلها في العادة مهاجرون من دول “فقيرة” أو من أرياف فقيرة هي الأخرى، أو طلاب جامعيون يعملون في هذه الوظائف لدعم مداخيلهم ودفع جزء من أقساطهم. فإن هؤلاء فضلوا الانتظار في بيوت ذويهم إلى أن تنتهي الجائحة. أو قاموا بهجرة عكسية إلى المناطق التي يتحدرون منها تجنبًا لكلفة السكن المرتفعة في المدن وكلفة الاكتظاظ السكاني في زمن الجائحة. والنتيجة حقق هؤلاء ما عجزت ثورات عن تحقيقه، رغم التضحيات التي بذلت في تلك الثورات والغضب الذي تخللها وأججها أصلًا.
لكن ما حققه الأمريكيون لا ينسحب بالسلاسة نفسها على دول العالم الأخرى. فلو أعطينا هذه الوصفة للعمال الصينيين، لماتوا جوعًا قبل أن ترفع الشركات الحد الأدنى للأجور. وحتى لو نصحنا عمال دولة أكثر رخاء من الصين بهذه النصيحة، كألمانيا مثلًا، فإن نجاحها شبه مستحيل. ذلك أن الرخاء الألماني يعتمد أيضًا على السوق الأمريكية. فمن دون تصدير متعاظم إلى هذه السوق ستدخل البلاد في “كساد تضخمي” يترك أثره الخطير على مجمل الاقتصاد.
ما الخلاصة؟ ما بات واضحًا لكل عين هو التالي: لا مكان للفقراء في هذا العالم، ولو حدث واختفوا من الوجود لتحسنت المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية وخفتت وتيرة العنف اليومي، وقلت نسبة الجرائم. هل نلوم الفقراء على كونهم أول ضحايا هذا السعي الإنساني المحموم نحو الاستغناء عن الإنسان؟ الأرجح أننا سنجد من يلومهم، خصوصًا في صفوف اليمينيين والعنصريين الذين يتكاثرون كالفطر على رماد الكارثة. لكن المعضلة الحقيقية، تكمن في أن المتعقلين لا يملكون قدرة على لوم النظام الذي يفرض علينا هذا السعي المحموم نحو إلغاء أنفسنا. ذلك أنه لنتمكن من لومه نحتاج أن ننخرط فيه بحماسة لا مثيل لها، وأن ننفق مدخراتنا ومعظم مداخيلنا لنبقى ضمن دائرته. ففي هذه الحال فقط يمكننا أن نسمع صوتنا ونرى رأينا. لكن النظام نفسه لن يتأثر: إذا كنتم أيها المتعقلون المتنورون تريدون الشكوى من عسف النظام، فلا بأس، اشتركوا بقنواتنا وادفعوا ما يتوجب عليكم لقاء خدماتنا، واشتروا أحدث منتجاتنا التكنولوجية لكي تضمنوا وصول رسائلكم إلى من تريدون إيصالها.
الترا صوت