مراجعات الكتب

الفن السوري في المنفى.. تجارب وحكايات شخصية/ علاء رشيدي

يتضمن الكتاب الذي أصدرته الباحثتان دنيا الدهان وكورين روندو تحت عنوان “فنانون سوريون في المنفى، أعمال وحكايات”، بالإضافة إلى مجموعة الأعمال الفنية التي قدمت في معرض بعنوان (أين منزل صديقي؟، باريس، 2019)، مجموعة من نصوص الشهادات التي أجرتها الباحثتان في حوارات مع فنانين/ات سوريين/ات في المنفى، تمحورت حول أربعة أسئلة تضمنتها مقدمة الكتاب:

1-  ما هي الأحداث العامة خلال السنوات العشر الماضيّة التي أثرت بك بشدة؟

2-  ما هي الأحداث الشخصية خلال السنوات العشر الماضية التي لمستك بشدة؟

3-  من أنت اليوم؟

4-  من ستكون بعد عشرة أعوام؟

توضح الكاتبة دنيا الدهان في نصها بعنوان (العبور من خلال المرآة) أن هذه النصوص ليست تصريحات أو كتابات، بل تحتفظ بشفاهيتها، إنها ذكريات، مشاعر، انطباعات، أو أحلام تتشكل من خلال الحوارات. ولذلك، فإن الكتاب يجمع بين الشهادات من الذاكرة الشخصية، وكذلك أحداثًا من الأحداث الجمعية التي عايشها الفنانون/ات، وكذلك حكايات ألهمت تجارب أو أعمالًا فنية يرويها 24 فنانًا وفنانة. كما تحوي الحوارات موضوعات تشغل فكر الإنتاج الفني والثقافي السوري من خلال العلاقة بين الفن والالتزام السياسي، الفن والهموم الفردية، الفن والمنفى والوطن. كذلك تشمل انشغالات الفنانين والفنانات في مستقبل تجربتهم الفنية.

تجارب وحكايات شخصية ألهمت أعمالًا فنية

المظاهرات، القمع، الاعتقال، العنف، الهجرة والنزوح هي الأحداث المؤثرة في الذاكرة الفردية لكل من المشاركين والمشاركات في الكتاب. تروي الفنانة عزة أبو ربيعة حكاية عن فترة الاعتقال، حين طلبت منها المعتقلة الأمية هانيا أن تعلمها رسم منزلها، ثم علقت هانيا رسمةً لمنزلها إلى جانب زهرة وضعتها عند سريرها، وقالت: “ها قد أصبحت في منزلي”. حكاية تبين أثر الرسم على الجانب النفسي والفكري في تجربة الاعتقال. إن الخطوط الرمزية التي تشكل رسمة البيت ورسمة الوردة منحت المعتقلة جزءًا من ذلك الشعور الذي تبحث عنه، بعضًا من الحميمية والطمأنينة. بالمقابل، تقول الفنانة عزة أبو ربيعة بأنها تشعر بالذنب، كونها خرجت من المعتقل بدون زميلاتها، لكن هذا الذنب أصبح دافعًا ومحركًا فنيًا: “لذلك، قررت أن تكون رسوماتي شهادات عما يعيشه المعتقلون والمعتقلات”.

أسئلة الهوية الثقافية والقلق الوجودي

كما تتنوع الأحداث العامة والشخصية التي يختارها الفنانون/ات في السؤالين الأول والثاني، فإن السؤالين الثالث والأخير يفتحان على أسئلة هوية الفنان في تعريفه لذاته في اللحظة الراهنة، وفي رؤيته المستقبلية لهذه الهوية، وتعرف الفنانة علا العبد الله نفسها بالفنانة الملتزمة وهي تشعر في اللحظة الراهنة بأنها “منقطعة عن الجذور، ونحن نعيش في انتظار هذه العودة الكبيرة”. ويظهر سؤال الهوية واضحًا في إجابات الفنان علاء أبو شاهين: “ولدت في سورية، أعيش في فرنسا، ولكنني لست فرنسيًا، ولم أعد سوريًا كذلك”، متسائلًا عن إمكانية التفكير بالعودة إلى سورية مستقبلًا: “هل يجب عليّ التفكير بأمل العودة إلى سورية آمنة وديمقراطية؟”.

بعض الأعمال الفنية المشاركة في المعرض والموجودة في الكتاب أكثر تعبيرًا عن الموضوعات التي تطرحها النصوص من أعمال أخرى. في عمل بعنوان (انضغاط، 2015) للفنان دينو أحمد علي، تشكل الخطوط المينمالية بالأبيض والأسود كامل مساحة التصميم البصري، فتحيل إلى ما يشبه القضبان الحديدية التي تضغط حضور العنصر البشري القابع في عمق وسط الصورة. يشكل العمل الفني مفهوم الانضغاط ليس على المستوى التشكيلي فحسب، ولكن ذهنيًا من خلال تجربة المتلقي في تأويل العمل الفني. فالإنضغاط المتجسد بصريًا من خلال عناصر الصورة، هو أيضًا انطباع ذهني يشكله المتلقي عند احتكاكه مع هذا العمل الفني. منذ البدايات، كرس الفنان دينو أحمد علي قدراته الفنية في مجال تصميم البوسترات والملصقات في سبيل النضال للقضايا التي يؤمن بها، وقد عاش الفنان تجربة اعتقال دفعته للقناعة بأن سورية تعيش “مرحلة من العبثية، الفوضى، والعنف الذي يفوق الخيال”، وعند وصوله إلى أوروبا، يعبر الفنان عن صدمة الفارق بين حياة الثقل والخفة على حد تعبيره: “كيف لي أن أعبر بهذه السهولة بين عالم يعيش أحداثًا صادمة وعالم آخر يعيش أحداث الخفة؟”.

الاعتقال وطغيان العنف والسلاح

تعود بنا أعمال الفنان عجاج سليم إلى ما قبل عام 2011. فمنذ عام 2009 تناول الفنان موضوعة التعذيب في السجون ضمن مجموعة أعمال بعنوان (لحظات قبل التراجيديا)، وعالج معرضه الأخير في سورية عام 2010، موضوعة الجنود والمسلحين والعسكر، وهي تيمات ستستمر حاضرة في الشخصيات الفنية التي عالجها الفنان حتى تجربته الفنية الحالية. كذلك تنطلق أعمال الفنان نجاح البقاعي من تجربة الاعتقال التي عايشها، وتشكل لوحاته عملًا توثيقيًا لأوضاع السجون من حيث الاكتظاظ والمساحة وأساليب وأدوات التعذيب المستعملة. في عمله بعنوان (الزنزانة القديمة ذات الرقم 227، 2017) من الحبر، يحمل أيضًا مضمون الانضغاط، إنها الأجساد المكتظة في الزنزانة، يجسد العمل السجن كمكان تنضغط فيه الأجساد بجانب بعضها البعض، في وضعيات النوم الجانبي أحيانًا أو الوقوف العمودي من منظور آخر في رؤية العمل. لتحقيق التأثير المطلوب على المتلقي، يسعى الرسام إلى الجمع بين منظوري الأجساد المكتظة كجماعة، وحكاية كل سجين منها على حدة، الانطباع الأولي على العين الناظرة يماثل أجساد المعتقلين، ثم ما يلبث أن يلمح خصوصية في التعابير أو الوضعيات لكل منها.

المدن والأمكنة بين المنفى والمستقبل

تحضر المدن والأمكنة بجلاء في أعمال الفنانة بيسان الشريف، تعرفنا صور الكتاب على عملي فيديو للفنانة حيث تحضر المدينة كموضوعة أساسية، الأول بعنوان (شام، مخطط عن دمشق، 2018)، والثاني بالتعاون مع الفنان محمد عمران بعنوان (بدون سماء، 2014). إن الصور التي يتضمنها الكتاب عن هذين العملين (لم نتمكن من مشاهدة الفيديو) تبيّن دمشق بين المدينة الحقيقية والمتخيلة، فإن كان العمل الأول يقدم مخططًا لدمشق محققًا من خلال الإضاءة والأشعة اللونية الكثيفة التي تبين المدينة على أنها حلم التطور والتكنولوجيا المعاصرة، فإن صور العمل الثاني تعالج فيه الفنانة الخراب والدمار الذي أحاق بالمدن السورية، وعنوان العمل (بدون سماء) هو إحالة إلى الأبنية المهجورة من سكانها، الراحلين إلى المجهول. كما في الأعمال الفنية، كذلك الحال في الشهادات النصية تحضر المدن، الأمكنة: سورية وأوروبا، دمشق، باريس أو برلين، وتحضر موضوعات الحنين أو مقاومة الحنين، الاندماج أو الانتماء كلها أسئلة حاضرة في ذهن أصحاب وصاحبات الشهادات.

الدمار والخراب كموضوعة فنية ميزت أيضًا تجربة الفنان تمام عزام، وعمله المشارك في المعرض بعنوان (سفرة موفقة، 2013) يجسد مجموعة كبيرة من البلالين الملونة التي ترفع إلى السماء بناء مهدمًا. تتضمن الصورة المصممة رقميًا تلك المفارقة بين عالم البلالين الطفولي الهزلي الكثيف لونيًا، وبين عالم البناء المهدم الرمادي المتقشف لونيًا، ويجمع العمل بين الفانتازي المتولد من فكرة انعدام جاذبية بناء مهدم، وبين الواقعية التي جسد فيها الرسام الدمار في كل طابق من طوابق البناء على حدة، الفانتازيا في تخيل العمل الفني، والمأساة في تلمس أثره الحقيقي على الواقع، أي واقع الدمار في الجغرافية السورية. يثير سؤال الهوية عند الفنان تمام عزام فكرة انتماء المبدع إلى مهنته وأعماله، فكما يقول الشاعر أدونيس بأن: “اللغة هي وطني”، يجيب الفنان عزام على سؤال الهوية: “أنا فنان، وأنا سوري لأني ولدت في سورية، لكنني الآن أنتمي إلى أعمالي”.

الراهن السياسي في الفن المفاهيمي

تميزت تجربة الفنان خالد بركة بالأعمال الإبداعية المفاهيمية حول وقائع من الحياة السياسية والاجتماعية السورية في السنوات العشر الماضية، يروي عن حكاية العمل الفني الذي استوحاه من: “فيديو شاهده عن رجل مربوط إلى سرير المستشفى من خلال الأسلاك الكهربائية. كان الرجل المكبل قد حطم تمثالًا للرئيس حافظ الأسد فتم اقتطاع قدميه، وكان مسطحًا في سرير المستشفى ومن فوقه يتحدث الأطباء والمسعفون بخفة. لقد هزني ذلك بقوة، وأردت أن أعيد تشكيل القدمين المفقودتين من أحجار التمثال الذي تم تحطيمه”. أما عمل الفنان خالد بركة المشارك في المعرض بعنوان (On the ropes، 2018) فيتناول تجربة جمعية سورية، هي الهجرة والنزوح. العمل يتشكل من حقيبة ترتفع بعكس الجاذبية في الهواء، مما يوحي بخفة المصير وفقدان القدرة على التحكم، وحتى الكراسي الخشبية والأغراض المعدنية الموجودة في الصورة، ترتفع أيضًا عن الهواء، لخلق عالم فيزيائي مقلق، وتجربة بصرية- ذهنية توحي بعدم الاستقرار، بالاحتمال المستمر لإمكانية السقوط.

ويعيدنا عمل الفنانة ديالا برصلي إلى حكاية عازف الناي الذي ينقذ المدينة من الشرور وهي واحدة من أشهر حكايات الأخوين غريم، وفي نسخ أخرى من نفس الحكاية يقود عازف الناس مجموعة من البشر خارج المدينة، في لوحة برصلي تصبح المرأة هي عازفة للناي، ونرى من خلفها مجموعة من الشخصيات التي تتبعها راقصة، إنها القوى العسكرية أو القوى المتصارعة أيديولوجيًا في سورية من العسكر القمعي إلى التشدد الديني، إنها الأيديولوجية التي نخشاها تظهر في شخصيات اللوحة، مسحورة بألحان الناي كأنها مقادةً للبعيد. تعبر اللوحة عن أمل باطني برؤية هذه الشخصيات وقد اقتيدت عبر الألحان لكن بعيدًا عن الذاكرة، بعيدًا عن الحضور البصري في سورية المعاصرة أو المستقبلية، والموسيقى هي خيار الفنانة للتأثير على أنواع المقاتلين المتعددة.

تجاور الأسئلة الشخصية والسياسية والفنية

ويقارب عمل الفنان بادي دلول بعنوان (Scrapbook، 2015) بين سورية وهيروشيما، المدينة الأكثر تضررًا بالقنبلة النووية في الحرب العالمية الثانية، ويعرف الفنان نفسه أمام سؤال الهوية بكونه “فنانًا فرنسيًا بتراث سوري”. أما النحات خالد ضوا فيشارك بعملين، الأول من التراب المشوي والآخر من البرونز. في الأول يتشكل الحضور الإنساني من خلال مجموعة من الأسلاك التي تقيده إلى الكرسي، وفي الثاني يتشكل الحضور الإنساني من تراكم قطع من حجارة الركام. في كلا العملين الأدوات التي تقيّد الإنسان هي بذاتها من تشكل حضوره، يفتح العملان على مفاهيم الحضور الإنساني الوجودي المقيد، المهزوم، والمغلق على نفسه، وغير القادر على التواصل. إن الحضور الإنساني في العملين يمتنع عن التواصل مع عين المتلقي، ينغلق على وضعية المراد أن يقولاه كعملين فنيين. لذلك، يمتلك العملان تلك القدرة على معالجة السياسي إلى جانب الوجودي والنفسي والتواصلي.

وتشارك الفنانة سلافة حجازي بواحد من أعمالها الرقمية من السلسلة التي انتقدت فيها ثقافة العسكرة السائدة في المجتمع السوري، وهي تظهر ماكينة خياطة تخيط بدلة عسكرية، لكن بدلًا من بكرة الصوف أعلى ماكينة الخياطة، نجد جمجمة إنسانية تعبر عن الموت، إنه فكر الموت الذي يجند الناس نحو الموت، إنه فكر الحرب الذي يتحكم بأقدار البشر هازئًا، ذلك أن وجه الهيكل العظمي يبدو بتعابير سادية وساخرة. كذلك الأمر مع تجربة الفنان محمد عمران فمنذ عام 2011، بدأ بتقديم أعمال فنية تجسد شخصيات الحكم العسكري، بصريات الحزب الواحد، دمج بين الجسد الإنساني والآلة الميكانيكية التي تشكل حضور السلاح، في عمله (النخبة، أو VIP، 2018) يتسع المفهوم الذي تحضر من خلاله الشخصيات من الحكم العسكري إلى النخبة الاقتصادية وأحيانًا الثقافية المترفعة عن الواقع. عنوان العمل يوحي بأوليغارشية يرغب الفنان بتجسيدها كأنها نصب نصفية لشخصيات وطنية أو تاريخية، لذلك يختار لها الامتداد الجسدي بين البورتريه وأعلى الجذع، وخيار اللون الزهري الفاقع مثير لاحتمالات الخيال النفسية في الحكم على هذه الشخصيات. أما في رسوماته الحبر على ورق بعنوان (عالم من الرجال، 2018)، حيث تسود العناصر البصرية لعالم مؤلف من شخصيات ذكورية، فيمكن مماثلتها مع الشخصيات الحاضرة في عمله (نخبة)، النظارات السوداء والبدلة الرسمية تميز الشخصيات المرسومة في اللوحة. إن رسومات الحبر والعمل النحتي للفنان يدينان الطبقة النخبوية السائدة بأفكارها بمقدار ما هي الحاكمة والمسيطرة.

تحضر الأمكنة مجددًا كمفهوم في لوحة الفنانة ريم يسوف بعنوان (إلى صديقتي مي، 2018) التي تقسم فيها المساحة كاملة إلى مربعات توحي بالشقق الصغيرة المعزولة والمتجاورة، مما يذكر بالرسومات الرمزية عن العزلة في المجتمعات الرأسمالية، حيث الشقق الصغيرة المتجاورة دون أن تكون متواصلة، متلاصقة لكن النظر إليها ككتلة عمارية تضم فيها شخصيات معزولة، هل هذه اللوحة التي تهديها الفنانة إلى صديقتها مي هي تعبير عن المنازل في تجربة المنفى؟ هل تقدم اللوحة سردًا بصريًا هندسيًا لموضوعة الشتات السوري وانعدام التواصل بين الأصدقاء في المنافي؟ تروي الفنانة عن تجربتها في الحصول على تأشيرة اللجوء: “لقد كانت بمثابة الإعلان الحقيقي عن ابتعادي عن بلدي. في تلك اللحظة استوعبت بالتمام أني غادرت بعيدًا، وتملكني الخوف من مصير المنفيين بعيدًا عن أوطانهم لسنوات طويلة دون أمل بالعودة، لكن من يدري ما يخبئ المستقبل؟”.

المدن، الأمكنة، الهويات، السلطة السياسية والدينية، العلاقة بين الماضي والحاضر والمستقبل، العلاقة بين المنفى والوطن الأصل، وأسئلة الفن الذاتية والشخصية، هي الموضوعات التي تشكل محاور الأعمال الفنية التي يتضمنها الكتاب، والتي تتمحور حولها أسئلة الشهادات، ولذلك فإن المعرض والكتاب محاولة فنية وثقافية تشكل مدخلًا لدراسات نقدية تهتم بتحديد خصائص وموضوعات الفن السوري في المنفى وأسئلة المبدعين والمبدعات حول المصير الشخصي والتجربة الفنية الخاصة لكل منهم/ن.

عنوان الكتاب: فنانون سوريون في المنفى، أعمال وحكايات المؤلف: دنيا الدهان وكورين روندو

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى