سالي روني: «العداء للعبرية» هذه المرّة؟/ صبحي حديدي
سالي روني Sally Rooney روائية إيرلندية شابة (31 سنة) صاعدة بقوّة على مستويات شتى تخصّ فنّ الرواية المعاصرة، وأساليب السرد المنشغلة بالحقبة الراهنة من معضلات الوجود الإنساني، ومصائر هذا النوع الأدبي لجهة مقدرته على التقاط تيه البشر وعذاباتهم في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين. وهذه سطور لا تتردد في اعتبار روني خير وريثة معاصرة للروائي البريطاني/ الأمريكي هنري جيمس (1834-1916) رغم ما تنطوي عليه المقارنة من إشكالية زمنية وجندرية بين روائي كتب أرفع أعماله («صورة امرأة» 1881) في سنّ 47 سنة، وروائية امرأة نشرت عملها الأشهر («أناس عاديون» 2018) وهي في سنّ 27 سنة؛ عدا عن إشكاليات أخرى تخصّ الأسلوب، والمناخات، واللغة، والشخصيات.
هي، إلى هذا، باتت «ظاهرة» في تقدير نقّاد الرواية وناشريها، على صعيد علاقة الكتاب الروائي مع الجمهور، من حيث الإقبال العريض على شراء رواية تبلغ مبيعاتها ملايين النسخ، أو الإقبال الأعرض بالأحرى، إذا احتسب المرء سطوة الرواية في ميادين الفيديو والمسلسلات والسينما، والترجمة إلى أكثر من 50 لغة. جمهورها بدأ شاباً، وهكذا تنامى وتوسّع لاحقاً، لأنها صارت في ناظر الكثيرين «ممثّلة الجيل الألفي» حسب تعبير شاع واستقرّ، وأصرّت روني على رفضه لاعتبارات تنطلق أساساً من قراءتها الماركسية لمفهوم الأجيال والعقود والألفيات. وحين فازت «أناس عاديون» بجائزة الروائي الشاب التي تنظمها صحيفة «صنداي تايمز» ثمّ حوّلت الـBBC الرواية ذاتها إلى مسلسل تلفزيوني تابعه 62 مليون مشاهد؛ أصبحت شهرة روني جديرة بالمناقشة ضمن معطى طارئ: أنّ الفنّ الروائي عثر على معادل جماهيري موضوعي فُقد كثيراً ومراراً خلال عقود الحداثة وما بعدها.
لكنّ روني عادت مؤخراً إلى احتلال أعمدة الصحف، وتصدرت الصفحات الثقافية في الولايات المتحدة وأوروبا ودولة الاحتلال الإسرائيلي بصفة خاصة، وهي مناسبة كتابة هذه السطور؛ لسبب آخر مختلف عن الاعتبارات السابقة: أنها رفضت منح دار نشر إسرائيلية حقوق ترجمة روايتها الأخيرة « عالم جميل، أين أنت» إلى اللغة العبرية؛ انطلاقاً من تضامنها مع الشعب الفلسطيني، ويقينها بأنّ الممارسات الإسرائيلية ضدّ الفلسطينيين ترقى إلى الأبارتيد، واستجابة منها لدعوات حركة مقاطعة دولة الاحتلال المعروفة عالمياً باسم الـBDS. وأصدرت روني بياناً قصيراً، بليغاً وجسوراً وأخلاقياً، قالت فيه: «سوف يكون مشرّفاً لي أن تُترجم روايتي الأخيرة إلى العبرية وتتوفّر للقرّاء باللغة العبرية. ولكني اليوم اخترت عدم بيع حقوق الترجمة هذه إلى دار نشر مقرّها إسرائيل». وإذْ أشارت روني إلى تقرير منظمة «هيومان رايتس ووتش» وكذلك تقرير منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية ّبتسليم» تابعت القول بأنّ «النظام الإسرائيلي في الهيمنة العنصرية والتفرقة ضدّ الفلسطينيين يتطابق مع تعريف الأبارتيد وفقاً للقانون الدولي».
ردّ الفعل الإسرائيلي كان سريعاً، ومفهوماً، مع إشارة ضرورية إلى أنه بدأ من القطاع الخاصّ وليس من السلطات الإسرائيلية ذاتها، وفي هذا دليل إضافي على خرافة انفصال (والبعض يساجل: ضعف اتصال) الثقافة الإسرائيلية والاحتلال والاستيطان والممارسات العنصرية.وهكذا سارعت شركتا ستيماتزكي وتزوميت سيفاريم إلى سحب مؤلفات روني من رفوف شبكات التوزيع الورقي، كما عطّلت إمكانية شراء النسخ الإلكترونية من الأعمال؛ وأصدرت الشركة الأولى بياناً قالت فيه إنها «منصّة أدبية وبيت دافئ يحتضن أيّ عمل أدبي ينطوي على حبّ الكلمة المكتوبة. وفور إعلامنا بالموضوع [أي قرار روني بعدم بيع حقوق الترجمة] اتخذنا الخطوة الفورية، وأزلنا الكتب من الموقع». وبالطبع، لا جدوى خلف مساءلة الشركة عن «دفء» احتضانها لأعمال إميل حبيبي ومحمود درويش وتوفيق زياد مثلاً؛ ولا موقفها من كتاب نورمان فنكلستين «صناعة الهولوكوست» أو كتبات نوام شومسكي الناقدة للسياسات الإسرائيلية، في مثالين من الكتّاب اليهود.
اللافت، في المقابل، هو نقل موقف روني، أو نقلها هي شخصياً كاملة غير منقوصة، إلى الميدان الأكثر تفضيلاً لدى أنصار دولة الاحتلال في ستراتيجيات مقارعة الخصوم، أي العداء للسامية؛ التهمة العتيقة التي أكلت دهور عليها فما اهترأت ولا كلّ هواة رفعها أو ملّوا. فإذا رفضت روني بيع حقوقها إلى دار نشر إسرائيلية، وأعلنت في الآن ذاته حرصها على العبرية وقرّائها، فهذا عندهم لا ينفي عنها تهمة العداء للسامية، بل يضيف إليها اشتقاقاً اتهامياً جديداً مستحدثاً: العداء للعبرية! ومن الخير أن تصدر التهمة من وراء المحيط، من الولايات المتحدة تحديداً، ومن الكاتبة اليهودية روث فرنكلين، التي تساءلت عن السبب الذي منع روني من رفض بيع حقوق الترجمة إلى الروسية، تضامناً مع الصحافيين الروس المعارضين؛ أو إلى الصينية، تضامناً مع الإيغور؟ ثم أنهت التساؤل بالجوهر المكنون: «محاكمة إسرائيل طبقاً لمعيار مختلف عن بقية العالم يرقى إلى مستوى العداء للسامية».
يبقى، بالطبع، أنّ روني تنضمّ إلى لائحة طويلة من الكاتبات والكتّاب، جرى ويجري تأثيمهم اتكاء على مَسْخ، خبيث غبيّ بقدر ما هو مكشوف مفضوح، لأيّ نقد يمسّ دولة احتلال عسكري استيطاني عنصري، وتحويله إلى صناعة عداءات؛ شاعت طويلاً بصدد الهولوكوست، وتنتقل اليوم إلى اللغة العبرية. وليست حال روني غريبة عن أحوال أليس ووكر وكاميلا شمسي وت. س. إليوت و… هنريش هاينه!
القدس العربي