سمر يزبك الروائية في الثورة/ بشير البكر
برز اسم سمر يزبك في العام 2011 من خلال كتابات جريئة عن الثورة السورية، ونشرت لها صحيفة “الحياة” مقالات عديدة، نقلت بعض التفاصيل عن حراك ريف دمشق. ولم يكن سهلاً أن يقوم كاتب أو صحافي أو مصور بنقل ما كان يحصل على الأرض في الأشهر الأولى، رغم أن شعار السلمية كان يطغى على ما سواه من شعارات كانت تعلو وتهبط في مدينة دمشق التي تفاعلت على نحو فاجأ النظام والأحزاب والمثقفين، وكانت المفاجأة الكبيرة هي تحرك ريف دمشق، كما لو أن تلك المدن والبلدات والقرى التي صمتت لزمن طويل، اكتشفت مرة واحدة القدرة على الكلام.
اليوم بعد مرور أكثر من عقد على الثورة السورية، نكتشف أن لحظة البداية هي الأكثر أهمية من بين كل الوقفات التي عرفتها الثورة. البداية هي التي أسست لرواية كل طرف عن نفسه، وسط حالة من الارتباك الذي ظهر في ردود كل الأطراف بسبب المفاجأة التي لم يصدقها أحد من الأطراف، لا النظام ولا المعارضة. كان النظام متوتراً ويبحث عن طريق للخروج، بينما سرت حالة من الفرح في الشارع السوري، وظن الناس للحظة أن ساعة الخلاص باتت قريبة، وذهبت الأحلام لتقيس على النهايات في تونس ومصر، هروب زين العابدين بن علي، وتنحي حسني مبارك، ولم يذهب الخيال نحو ليبيا واليمن، رغم أنهما أقرب للحالة السورية على مستوى طبيعة السلطة والحكم.
والسؤال الذي طرح نفسه على الكثيرين من الكتّاب هو: ما العمل؟ وكيف يمكن أن نشارك في هذا الحراك العفوي والتلقائي، والذي لم يكن بفعل أحد من قوى المعارضة التي كانت مرتبكة هي الأخرى؟ من أين يبدأ الكاتب العلاقة مع الثورة؟ كان الممكن الوحيد بالنسبة لكثيرين هو النزول إلى الشارع، وهذا قرار له كلفة كبيرة، يجب أن تتوافر لدى الكاتب القابلية من أجل تحملها. وأول خطوة على الكاتب أن يخطوها هي كيفية بناء الصلة مع الشارع، والدخول إلى إيقاعه. وكانت الكتابات القليلة التي نشرتها سمر يزبك في ذلك الوقت، فعلاً جديداً، يعبّر عن تصرف ذكي وشجاع، وحرّض الكثير من الكتاب والمثقفين والصحافيين على مغادرة التردد والارتباك، والسير خطوة لتجاوز الخطوط الحمر التي رسمها النظام بالدم. تقول في أول مقالة نشرتها في 25 آذار، أي بعد أسبوع من انطلاقة الثورة، وتناولت فيها أول جمعة من الثورة السورية “جمعة العزة” التي خرجت فيها غالبية المدن السورية للتظاهر: “القتلة في كل مكان. الموت في كل مكان.. أي خروج للشارع فرصة للموت”. وتعود إلى العاصمة وهي تعرف أن “هذا المكان لن يعود كما كان، لم يعد الخوف يشبه التنفس، الحياة هنا تغيرت إلى الأبد”. وفي المقال الثاني، في 10 نيسان، عن الجمعة الثانية، تجيب على السؤال الذي يواجه الكاتب: “أنا الآن يعنيني أن لا أكون شيطاناً أخرس، عندما تصير الدماء لغة بين الناس”.
وكانت النتيجة أنها كتبت كتاباً عن هذه التجربة “تقاطع نيران: من يوميات الانتفاضة السورية” صدر عن دار الآداب العام 2012، ولقي اهتماماً واسعاً لأنه صدر والثورة السورية في بداياتها، ولم تكن قد بدأت تجر الكتّاب والصحافيين إلى ميدانها، وكانت اللحظة لا تزال لحظة الأسئلة الكبرى عن الثورة، وبالتالي إن شهادة امرأة كاتبة وروائية انخرطت في تجربة يوميات ميدانية لابد أن تلقى الإهتمام، ولذلك حظي بترجمات سريعة إلى الفرنسية والإنكليزية، وتم تسليط أضواء إعلامية كثيرة على الكاتبة بعضها بقي في نطاق شهادة الكاتب على الحدث، وكانت سمر موفقة هنا، وتمكنت من إيصال فكرتها من دون إنتهازية طبعت الكثير من الأعمال اللاحقة، خصوصاً الروايات الرمادية التي تعاطت مع الحدث، بوصفه عملاً له قراء في الغرب، ويمكن أن يقود للترجمة والشهرة.
ولأن الشهادة عمل ذو طابع خاص ومباشر، فإن الكاتبة لم تسلم من النقد الذي جاءها من النظام والمعارضة معاً. والكل طعن بهذه الشهادة، فالنظام اعتبرها كاذبة، وأوساط المعارضة سجلت عليها أنها كتبت من وراء الحدود، بعدما غادرت سوريا مبكراً، ورحلت إلى باريس لأنها تعرضت للاعتقال والسجن مرات عديدة، وتعرضت للضرب والاهانات والتهديدات والتنديد اللفظي، ولولا أنها لم تكن على قرابة من بعض المؤثرين في النظام لكان مصيرها مثل آلاف السوريات اللواتي تعرضن للاعتقال والتعذيب والاغتصاب وحتى الإخفاء القسري.
ما يستحق التوقف أمامه في هذه التجربة هو أن الكاتبة لم تبنِ على كتابها الأول عملاً روائياً، بل قادها إلى كتاب آخر. فبعد فرارها عادت إلى سوريا، متسللة عبر الحدود التركية ثلاث مرات خلال العامين 2012 و2013، لترى وتوثّق بشكل مباشر ما وصفته بـ”مسرح الدم المروع” في الحرب الأهلية. وأصبحت تلك الرحلات كتابًا آخر “العبور: رحلتي إلى قلب سوريا المحطم”، والذي جمع بين الشهادات العاجلة وتقارير الحرب الموثقة، وهو إلى جانب الكتاب الأول ذو طابع صحافي، رغم أن الكتابين مكتوبين بلغة أقرب إلى الأدب منها إلى الصحافة. واحتاجت يزبك سنوات كي تكتب رواية، وكانت خلال هذه السنوات تبحث عن الثيمة التي تبني عليها عملها الروائي الأول عن الثورة السورية، والذي صدر في العام 2017 تحت عنوان “المشّاءة”، وهي التي قالت في أول مقال نشرته في كتابها الأول “يقولون إن كتابة الرواية تحتاج إلى خيال، وأنا أقول أنها تحتاج إلى واقع أولاً وثانياً وثالثاً، وما نكتبه في رواياتنا هو أقل وحشية مما يحدث على أرض الواقع”. وحين تتحدث عن حصار درعا في ايام الثورة الأولى، تقول: “هناك ليس بعيداً عن دمشق، ساعة فقط في السيارة تكفي لتكون وجهاً لوجه أمام فاجعة تشبه روايات نقرأ عنها، ولا نصدق أنها تحدث على هذا القرب منا”، وربما هذا الرأي هو الذي أخذها نحو مجزرة الكيماوي التي ارتكبها النظام في الغوطة في آب العام 2013، بعدما رددت عدة مرات أنها ستكتب رواية عن “قناص يراقب امرأة تمشي بهدوء في شارع”. الكيماوي أكثر جاذبية روائياً، هو أحد أكبر تجليات الجريمة التي تم ارتكابها بتخطيط واعٍ ومدروس وبعلم وإشراف أطراف عديدة: النظام، إيران، وروسيا.
يبقى أن كتاب “تقاطع نيران” هو الذي أسس لرواية الثورة، ومن غير المستبعد أن تفصّل الكاتبة منه روايات أخرى، فهو حار جداً، وحميمي لجهة تسجيل وقائع ميدانية بالمعايشة عن كثب، ليس بهدف التوثيق والتغطية الصحافية، بل بنوع من حس “المندسة” التي أرادات أن تتغلغل في تفاصيل الأيام الأولى في الحراك الذي شهدته دمشق، قرب الجامع الأموي ومنطقة الصالحية، دوما، حرستا، داريا، التل، وبرزة، ومعاينة سقوط أول القتلى برصاص النظام. انها شهادة وحيدة مكتوبة بصدق ومن دون محاباة، تعكس أمرين مهمين: الاستنفار الكبير الذي قام به النظام، والإصرار الذي واجهه من محافظة دمشق على الثورة. وذهبت الكاتبة أبعد باتجاه بانياس التي صدرت عنها الصورة الشهيرة من مدينة البيضا: معتقلون ممددون على الأرض وأيديهم مربوطة للخلف وعسكر يدوسون عليهم ويصرخون “بدكم حرية؟”، وهناك تعرض تفاصيل حياكة النظام للفتنة الطائفية، وزرع الرعب في نفوس الشارع العلوي في الساحل من هجوم السنة لذبح العلويين. واللافت هو أن النظام حَبَك هذه المسألة، ونجح في ترويجها، حينما لم يكن قد مضى على الثورة شهران بعد. وهي التي اتهمها أصدقاء طفولة وأقارب، بأنها خانت الطائفة، لا تتحرج عن الحديث عن هذه المسألة التي يتحاشى السوريون عنها، وتقول بصراحة أن “غالبية العلويين مع بشار الأسد بعدما تم ترهيبهم من أجهزة الأمن والبعثيين بأن يقتلهم السنة إذا سقط بشار الأسد”. لكنها تقرر أن لا تدفع “ثمن استبداد ووحشية هذا النظام، ولن أخضع لابتزاز ورقة الفتنة الطائفية التي عملوا عليها”.
ولدت الرواية الأولى بعد حوالى أربع سنوات، وربما شقت الدرب أمام عمل روائي آخر يدور حول ثيمة من ثيمات المأساة السوريةـ التي باتت تشكل مادة روائية لا تنفد.
المدن